الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي علَّم بالقلَم، علَّم الإنسانَ ما لم يعلَم، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه،أولُ المعلمين بعثَه اللهُ في الأميِّينَ (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164] صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها الإخوة: ها هو العامُ الدراسيُ على الأبوابِ، وأولُ مظاهره عودة المعلمين والمعلمات إلى دور التربية والتعليم، وهاهم يعدون العُدةَ لتلقي فلذات أكباد الأمة من البنين والبنات، ويسبقونهم لدورِ التربية والتعليم.. وهم إن شاء الله يترقبون البدايةَ برغبةٍ جادةٍ لنفعِ أبناءِ الأمةِ وبناتِها..
والحديثُ عن المعلمِ ومكانتِه حديثٌ هامٌ.. ويجبُ أن يعادَ ويعادَ حتى يتقررَ لدى الأمةِ جمعاء ما لهُ من مكانةٍ وفضلٍ..
ومهمة التعليم يكفي منسوبيها فخراً أن يكون سيدُ المرسلين مُعلماً.. قال الله تعالى عنه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «...إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا» رواه مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه. وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» رواه الترمذي وصححه الألباني. وقال الإمام الغزالي رحمه الله معلقًا على هذا الحديث وكفى به من تعليق: "فَأيُّ منصب أعلى ممَّن تشتغل الملائكة بالاستغفار له"..
وَقال العلماء ومن الفضل الذي يحصل للمعلم أن عمله يمتد بعد بموته ولا ينقطع، بل يتجدد ثوابه بسبب ما قدمه من تعليم أو تصنيف.. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: ومِنْهَا أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ولَقَدْ احْتَفَى أهلُ العلمِ بمعلمِيهم أعظمَ احتفاءٍ فقدْ رُوي "أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْبَلَ يَوْمًا عَلَى بَغْلَةٍ فَقَامَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَخَذَ بِرِكَابِهِ حَتَّى نَزَلَ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.؟ فَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا وكُبَرائِنا..
وقال الإمامُ أبو حَنِيفَة رحمه الله: "ما مَدَدتُ رِجلِي نحوَ دارِ أُستاذِي حمَّاد إجلالًا له، وما صلَّيتُ صلاةً مُنذ ماتَ حمَّاد إلا استغفَرتُ له مع والدَيَّ".
وقال الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله: "كُنتُ أتصفَّحُ الورقَةَ بين يدَي مالِكٍ برِفقٍ لئلا يسمَعَ وَقعَها".
وهذا الإمامُ أحمدُ وَهُوَ مِن تلامِيذِ الإمام الشافعيِّ رحمهما الله، قال ابنُه عبدُ الله: قُلتُ لأبِي: أيُّ رجُلٍ كان الشافعيَّ، فإنِّي سمِعتُك تُكثِرُ مِن الدعاء له؟! فقال: "يا بُنيَّ! كانَ الشافعيُّ كالشمسِ للدنيا، والعافِيةِ للناسِ، فانظُر هل لهَذَين مِن خلَفٍ، أو عنهما مِن عِوَض!".
روى أهُل الأدبِ أن هارونَ الرشيدَ عهد إلى الكسائيِ وقيل إلى الأصمعيِ تعليمَ ابنيه الأمين والمأمون، وأوصاه ألا يدللَهما، وأن يوقفَهما على بابه ليدركا أهميةَ المعلمِ ورهبتَه، وأن يعنفَهما إذا لزمَ الأمرُ، وأوصاه قائلا: أقرئهُما القرآنَ، وعَرْفهُما الأخبارَ، ورَوِهما الأشعارَ، وعلمْهما السننَ، وبصرْهما بمواقعِ الكلامِ وبدئِهِ، وامنعْهُما من الضحكِ إلا في أوقاتِه، ولا تَمُرنَّ بك ساعةٌ إلا وأنت مُغْتَنِمٌ فائدةً تفيدُهما إياها.. وذاتَ يومٍ نَهَضَ المعلمُ لِيْنصَرِفَ، فرَكَضَ الأمينُ والمأمونُ إلى نعلَيه أيهما يحملُهما إكراماً لَهُ، وتقديراً لمكانتِه عندهما، وتسابقا وتشاجرا ثم اتفقا أن يحملَ كلُ واحدٍ منهما وحدةً.! فشكرهما على كمالِ أدبِهما وحُسنِ صنيعهما، وعلمَ أميرُ المؤمنين، أو رأى ذلك فسرَ به، وفي اليومِ التالي، سألَ أميرُ المؤمنين مُعَلِّمَ وَلَدْيهِ مَنْ أعزُّ النّاسِ.؟
فقال المعلم: ومن أعزُ من أميرِ المؤمنين.؟!
