معركة ملازكرد الخالدة .. أ. شريف عبد العزيز - عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
في منتصف القرن الخامس الهجري ومنتصف القرن الحادي عشر الميلادي كانت المعمورة تموج بمخاض سياسي ضخم يمتد من المشرق إلى المشرق، ولا يترك أمة من الأمم إلا أثر فيها وترك عليها بصماته، فثمة مقدمات لصدام أممي وعالمي يشبه الحروب العالمية بين الشرق والغرب أو الإسلام والنصرانية؛ فالضعف والتفرق قد ضرب بأطنابه في كل الأمم والممالك القديمة الكبرى؛ سواءً إسلامية أو نصرانية؛ فالخلافة العباسية قد وهت بشدة لدرجة أنها وقعت فريسة التسلط الشيعي ممثلاً في الدولة البويهية، وأصبح نفوذ الخليفة لا يجاوز عتبات قصره، فخرجت الأقاليم عن السيطرة ونشأت الدويلات في الأطراف، هذا غير الدولة الفاطمية الخبيثة التي استقلت بالمغرب الإسلامي كله تقريباً وناصبت الخلافة العباسية العداء.
وفي المشرق كانت دولة الإسلام في الأندلس تعاني من التمزق والتفرق الشديد بسبب سياسة ملوك الطوائف التي تشبه لحد كبير السياسات المعاصرة في محالفة أعداء الأمة وفساد ذات البين، مما أدى لتحول ميزان القوى لصالح إسبانيا النصرانية التي قضمت أكثر من نصف دولة الإسلام في الأندلس.
أما الدولة البيزنطية القديمة صاحبة التاريخ الكبير في الصراع ضد العالم الإسلامي والتي ظلت لقرون تلعب دور حامية الصليب والمعبرة عن آمال الشعوب النصرانية في كل مكان، لم تكن بأحسن حالاً من الممالك الإسلامية، فقد ضربها التفكك والتشرذم حتى أن ثمانية قياصرة تعاقبوا على عرشها في أقل من عشرة أعوام، ثم وصلت الخلافات لأعمق مستوى سنة 1053م عندما وقع الانفصال بين الكنيسة الشرقية والغربية والذي عُرف باسم "الانفصال الكبير".
وبالجملة كانت المعمورة في حالة مخاض وتتهيأ لظهور قوة جديدة تحسم الصراع بين طرفين كلاهما ضعيف ومهترأ.
ظهور السلاجقة:
إن لله - عز وجل - سنناً لا تتبدل ولا تتخلف في خلقه وكونه، وفقه هذه السنن من الأمور الهامة في حياة المسلمين أفراداً وأمماً؛ لأن هذه السنن من أهم دعائم بقاء الأمم واستمرارها وتمكنها وظهورها، وهذه السنن لا تعرف جوراً ولا محاباة؛ فهي جارية على خلق الله جميعاً مؤمنهم وكافرهم، فأيما أمة أو جماعة أو أفراد استوفوا شروطها وعملوا بمقتضياتها جرت عليهم السنن وجوداً وعدماً، سالباً وإيجاباً، ومن أعظم هذه السنن سنة الاستبدال التي جعلها الله - عز وجل - لحفظ دينه ونصرة شريعته.
وبعد ضعف الدولة العباسية والدويلات التي خرجت من عباءتها أصبح العالم الإسلامي مهيأ لظهور القوة الجديدة التي ستعيد لأمة الإسلام قوتها وشبابها، وكانت هذه القوة الجديدة: قوة السلاجقة وهي قبائل تركية ظهرت منذ أوائل القرن الخامس الهجري في سهول التركستان، وظلت في تقدم وتوسع وانتشار خاصة عندما آلت قيادة هذه القبائل للسلطان "طغرلبك" الذي وسع نطاق نفوذ السلاجقة وأعلن ولاءه الكامل للخليفة العباسي ولأهل السنة عموماً واتسعت دولة السلاجقة لتشمل خراسان وإيران وبلاد ما وراء النهر كلها.
