معايير اختيار موضوع خطبة الجمعة أ.د. إسماعيل علي محمد
الفريق العلمي
لإعداد الخطبة وتكوينها مراحل تمر بها، حتى تستويَ على عودها، وتصل إلى مرحلة الإلقاء على الجمهور، وهذه المراحل قد تتكون بروية ومهل، وتجهيز وتهيئة، وفي إمعان وتفكير، كما هو الحال في الإعداد والتحضير، وإما أن لا تستغرق هذه المراحل وقتًا، ولا يتاح لها فرصة الإعداد والتهيئة، فتتكون في سرعة حالَ وجود ما يدعو إلى الخطبة، كما هو الشأن في الخطب الارتجالية.
ونقطة البداية في تكوين أية خطبة لا بد أن تنطلق من اختيار الموضوع، وتحديد القضية أو المشكلة التي سيتحدث فيها الخطيب.
وبعد أن يستقر الخطيب على اختيار الموضوع، يبدأ في إعمال فكره، وتقليب رأيه في جوانب الموضوع المختار، ويأخذ في رسم معالمه، ووضع الخطوط العريضة له وتحديد الأفكار الرئيسة، وما يندرج تحتها من أفكار فرعية، وهذه مرحلة تقسيم الموضوع إلى عناصر.
ثم إن الخطيب بحاجة إلى خدمة هذه العناصر وتدعيمها بالمادة العلمية، والأدلة المناسبة، حتى لا يقول كلامًا مرسلًا يفتقر إلى الحجة، ومن هنا تجيء المرحلة الثالثة، وهي مرحلة إعداد المادة وجمع الأدلة العلمية.
وبعد هذا يراجع الخطيب ما جمعه من مادة ويجعل كل دليل في موقع الفكرة التي يخدمها، ثم ينسق الخطبة ويحدد أجزاءها وما يتضمنه كلُّ جزء من أفكار وأدلة، وهذه هي مرحلة التنسيق.
معايير اختيار موضوع خطبة الجمعة:
وهذه بداية المراحل لتكوين الخطبة، وربما يُظَن للوهلة الأولى بأنها مرحلة لا تحتاج إلى كبير جهد، أو أنها أيسر المراحل؛ ولكن بالنظرة المتأنية، يتبين أن الأمر خلاف ذلك، وأنها مرحلة تحتاج إلى عناية فائقة، وجهد كبير، كي يكون الموضوع جديرًا بما سيُبذَل فيه من جهود بعد ذلك، حتى يصل إلى مرحلة التعبير والصوغ الخطابي.
واختيار الموضوع لا يتم عفويًا، كيفما اتفق، ولكن يجب على الخطيب أن يعلم أنه ليس كل موضوع يخطر بباله يكون أهلًا لأن يخطب فيه.
ومن هنا يجدر بالخطيب الداعية عند اختيار موضوع خطبته أن يراعي أمورًا، منها:
1- أن يكون الموضوع مناسبًا لأحوال المستمعين وبيئتهم، ومراعيا للمشكلات التي تشغلهم، وتكون محلَّ اهتمامهم، وأن يكون مناسبًا لمستوى عقولهم وتفكيرهم.
وهذا يتطلب من الخطيب أن يكون على إلمام بواقع الجمهور والبيئة، كي يتمكن من اختيار الموضوع الذي يكون مناسبًا لهم، ومرتبطًا بحياتهم وواقعهم.
ولا يكفي أن الموضوع ينال إعجاب الخطيب، ويحوز اهتمامه، فقد يكون كذلك؛ ولكنه لا يناسب المخاطبين.
فمثلًا: الحديث عن الإنفاق وإيتاء الزكاة أمر مهم، لكنه لا يكون الأنسبَ إذا ألقاه الخطيب على قوم فقراء معدمين، لا يكادون يجدون قوت يومهم، وكان الأولى أن يحدثهم عن الأخذ بالأسباب، والعمل والجدّ في تحصيل الرزق، والأمل في الله تعالى بأن يجعل من بعد عسر يسرًا.
