معركة المشاعل: بلاد القوقاز سنية ..أ.شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1439/05/08 - 2018/01/25 12:16PM

في مطلع القرن السادس عشر ميلادي والعاشر الهجري شهد العالم الإسلامي حدثاً استثنائياً كان له أبلغ الأثر على المستوى الإقليمي والدولي ألا وهو ظهور الدولة الصفوية الخبيثة في الهضبة الإيرانية.

 

مثلت هذه الدولة بتوجهها الطائفي القبيح وتعصبها لمذهب الشيعة الاثني عشرية الجعفرية معضلة سياسية ودينية كبيرة للعالم الإسلامي، حيث اتبعت هذه الدولة سياسة التطهير الطائفي البشع بحق أهل السنّة في إيران والعراق حتى أن مؤسسها الشاه إسماعيل الصفوي قتل قرابة المليون سنّي في إيران وحدها ليجبر الناس على التشيع.

 

كما أن طموحات هذه الدولة كانت عالية بدرجة أنها طالبت بزعامة العالم الإسلامي ودخلت في صدام مباشر مع زعيمة العالم الإسلامي وقتها؛ الدولة العثمانية من أجل السيطرة والهيمنة على العالم الإسلامي، ومن ثم فرض التشيع على عموم المسلمين.

 

وابتداء من سنة 1516 م / 920 هـ وحتى سنة 1618 م /1025 هـ، أي لأكثر من قرن من الزمان استمر الصراع بين العثمانيين والصفويين على زعامة العالم الإسلامي والسيطرة على شرق العالم الإسلامي، والذي كانت بلاد القوقاز تمثل أقصى طرفه الشمالي الشرقي، ومن ثم كانت بلاد القوقاز ميداناً للصراع بين الدولتين العثمانية والصفوية حتى حُسم الأمر في نهاية الأمر لصالح العثمانيين، وكانت معركة المشاعل هي كلمة الفصل في هذا الحسم.

 

الحرب العثمانية الصفوية الثانية:

كانت معركة جالديران سنة 920 هـ والتي انتصر فيها السلطان سليم الأول على الشاه إسماعيل الصفوي؛ فاتحة الصراع الطويل بين العثمانيين والعثمانيين، بعدها أصبح من الثوابت العثمانية العسكرية والسياسية لدى خلفاء سليم الأول؛ الصدام مع الصفويين، فسليمان القانوني بن سليم الأول قاد عدة حملات عسكرية على الصفويين بسبب جرائمهم الطائفية بحق أهل السنة، وأطماعهم التوسعية في شرق العالم الإسلامي.

 

فكان سبب الحرب الأولى أيام سليمان هو الخلافات الإقليمية بين الدولتين، ولا سيما عندما قرر والي "بدليس" وهي إحدى الأقاليم العثمانية ذات الكثافة السكاني الكردية وضع نفسه تحت الحماية الفارسية، بجانب قيام الشاه الصفوي طهماسب بقتل محافظ بغداد بتهمة التعاون مع العثمانيين.

 

أما على الصعيد الدبلوماسي دخل الصفويون في مناقشات مع هابسبورج (الأسرة الحاكمة في النمسا) لتشكيل الحلف الهابسبرج، الفارسي الذي من شأنه أن يهاجم الإمبراطورية العثمانية على جبهتين.

 

هاجم العثمانيون بلاد العراق الواقعة تحت الاحتلال الصفوي تحت قيادة الصدر الأعظم إبراهيم باشا، ثم انضم إليه سليمان نفسه، واستعادوا "بدليس"، وشرعوا في الهجوم تبريز ومن ثم بغداد.

 

ظل طهماسب يراوغ القوات العثمانية وهو يتراجع أمامها، باعتماد استراتيجية الأرض المحروقة.

 

استمرت الحرب بين سليمان وطهماسب قرابة العشرين سنة أمن العثمانيون مكاسبهم الإقليمية عن طريق توقيع معاهدة أماسيا سنة 1555.

 

وأخذ العثمانيون بغداد بلاد ما بين النهرين أرمينيا الغربية، جورجيا الغربية، نهري دجلة والفرات، وجزء من ساحل الخليج الفارسي.

 

احتفظت بلاد فارس ببقية الأراضي في شمال غرب القوقاز.

 

بعد الحرب العثمانية الصفوية الثانية والتي انتهت بمعاهدة أماسيا، وصلت الدولتان لحدود معتبرة ودخلتا في فترة صلح طويلة نسبياً.