كان لظهور هذه القوة الجديدة أثرا بعيد على الساحة العالمية خاصة عند القوى المعادية للإسلام وهي ممثلة في الإمبراطورية البيزنطية الصليبية والدولة الفاطمية الشيعية، فكلاهما لا يرغب في قوة جديدة للمسلمين، وبالفعل وقع الصدام بين السلاجقة والبيزنطيين عدة مرات ولكن كانت معركة "أرزن" على حدود أرمينية سنة 450 هجرية وفيها انتصر السلاجقة انتصارا عظيماً ثبت وضع ومكانة السلاجقة على الساحة الدولية وخريطة القوى العالمية.
وفي سنة 455 هـ وصل لسدة حكم السلاجقة البطل "ألب أرسلان" أو الأسد الباسل بالتركية، وكانت له همّة عالية ورغبة كبيرة في توحيد العالم الإسلامي لمواجهة العدو التاريخي؛ الدولة البيزنطية، والعدو الداخلي؛ الدولة الفاطمية العبيدية الخبيثة التي أوهت جسد الأمة الإسلامية كثيراً، فبدأ في سلسلة هجمات جريئة على ثغور الدولة البيزنطية وقد استعان بقبائل التركمان ووجه طاقاتهم القتالية لصالح المسلمين، فأغاروا على هذه الحدود وقاموا بدورهم في إضعاف القوى الدفاعية للدولة البيزنطية، ولكن هذه الغارات المقطعة لم تصرف همة الأسد ألب أرسلان لئن يسدد ضربة موجعة للدولة البيزنطية تنشغل بها حيناً من الدهر ريثما يقوم هو بمشروعه الكبير في فتح الشام ومصر وإسقاط الدولة العبيدية الخبيثة.
توغل ألب أرسلان بجيوشه إلى قلب الأناضول قاصداً مدينة قيصرية الغنية التي فتحها في ربيع الثاني سنة 456 هـ، ثم توجه بعدها إلى أذربيجان ثم إلى أرمينية وبلاد الكرج - جورجيا الآن - ففتحها في أواخر سنة 456 هـ، وبذلك سيطر السلاجقة على أرمينية التي كانت بمثابة الحصن المنيع لبيزنطة من الشرق، وتلقت الدولة البيزنطية ضربة موجعة من الأسد الباسل جعلتها تعيد ترتيب أوراقها وتفكر في تغيير قياداتها وأسلوب معاركها وهذا ما سيظهر أثره في معركة ملازكرد.
ظهور الإمبراطور الطموح:
في تلك الأثناء كانت بيزنطة تبحث عن ضالتها في زعيم شاب قوي وكفؤ وعلى مستوى التحدي، فوجدت ضالتها في القائد العسكري "رومانوس ديوجين" الذي ذاع صيته بعد انتصاراته التي حققها في قتال بيزنطة ضد البشناق في البلقان، فانعقدت عليه الآمال، وحطت عنده الرحال، خاصة بعد ثلاثة انتصارات متتالية حققها "رومانوس"، فتربع إمبراطوراً على بيزنطة وتلقب برومانوس الرابع وأخذ في التحضير لعمل عسكري ضخم ضد المسلمين ينهي بها وجودهم في منطقة آسيا الصغرى والجزيرة وشمال الشام، وبالفعل بعد عدة شهور من توليه العرش البيزنطي بدأ العمل في سد المنافذ التي استخدمها السلاجقة في التدفق على أراضي الإمبراطورية، كما سعى إلى احتلال بعض المواقع الإستراتيجية في بلاد الشام والجزيرة الفراتية، وشن ثلاث حملات ضد إمارة حلب في الشام ثم الجزيرة فاستولى خلالها على مدينة "منبج" ثم قام في الثالثة بالهجوم على أرمينية الإسلامية، فاستولى على كثير من الحصون وشحنها بالمقاتلين واستعد لمعركة حاسمة لم يكن يدرى أنها بالفعل ستكون حاسمة وللأبد ولكن عليه لا له.