والحديث عن الرجاء في عفو الله تعالى، وسَعة رحمته سبحانه ومغفرته، أمر في غاية الأهمية، ولكنه لا يكون مناسبًا حين يوجَّه إلى ملأ من المقصرين، المهمِلين في أداء الطاعات والعبادات، قاسية قلوبهم، متحجرة عن البكاء من خشية الله عيونهم، والأنسب أن يلهب الخطيب ظهورهم بسوط الخوف من عذاب الله وعقابه، وبطشه وانتقامه، وعن سوء مآل المقصرين والمذنبين.
2- أن يكون الموضوع بعيدًا عن إثارة الخلاف بين المسلمين، فعلى الخطيب أن يعلم أنه مُجَمِّع لا مُفرِّق، وموحِّد للصفوف لا مُشتّت.
لذا يجب أن يحرص الحرص كلَّه على أن تخلوَ خطبته من أي إثارة للفتنة والفُرقة بين المسلمين، مثْل أن يتبنى رأيا فقهيا معينا في قضية خلافية، ويتعصبَ له، ويذمَّ مخالفيه وينال منهم، ما يجعل الموقف مشحونًا بين الفريق المؤيد والمعارض، وهذا بدوره يؤدي إلى تنافر وتنازع، وتدابر وتخاصم بين المسلمين، وكذلك ينبغي أن تخلو الخطبة من إثارة صراع قد خمد بين فريقين في الحي أو في القرية أو البلدة، فتقوم الفتنة وترفع رأسها من جديد، وقد نامت، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها (1).
يوجد بعض الخطباء لا يراعون هذا الأمر؛ فترى أحدهم يجعل خطبته حول ضرورة التمسك بقول: « سيدنا محمد »، عند قول المؤذّن في الأذان: " أشهد أن محمدًا رسول الله "، وآخرَ لا يتبنى إلا الموضوعات الفرعيةَ التي تثير اختلافًا وفرقة، مثل التحدث عن حرمة التصوير الفوتوغرافي الذي هو عبارة عن حبس ظل الشيء، وثالثًا يركز في خطَبه على الخلافات الفقهية، ويحمل بشدة على من لا يوافقه؛ كالحديث - بتعصّب مذموم - عن وجوب ستر الوجه والكفين للمرأة، أو عدم وجوب ذلك.. وهكذا.
3- أن يعالِج الموضوع أمرًا مُعتبَرا في ميزان الشريعة الإسلامية، ويعود على المسلمين بالنفع.
فلا يحسن من الخطيب أن يعمَد إلى اختيار موضوعات بعيدة عن دائرة اهتمام الشرع، ولا هي مما ينبني عليه عمل، بل أحيانا تكون عارية تمامًا عن أي نفع لجمهور المسلمين.
حدث أن خطب أحد الخطباء، وكان موضوع الخطبة -في نظري- عجبًا، وهو أن والدَي النبي صلى الله عليه وسلم في النار -بزعم الخطيب- وأن هذا أمر لا شك فيه، وأخذ يحشد الأدلة والبراهين على أنهما من أصحاب النار!!
مع أن هذه مسألة -فيما أرى- العلمُ بها لا ينفع، والجهلُ بها لا يضر. كما أنها ليست من فرائض الإسلام ولا من سننه، ولم يتعبدنا الله عز وجل بمعرفتها. فضلًا عن أن الأدلة التي يتشدق بها هؤلاء المساكينُ ليست قطعية الدلالة، وكلُّها يتطرق إليها الاحتمال، وهي ساقطة بما يَنقضها ويُبطلها. ثم إن هذه المسألةَ ليست مما أجمعت عليه الأمة.
ومع هذا يقف أحدهم ليقول بملء شدقيه: « إنهما في النار، وإن كان هذا يحزننا »!!