 

خلال ذلك حرص الشاه طهماسب الأول العاهل الفارسي على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع العاهل العثماني متمثلاً في السلطان سليم الثاني وولده مراد الثالث عبر إرسال هدايا ثمينة لتأمين استمرار الصلح.

 

لكن الشاه طهماسب توفي بعد فترة قصيرة من تولي السلطان مراد عرش الدولة العثمانية حتى أن سفيراً للشاه الذي كان قد ذهب محملاً بالهدايا للسلطان مراد كان لا يزال في إسطنبول.

 

بعد وفاة الشاه طهماسب فقدت الدولة الصفوية استقرارها، وحدث نزاع على العرش بين أبناء طهماسب حسمه ابنه الكبير "إسماعيل"، وحدثت في عهد الأخير توترات حدودية مع العثمانيين، متجاوزاً سياسة والده التي طبقها بصرامة بعد معاهدة أماسيا والتي عملت على الحفاظ على حُسن العلاقات مع العثمانيين.

 

كان الديوان العثماني منقسماً، رأى كثير من الوزراء استغلال الأحداث وإعلان الحرب على الصفويين والقضاء على هذه الدولة التي مثلت أزمة للعالم الإسلامي عامة، والدولة العثمانية خاصة، وتزعم هذا الرأي لالا مصطفى باشا الوزير الثالث وفاتح قبرص، ولكن عارضه الصدر الأعظم محمد الصقلي باشا، وكان من أقدر وأعظم وزراء بني عثمان، وحاول جهده في منع الحرب، ذلك أنه كان يرى أن مثل هذه الحرب ستستنزف الدولة العثمانية جدياً، كما أنهم يدخلونها دون استراتيجية أو هدف حقيقي.

 

الحرب العثمانية الصفوية الثالثة:

لم يستطع محمد باشا في النهاية منع الحرب خصوصاً مع إقناع الوزراء للسلطان مراد بها وتحمس الأخير لها، أعلنت في النهاية الحرب على الدولة الصفوية وعٌيّنَ لالا مصطفى باشا كقائد عام للحملة وبمعيته عثمان بن أوزديمير باشا.

 

الهدف المعلن للحملة استعادة بلاد القوقاز من الاحتلال الصفوي وعودتها إلى نطاقها السنّي كما كانت من قبل احتلال الصفويين لها.

 

القوقاز أو القفقاز أو القفقاس أو بلاد القَبْق منطقة جغرافية سياسية تقع عند حدود أوروبا وآسيا، وهي موطن جبال القوقاز، بما فيها أعلى جبل في أوروبا، جبل ألبروز.

 

وغالباً ما يقسم القوقاز إلى القوقاز الجنوبي والقوقاز الشمالي.

 

ضمت ممالك ما وراء القوقاز القديمة أرمينيا، ألبانيا من بين ممالك أخرى.

 

تم ضم هذه الممالك لاحقاً إلى إمبراطوريات إيرانية متنوعة.

 

وبحلول ذلك الوقت أصبحت المجوسية الديانة المسيطرة في المنطقة؛ بينما أقام شمالي القوقاز علاقات صداقة وتجارة مع الامبراطورية البيزنطي.

 

ثم ما لبث أن أسلم القسم الشرقي من شمالي القوقاز على يد التجار المسلمين على عهد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بعد أن توقفت الفتوحات التي أرسلها الخليفة عمر عند باب الأبواب.

 

وفي حين اسلم النبلاء باكرا في القسم الغربي إلا أن إسلام السكان تأخر حتى البعثات العثمانية، وصار القوقازيون الشماليون يدينون لخليفة المسلمين بالولاء كزعيم روحي لهم.

 

احتفظ العثمانيون بتفوقهم طوال أحداث الحرب تقريباً.

 

وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهوها، لكنهم كانوا قادرين على الاحتفاظ بفتوحاتهم في أذربيجان، كنجه، تبريز والسيطرة التامة على نهر آراس وحتى بحر قزوين.

 

تم تعيين عثمان بن أوزديمير باشا "ابن أوزدمير باشا" كحاكم للأراضي المنضمة للعثمانيين حديثا تقديراً لدوره العسكري الكبير في نجاح الحملة وإنقاذه لجيش لالا مصطفى باشا من الفناء في معركة شماخه الأولى سنة 1578 م / 985هـ.

 

تم اتخاذ دربند عاصمة للمقاطعة الجديدة على ساحل بحر قزوين.