معركة ملاز كرد الخالدة:
كان رومانوس الرابع طموحاً لدرجة أنه قد رفع سقف طموحاته لدرجة لم يفكر فيها أحد من قبل؛ ألا وهي الاستيلاء على العالم الإسلامي بأسره وإنهاء الكيان السياسي لدولة الإسلام، من أجل ذلك حشد جيشاً قال عنه المؤرخون أنه الأضخم في تاريخ الصراع بين المسلمين والروم البيزنطيين، بلغ أربعمائة الف مقاتل، كان أغلبهم من المرتزقة وحديثي التنصر مثل القبائل الروسية، والأرمن والجورجيين، هذا غير إمدادات أوروبا الغربية أو الفرنج الذين كانوا يأملون في القضاء نهائياً على العالم الإسلامي.
وصلت الأنباء للسلطان ألب أرسلان وهو في مدينة "خوى" من أعمال أذربيجان فقرر رغم قلة جيشه الزحف باتجاه الجيش الجرار لوقف تقدمه بأرض الإسلام، في حين واصل رومانوس زحفه حتى وصل إلى مدينة ملازكرد (وتنطق أيضا منازجرد ومنازكرد) وهي بلدة حصينة تقع على فرع نهر "مرادسو" بقلب الأناضول وهذه المدينة مازالت موجودة حتى الآن بتركيا.
انطلق الأسد الباسل بمنتهي السرعة مستغلاً خفة حركته لقلة جيشه وذلك لنجدة المدينة المحاصرة وجاءت أول بشارات النصر عندما التقت قوات الاستطلاع المسلمة بطلائع الروم وكانوا من القبائل الروسية فانتصر المسلمون ووقع قائد الروم الروسي "بازيلكوس" في الأسر.
ورغم هذا الانتصار المشجع إلا إن ألب أرسلان الذي كان يقدر مدى الفارق الكبير بين الجيشين أرسل إلى رومانوس يطلب الهدنة ولكن هذا الطلب جعل رومانوس يغتر بكثرته وتفوقه في العدد والعدة ورد على طلب السلطان بالهدنة بأن قال : "لا هدنة إلا في الري"، والري – طهران اليوم - هي عاصمة الدولة السلجوقية، فاستفز هذا الرد المتغطرس حمية السلطان "ألب أرسلان" واستوثق من عزم هذا الصليبي على إبادة الأمة الإسلامية وقرر التصدي له وحده وبمن معه من جنود، على الرغم من التفاوت الشاسع بين الجيشين فالروم البيزنطيون وحلفاؤهم أربعمائة ألف، والمسلمين في خمسة عشر ألف فقط لا غير.
كان من عادة هذا السلطان الصالح أن يصطحب معه في غزواته وحملاته الجهادية العديد من العلماء والفقهاء والزهاد كقيادة روحية ومرجعية دينية، وكان معه في هذه المرة الفقيه الكبير "أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري" الذي قال لألب أرسلان هذه العبارة الرائعة: "إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله - تعالى- قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون الخطباء فيها على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين ".
وبالفعل استجاب الأسد الباسل لهذه النصيحة الغالية التي تشرح بأوجز العبارات أسباب الانتصار المادية والمعنوية، فالمجاهدون يحتاجون تماماً للدعاء مثلما يحتاجون إلى السيف والرمح، وفي يوم الجمعة 7 ذي القعدة 463 هجرية ـ 26 أغسطس 1071 ميلادية قام ألب أرسلان وصلى بالناس وبكى خشوعاً وتأثراً ودعا الله - عز وجل - طويلاً ومرغ وجهه في التراب تذللاً بين يدي الله واستغاث به، ثم لبس كفنه وتحنط وعقد ذنب فرسه بيديه ثم قال للجنود: "من أراد منكم أن يرجع فليرجع فإنه لا سلطان هاهنا إلا الله"، ثم امتطى جواده ونادى بأعلى صوته في أرض المعركة : " إن هزمت فإني لا أرجع أبداً فإن ساحة الحرب تغدو قبري".