ولست أدري لم هذا الإصرار على الحكم بأنهما في النار، والانشغال بهذا الأمر وإشغال المسلمين به؟!
وقد كان أولى بهؤلاء النفر أن ينشغلوا بالمسلمين الذين يهوون في النار، ويندفعون إليها بمعاصيهم، وأن يفكروا في كيفية استنقاذهم منها، ومن الغزو الفكري الذي يوردهم مواردها، ويريد أن يجتالهم عن دينهم.
ونحن نسأل هذا الخطيب وأمثاله ممن يثيرون هذه الموضوعات: بربك ماذا يستفيد المسلمون من هذا الموضوع وأمثاله في معاشهم ومعادهم؟!
4- وعند اختيار الموضوع يفضّل مراعاة المناسبة الزمنية، وأن لا يكون بعيدا عنها، فلا يحسن مثلًا أن تكون المناسبة غزوة بدر، ثم يختارَ الخطيب موضوعه عن الإسراء والمعراج.
ومما يتصل بهذا الأمر؛ أن يلاحظ الخطيب الأحداث الآنيّة والوقتية، والوقائع الجارية المعاصرة، ويحاولَ توظيفها، ويستخلص منها الموضوعات لخطبه، بما يعود على المستمعين بالفائدة.
فهناك أحداث كثيرة تقع، وهي تحمل في طياتها عبرًا بالغة، ودروسًا نافعة، ويستطيع الخطيب بملاحظتها ودقة تأملها؛ أن يهتدي إليها، ويفيد منها جمهوره، مثلما يفعل مع حوادث التاريخ الماضية.
حدث ذات مرة أن كنت ذاهبًا لصلاة الجمعة وقرأت في صحف الصباح يومها أن زلزالًا عنيفًا ضرب إحدى المناطق في إيران - وكان هذا في أول التسعينيات من القرن العشرين -، وراح ضحيتَه ما يزيد على مائة ألف نسمة، وقد جاء في الخبر أن الناس لقوا حتفهم بينما كان عاكفين على متابعة مباراة لكرة القدم في التلفزيون، وأذكر أنني جعلت هذا الحدَثَ موضوعَ الخطبة الثانية للجمعة يومها، وذكرتُ للناس كيف أن الموت يداهم الإنسان في أي وقت، فلنستعد، وأن الإنسان عليه أن يبتعد عن المعاصي، فربما جاءه الموت وهو متلبس بالمعصية، وساعتها سيلقى الله وهو على شرّ حال، وفرْقٌ بين إنسان يأتيه الموت وهو عاكف على طاعة الله، وبين آخر يداهمه الموت وهو غارق في لهوه وغفلته، فليشمِّر المسلم عن ساعد الجِد، وليبادر بالتوبة إلى الله وعمل الصالحات، ويترك التسويف، فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.
وأخيرًا ننصح الخطيب بأن يفكر جيدًا في تحضير موضوعه، وأن يحدده بعناية قبل مدة كافية من إلقائه، وإذا ضربنا مثلًا بخطبة الجمعة؛ فلا يؤجل اختيار الموضوع إلى نهاية الأسبوع، أي حتى يدخل عليه يومُ الجمعة، ولكن في مطلع الأسبوع، قبل يوم الجمعة بستة أيام أو خمسة على الأقل، حتى يتاح له أن يدرسه من جميع جوانبه، وأن يأخذ بجميع الأسباب التي تثري الخطبةَ ذاتَ الموضوع المقترح، وينشغل به طيلة الأسبوع حتى يأتيَ موعد إلقائه وقد استوى على سوقه كأحسن ما يكون.
--------------
[1] إرشادات عامة لتحسين خطبة الجمعة. د/محمد عبد القادر أبو فارس. ص34 بتصرف. دار الفرقان، عمان، الأردن.
المصدر: الألوكة