معالم في الفتن-28-6-1436هـ-عبدالله اليابس-الملتقى-بتصرف

محمد بن سامر
1436/06/28 - 2015/04/17 04:50AM
[align=justify][align=justify][align=justify]إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الأخُ المباركُ، قلبْ النظرَ فيما حولَك من البلدانِ, اِرجعِ البصرَ هُنا وهُناك, أممٌ تتخطفُها الفتنُ, ويعبثُ بها الخوفُ والجوعُ, وأخرى تَعُمُّها الفوضى, وتتعطلُ بها الحياةُ, وثالثةٌ جثمَ عليها شبحُ الفقرِ, ورابعةٌ وخامسةٌ, ثم انظرْ في حالِنا واشكرِ اللهَ على نعمهِ, [أوَلمْ يروا أنَّا جعلْنا حرمًا آمنا ويُتَخَطفُ الناسُ من حولِهم أفبالباطلِ يؤمنونَ وبنعمةِ اللهِ يكفرونَ].
إخواني الكرام: إننا و لا شك لسنا بمأمنٍ أن يصيبَنا ما أصابَ الأممَ من حولِنا, وهذه الفتنُ سواءٌ أكانت داخليةً أو خارجيةً لها تعاملٌ خاصٌ ليس كحالِ السَعةِ والأمنِ, ففي أزمانِ الفتنِ يصبحُ الحليمُ حيرانًا, وتنقلبُ المفاهيمُ, وهذه خطواتٌ عمليةٌ للتعاملِ مع الفتنِ:
إِنَّ أولَ ما ينبغي للمسلمِ أنْ يلجأَ إليه قبلَ وقوعِ الفتنِ وبعدَه هو الاعتصامُ بالكتابِ والسنةِ, [ومَنْ يعتصمْ باللهِ فقد هُديَ إلى صراطٍ مستقيمٍ]، ويقولُ النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلِه وسلمَ-: "تركتُ فيكم شيئينِ لنْ تَضلوا بعدَهما: كتابَ اللهِ وسنتي، ولنْ يتفرقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوضَ".
التمسكُ بالوحيينِ عِصمةٌ مِنَ الزللِ، وأمانٌ-بإذنِ اللهِ-مِنَ الضلالِ, وليس الاعتصامُ بهما كلمةً تُقالُ مِنْ غيرِ أَنْ يكونَ لها رصيدٌ في الواقعِ, وإنما هي عملٌ، واتباعٌ في جميعِ ما يأتيه الإنسانُ ويذرُه, ويعظمُ هذا الأمرُ حالَ الفتنِ؛ إذْ يجبُ الرجوعُ فيها إلى هدايةِ الوحيينِ؛ لكي نجدَ المخرجَ والسلامةَ منها.
ومما ينبغي للإنسانِ في التعاملِ مع الفتنِ: التوبةُ النصوحُ؛ فهي واجبةٌ في كلِّ وقتٍ، وهي في هذه الأوقاتِ أوجبُ، [فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا], فعلى الأمةِ: أنْ تتوبَ، وأنْ تُدركَ أنَّ ما أصابَها إنما هو جارٍ على مقتضى سُننِ اللهِ التي لا تحابي أحدًا كائنًا منْ كانَ؛ والاصرارُ على عصيانِ اللهِ بلا توبةٍ مُؤْذنٌ باللعنةِ، وحلولِ العقوبةِ.
وعلى كلِّ فردٍ منا أنْ ينظرَ في حالِه مع ربِه، وفي جميعِ شؤونِه؛ لأنَّ [مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ].
ومِنْ معالمِ التعاملِ مع الفتنِ: النظرُ في التاريخِ, فإنَّ التاريخَ يُعيدُ نفسَه, وفي التاريخِ عبرةٌ, فلو نظرتَ في كتبِ التاريخِ التي تحدثت عن غزوِ التتارِ لبلادِ المسلمينَ، وكيف كانتْ شراسةُ تلك الهجمةِ، وكيف خالطَ النفوسَ من الرعبِ والأوجالِ ما خالَطها، وكيف بلغَ ببعضِها اليأسُ مِنْ أنْ تقومَ للإسلامِ قائمةٌ بعدَ ذلك, ثم كشفَ اللهُ الغمةَ، وأعادَ العزَّ والمجدَ للأمةِ.