فقالَ الرشيدُ: بلْ أعزُّ الناسِ مَنْ يَتَسابقُ وليا عهدِ المؤمنينَ لتقديمِ نعله.. ثم أكرمَ المعلمَ وأثنى عليه وقال: إن المرءَ لا يَكبُرُ عن ثلاثٍ: تواضُعِهِ لسلطانِه، ووالديهِ، ومعلمِه..
وَقَالَ الإمامُ الغزالي رحمَهُ اللهُ مُخاطباً المعلمين والمعلمات ومُبيناً شَرفَ مَقامِهم: لَقَدْ شرَّفَكُم اللهُ بأفضلِ منزلٍ وأجلِ مقامٍ فأنتم تَتَصرفُون في قُلوبِ البَشرِ، ونُفُوسِهم وأشرفُ موجودٍ على الأرضِ جِنْسُ الإِنسِ.. وأَشْرَفُ جُزءٍ من جَواهِرِ الإنسانِ قَلبُه.. والمعلمُ مُشْتَغِلٌ بتكميلِه وتجلِيتِه وتَطهيرِه وسِياقتِه إلى القُربِ مِنْ اللهِ عزَ وجلَ؛ فتعليمُ العلمِ منْ وَجهٍ عِبادةٌ للهِ تعالى.. ومن وجهٍ خِلافةٌ للهِ تعالى.. وهو مِنْ أَجَلِ خِلافةِ الله.. فإنَّ اللهَ تعالى قدْ فَتحَ على قلبِ العالمِ العلمَ الذي هو أَخَصُ صِفاتِهِ.. فهو كالخَازنِ لأَنْفَسِ خَزَائِنِهِ، ثم هُوَ مأذونٌ لَهُ في الإنفاقِ منهُ على كُلِ مُحتاجٍ إليه.. فأيُ رتبةٍ أجلُ منْ كَونِ العبدِ واَسِطةً بينَ ربَهِ سبحانَه وبينَ خَلْقِهِ في تَقْرِيِبهم إلى اللهِ زُلْفَى.. وسِيِاقَتِهم إلى جَنْةِ الـمَأوى.. جعلنا الله منهم بكرمه ووفق المعلمين لكل خيرٍ وأَرشَدَهم.. وبارك الله لنا بالقرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: في كلِ عامٍ وقبلَ عودةِ المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات يطلقُ بعضُ الناسِ تعليقاتٍ مُخَذِلَةٍ وعباراتٍ ساخرةٍ منهم، وأنهم بصددِ البدايةِ بالتعبِ والنَصَبِ، وسلامٌ على الراحةِ، وكفاكم ما استمتعتم به من إجازةٍ وراحة.. وغاب عن هؤلاء أن الهدفَ من الإجازةِ استجمامُ القوي الجاهدةِ بعدَ عامٍ دراسيٍ حافلٍ بالعمل، نتطلعُ بعدها لمزيدِ عطاءٍ وعمل.
حريٌ بأمةِ اقرأ وأتباعِ المعلم الأول الذي كان يُحفزُ ويُعززُ كلَ عملٍ إيجابي يُعزُ الأمةَ ويَعْمُرُ الكونَ أن يكونوا مُحفزين ومُعينين، فينشروا الإيجابيةَ وتقديرَ المعلمِ وينشروا ما صح من الهديِ النبوي وسيرِ السلفِ في تقديرِ العلمِ ومعلميه ومتعلميه ورفعِ مقامهم..