 

ومع ذلك، بعد عودة الجيش العثماني إلى قاعدته الرئيسية في اسطنبول، بدأ الفرس تحت قيادة إمام كولى في محاولة استعادة بعض من أراضيها السابقة.

 

وعلى الرغم من إرسال جيشا من خانية القرم التي كانت تابعة للعثمانيين تحت قيادة محمد كراي إلى القوقاز في صيف 1579 كتعزيز، لكنهم عادوا إلى القرم في الخريف، وتركوا عثمان باشا وحده.

 

ونتيجة لذلك، كان عثمان باشا قرر التراجع إلى شمال القوقاز في 1582، أرسل الباب العالي العثماني قوة التسليح الثانية تحت قيادة جعفر باشا، حاكم كافا "اوكرانيا حاليا"، لاستعادة الهيمنة العثمانية في المنطقة.

 

معركة المشاعل:

استعد الفرس للدفاع عن الوضع السياسي الجديد، وقرروا الدفع بقوات كبيرة من أجل الحفاظ على بلاد القوقاز، فحشدوا خمسين ألف جندي صفوي إضافة إلى مثلهم من الجنود الجورجيين الذين جاؤوا للدفاع عن الصفويين رغم اختلاف الملل، عهد الصفويون بقيادة هذا التحالف الصفوي الجورجي لأمهر قادتهم "إمام كولو".

 

تجهز الحلف الصفوي الجورجي للهجوم مرة أخرى في ربيع عام 1583.

 

وفي الاشتباك الأول من قبل وحدات طليعة كلا من الجيشين هزم العثمانيون في 25 أبريل 1583.

 

ثم وقع الاشتباك الرئيسي في باشتيب بالقرب دربند (باب الأبواب) في 9 مايو 1583.

 

نظم العثمانيون أنفسهم جيداً، فكان أمهر قادتهم وقائد الحملة بأسرها؛ عثمان باشا في المنتصف، وكان جعفر باشا في الجهة اليسرى وكان حيدر باشا محافظ سيواس في الجهة اليمنى.

 

أما على الجانب الفارسي، كان إمام كولو في المنتصف، وكان رستم خان في الجهة اليمنى وبرهان الدين في اليسار.

 

وكانت نتيجة المعركة غير حاسمة في نهاية اليوم الأول، ولكن استمرت المعركة أثناء الليل، فقام كلا الجانبين باستخدام المشاعل.

 

استمر القتال بين الجانبين طيلة ثلاثة أيام متواصلة، ليلاً ونهاراً حتى خارت القوى، ولم يعد لدى الجانبين قوة تذكر، وعندها قرر القائد العثماني استغلال هذا الإنهاك، ووضع خطة هجوم كاسحة ترتكز على الهجوم على قلب الجيش الفارسي، وأسر القيادة العامة للجيش الصفوي، وقد نجحت الخطة بصورة مذهلة، حيث وقع جميع قادة الصفويين بجانب ثلاثة آلاف جندي صفوي في الأسر، بعد فرار الجانب الجورجي من أرض المعركة وتعادل الكفتين في الحرب، وكانت هزيمة ساحقة ذات آثار سياسية واستراتيجية هامة.

 

فقد تمكنت الدولة العثمانية بعد هذا الانتصار من فرض كامل سيطرتها على بلاد القوقاز، مما اعطى دعماً معنوياً كبيراً للجيوش العثمانية التي كانت تقاتل الصفويين في الجنوب، فتمكنوا من فتح تبريز عاصمة الصفويين القديمة.

 

وأجبرت الدولة الصفوية على توقيع معاهدة القسطنطينية أو فرحات باشا نسبة لواضع شروطها بعد انتصار المشاعل بأسبوعين فقط.

 

وفقا للمعاهدة أبقت الدولة العثمانية مكاسبها من الحرب ضم معظم جنوب القوقاز، فضلا عن تبريز وشمال غرب إيران, ووافق الفرس كذلك على الخضوع للقيادة الدينية للعثمانيين ووقف سب رموز الإسلام السني في إيران.

 

وبذلك يكون الصفويون قد أذعنوا لأول مرة للدولة العثمانية وأقروا للسلطان العثماني مراد الثالث بخلافته للمسلمين في كل مكان، وهذا ما لم يحدث من قبل ولا من بعد مع أي سلطان أو ملك مسلم عبر العصور.

المشاهدات 643 | التعليقات 0