الحياةُ كلُّها تجارِبٌ، واستفادةٌ من التجارِبِ، وميزةٌ إنسانٍ على إنسانٍ، وأمةٍ على أمةٍ هي القدرةُ على الاستفادةِ منَ التجارِبِ وعدمُها؛ وجميلٌ وحسنٌ أنْ ننظرَ إلى تعاملِ أسلافِنا-رحمهم اللهُ-مع ما مرَ بهم مِنَ البلايا والفتنِ، وكيف تجاوزوها، فنقتديَ بهديِهم، ونهتديَ بصنعِهم.
ومِنْ معالمِ التعاملِ مع الفتنِ: الثقةُ باللهِ، واليقينُ بأنَّ العاقبةَ للتقوى والمتقينَ: فإنَّ من أهمِ ما يجبُ على المؤمنِ أنْ يُقَوِّيَ ثقتَه بربِه، فهناك مَنْ إذا شاهدَ ما عليه المسلمونَ من الضعفِ والتمزقِ والتشتتِ والتفرقِ، ورأى تسلطَ أعدائِهم عليهم، ونكايتِهم بهم يئسَ من نصرِ اللهِ، وقنِطَ من عزِ الإسلامِ، واستبعدَ أنْ تقومَ للمسلمينَ قائمةٌ، وهذا الأمرُ مما يصيبُ النفوسَ الضعيفةَ، التي قلَّ إيمانُها، وضَعُفُ يقينُها، وتأملْ في حالِ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلِه وسلمَ-وحالِ أصحابِه-رضي اللهُ عنهم-ففي البدايةِ كانوا أمةً مستضعفةً, يمر الحبيبُ-صلى الله عليه وآله وسلم-في مكةَ بعمارِ بنِ ياسرٍ وأبيه وأمِه وهم يعذبونَ فلا يملكُ إلا أنْ يقولَ: "صبرًا آلَ ياسرٍ فإنَّ موعدَكم الجنةُ", ويصلي عندَ الكعبةِ فيأتي أحدُهم ويلقي سلا الجزورِ على جسدِه الطاهرِ, وما هي إلا سنواتٌ قليلةٌ وتدخلُ مكةُ في دينِ اللهِ وتحت حكم رسولِ اللهِ-عليه وآله الصلاةُ والسلامُ-, ويسقطُ عرشُ فارسَ والرومَ بأيدي المسلمينَ, فالثقةُ باللهِ وحدَه سلاحٌ عظيمٌ, واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
ومما ينبغي حالَ الفتنِ: نُصرةُ المظلومينَ وخاصةً المسلمينَ: بالدعاءِ، والتثبيتِ، والتصبيرِ، وبذلِ ما يُستطاعُ، حتى يرفعَ اللهُ ما أصابَهم, فنحنُ المسلمونَ جسدٌ واحدٌ, لا تفرقُ بيننا حدودٌ ولا لغاتٌ وأعراقٌ, يجمعنا ربٌ واحدٌ، ورسولٌ واحدٌ، ودينٌ واحدٌ, وكتابٌ واحدٌ, وقبلةٌ واحدةٌ, وفي الحديث: "مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثلُ الجسدِ؛ إذا اشتكَى منه عضوٌ ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى".
ومما ينبغي أيضًا لزومُ الاعتدالِ في جميعِ الأحوالِ: فينبغي ألا يفارقَنا هدوؤُنا وسكينتُنا ومروآتُنا؛ فذلك خُلُقُ المؤمنِ الحقِ دائمًا، لا تُبْطِره النعمةُ، ولا تُقَنِّطُه المصيبةُ، ولا يفقدُ صوابَه عندَ النوازلِ، ولا يتعدى حدودَ الشرعِ في أيِّ شأنٍ من الشؤونِ.
ويتأكدُ هذا الأدبُ في حقِ منْ كانَ رأسًا مطاعًا في العلمِ، أو القَدْرِ، قال عبدُالعزيزِ بنُ زرارةَ الكِلابِي-رحمه الله-وهو من خيارِ المجاهدينَ منَ التابعينَ:
قدْ عشتُ في الدهرِ أطوارًا على طُرُقٍ
شتى فصادفتُ منها الزَّيْنَ والبَشِعَا
كُلاً بلوتُ فلا النَّعماءُ تُبْطِرُني ولا تَخَشَّعْتُ من لأوائِها جَزَعَا
لا يملأُ الهولُ قلبي قبلَ وقْعتِه
ولا أَضيقُ به ذَرْعًا إذا وقعَا
فإذا لزمَ الإنسانُ هذه الطريقةَ؛ فلمْ يَخِفَّ عند السراءِ، ولمْ يضعفْ حالَ الضراءِ، فهو أهلٌ أنْ يعلوَ قدرُه، ويتناهى سؤددُه، وأنْ تنالَ الأمةُ من خيرِه.