فماذا يريدُ هؤلاء.؟! هل يريدون أن تضلَ الأمةُ في إجازةٍ طوالَ حياتِها.؟ أم يظنون أن السعادةَ بالقعودِ والراحةِ البدنيةِ الدائمة.؟
وهذا لعمر اللهِ ليس لأمة واجبُها قيادةَ العالمِ وهدايتَه.؟ وهل أمةٌ سادت بغيرِ التعلمِ والجدِ والبذلِ والتفاني بالعطاءِ.؟
أيها الإخوة: لا تنقلوا هذه الأقوال، ولا من بابِ الدُعابةِ والتسليةِ وقطعِ الوقتِ.!
والواجبُ علينا نشرَ البشرِ والفرحِ بأيامِ الدراسةِ والتعلمِ والعملِ الجادِ النافعِ للأمة والأفرادِ.. وعلينا أن نطلقَ عباراتِ الترحيبِ والفرحِ والتحفيزِ، وننشرَ في الأمةِ معانَيَ الجدِ والإيجابيةِ والعملِ الجادِ الباني..
فنحن ولله الحمد نرفل بالنعم: أرزاقٌ دارة وخيرات قارة وأمن وأمان ومتع ننهل منها إناء الليل والنهار.. فقد قضى بحمد الله أهل التعليم والتعلم إجازتهم مع أهلهم وأحبتهم بلا صفارات إنذار ولا قصف ولا قتل ولا تدمير ولا خوف ولا حصار ولا تشريد.. فله الحمد والمنة..
لما لا نقول أهلاً بكلِ معلم ومعلمة: أهلاً بحُماةِ الثغورِ، ومربي الأجيالِ، وعُمَّارِ المدارسِ، المستحقينَ لأجرِ الجهادِ، وشكرِ العبادِ والثوابِ من الله يومَ المعاد.. نعم لكلِ واحدٍ منكم من مجتمعِكم تحيةٌ..
تحيةٌ لمن يُنفقُ من مشاعرَه وأحاسيسَه قبل أن ينفقَ من أوقاتِه، وينفقُ من جُهدِه ونَفْسِه أضعافَ ما ينفقُ من تعلِيمِه وتـوجيهاتِه..
تحيةٌ لمن يحاولُ أن يردَ المعوّجَ إلى طريقِه، والمنحرفَ إلى سبيلِه، والنْادَّ إلى جَادتِه، والعاقَ إلى برِّه، والجَافي إلى عَقلِه، والـمُفـرّطَ إلى صوابِه.
تحيةٌ لمن حجزَ لنفسِه في صفّه ومدرستِه مقعداً ليحجزَ لنفسِه في الجنةِ درجتَه. وجعلَ من أولادِ المسلمينَ أولادَه، فغدا عليهم شَفيقاً، وبهم رفيقاً، يسعى لزيادتِهم في العلمِ والأدبِ كمّاً وكيفاً، ويجتهدُ في ذلك شتاءً وصيفاً.
تحيةٌ لمن تعلَّم وعلـم، وقـرأ وأقرأ، وصلح وأصلح، ورَشَدَ وأرشد.. تحيةٌ لمن سكن القرى والهِجَر، وترك المدن واصطحبَ معه النورَ الذي لا يخبو يبدّدُ به الظلام.. ويوقظُ النيامَ، وتتباركُ به الأيام..
تحيةٌ لمن فجّر في حياتنا ينابيع العلم والمعرفة والأدب دفّاقة، وأجرى في صحاري العقولِ أنهارَ الحكمةِ رقراقة..
تحيةٌ وسلامٌ لكل معلم ومعلمة في كل زمانٍ ومكانٍ من بلادِنا وبلاد الإسلام..
أيها المعلم والمعلمة: إن مهمتَك شاقةٌ جداً، ولكنك داعٍ إلى ..لله وإلى المعالي، وحاملٍ للواء من ألوية المسلمين، فالله الله أن يُؤتَى الإسلام من قِبلك، وهنيئاً لك أنك تُعلم الناس الخير…