وعند الزوال اصطدم الجيشان وألب أرسلان على رأس جيشه يصول ويجول كالأسد الهصور ودارت معركة طاحنة في منتهي العنف حاول البيزنطيون حسم المعركة مبكراً مستغلين كثرتهم العددية الضخمة، ولكن ثبات المسلمين أذهلهم وأنساهم كل المعارك التي خاضوها من قبل حتى أصيب الروم بالتعب والإرهاق وذلك عند غروب الشمس، وشعرت فرق المرتزقة بخطورة الورطة التي أوقعوا فيها أنفسهم بمواجهة أبطال الإسلام، فقرروا الانسحاب والتخلي عن رومانوس الذي حاول التقهقر إلى الخلف قليلاً للراحة ومواصلة القتال في اليوم التالي، وعندها انتهز الأسد الباسل الفرصة وشد بكامل جيشه على البيزنطيين حتى أحدث بصفوفهم المنسحبة ثغرة كبيرة، أنسل منها سلاح الفرسان الإسلامي إلى قلب الجيش البيزنطي، ثم قامت فرق الرماة السلجوقية بإمطارهم بوابل من السهام المميتة فوقعت مقتلة عظيمة وانكشفت صفوف البيزنطيين وركبوا بعضهم بعضاً ووقع في الأسر أعداد كبيرة منهم المتغطرس المغرور نفسه.
وفي صباح اليوم التالي للمعركة أُخذ الأسير رومانوس وكان أول قيصر يقع في أسر المسلمين، إلى معسكر ألب أرسلان أو عرين الأسد، ووقف الفريسة بين يدي الأسد، فأنابه ألب أرسلان على جرائمه وضربه بيده ثلاث مقارع ووضع قدمه على هامته تحقيراً وإذلالاً له، وجعله يقبل الأرض باتجاه بغداد حيث الخليفة العباسي لإظهار عز الإسلام وأهله، ثم قام بالعفو عن رومانوس نظير دفع فدية كبيرة وفك أسر كل الأسرى المسلمين في سائر بلاد الروم وإلزامه بالقسم بأغلظ الأيمان على عدم العودة مرة أخرى لقتال المسلمين.
كانت هزيمة ملاز كرد أفدح خطب نزل بالدولة البيزنطية منذ قيامها حتى أن المؤرخين الأوروبيين قارنوها بمعركة اليرموك الكبرى من حيث الروعة والنتائج والآثار، فقد فتحت هذه المعركة الطريق لتدفق المسلمين في منطقة آسيا الصغرى، وأقام السلاجقة دولة بالأناضول عرفت باسم سلطنة سلاجقة الروم، حيث إن ألب أرسلان بعد المعركة قام بعد المعركة بتعيين ابن عمه "سليمان بن قتلمش" حاكماً على الأراضي المفتوحة بالأناضول، وستلعب هذه السلطنة دوراً هاماً ومحورياً في صدّ الحملات الصليبية الأولى على العالم الإسلامي بعد ذلك بسنوات قليلة.
أما أبرز وأهم وأخطر نتائج هذه المعركة الخالدة؛ تسريع وتيرة إطلاق الحملات الصليبية الشهيرة على بلاد الشام ومصر واحتلال بيت المقدس، بعد أن تأكد للفرنج أو الأوروبيون الغربيون بعدم صلاحية الدولة البيزنطية في مواجهة الطوفان الإسلامي الجديد، فلم تعد حامية الصليب ولا السد المنيع أمام العدو الإسلامي، وقد تجلت محنة بيزنطة في ذهاب قيصر القسطنطينية "ميخائيل السابع" والذي جلس على عرشها بعد وقوع رومانوس في الأسر إلى بابا روما مستنجداً به حتى أنه ركع بين يديه وبكى على ركبتيه، من أجل شن حرباً صليبية على العالم الإسلام.
----------------------------
المراجع والمصادر
البداية والنهاية
الكامل في التاريخ
النجوم الزاهرة
اتعاظ الحنفا
وفيات الأعيان
موقف البيزنطيين والفاطميين من ظهور الأتراك السلاجقة
أطلس تاريخ الإسلام
مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام
تاريخ آل سلجوق