[/align]
[align=justify]
الخطبة الثانية
وبعد: فإنَّ منْ معالمِ التعاملِ مع الفتن أيضًا: الحرصُ على جمعِ الكلمةِ وتوحيدِ الصفِ: فالأمةُ مثخنةٌ بالجراحِ، وليست بحاجةٍ إلى مزيدٍ, وتحتاجُ إلى إشاعةِ روحِ الاجتماعِ والمودةِ والرحمةِ، ونيلِ رضا اللهِ بترِك التفرقِ ونبذِ الخلافِ، وذلك يتحققُ بسلامةِ الصدرِ للناسِ، ومحبةِ الخيرِ لهم، والصفحِ عنهم؛ والتجاوزِ عن زلاتِهم، والتماسِ المعاذيرِ لهم، وإحسانِ الظنِّ بهم، ومراعاةِ حقوقِهم، ونصحِهم بالتي هي أرفقُ وأحسنُ, [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا].
ومنْ معالمِ التعاملِ مع الفتنِ: التثبتُ مما يقالُ، والنظرُ في جدوى نشرِه وفائِدتِه، والحرصُ على ردِّ الأمورِ إلى أهلِها, خصوصًا في زمنِ سرعةِ انتشارِ المعلومةِ، بالتقنياتِ الحديثة، ووسائلِ التواصلِ الاجتماعيِ: فالعاقلُ اللبيبُ لا يتكلمُ في شيءٍ إلا إذا تثبَّتَ من صحتِه؛ فإذا ثبتَ لديِه ذلك نَظَرَ في جدوى نشرِه؛ فإنْ كانَ في نشرِه حثٌ على الخيرِ واجتماعٌ عليه نشرَه، وإن كان خلافَ ذلك أعرضَ عنه، وطواه.
ولقدْ جاءَ النهيُ الصريحُ عنْ أنْ يُحَدِّثَ الإنسانُ بكلِّ ما سمعَ, قال الرسولُ-صلى الله عليه وآله وسلم-في الحديثِ الصحيحِ: "كفى بالمرءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكلِّ ما سمعَ"، وقال عبدُالرحمنِ بنُ مهدي-رحمه الله-: "لا يكونُ الرجلُ إمامًا يُقتدى به حتى يمُسكَ عنْ بعضِ ما سمعَ".
قال الله-سبحانه-:[وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً].
و ذو التَثَبُتِ من حمدٍ إلى ظَفَرٍ
منْ يركبِ الرِفْقَ لا يستصحبِ الزللا
ومنِ أهمِ ما يلجأُ له المؤمنُ حالَ الفتنِ: الدعاءُ: فالدعاءُ من أعظمِ أسبابِ النصرِ والسلامةِ من الفتنِ، كيفَ وقدْ قالَ ربُّنا-عزَّ وجلَّ-: [اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ].
فثمرةُ الدعاءِ مضمونةٌ-بإذنِ اللهِ-إذا أتى الداعي بشروطِ الإجابةِ؛ فحريٌ بنا أنْ نكثرَ الدعاءَ لأنفسِنا ولإخوانِنا بالثباتِ والنصرِ، وأن ندعوَ لأعدائِنا بالهدايةِ، "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، وأنْ يكفيَنا اللهُ شرَهم بما شاءَ.
وإذا اشْتَبَهَ على الإنسانِ شيءٌ مما اخْتَلَفَ فيه الناسُ فَلْيَدْعُ بدعاءِ رسولِ اللهِ-عليه وآله الصلاةُ والسلامُ-: "اللهم ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ فاطرَ السمواتِ والأرضِ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ، أنت تحكمُ بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفونَ؛ اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحقِ بإذنِك إنَّك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ".
ومما ينبغي حالَ الفتنِ: البعدُ عنِ الفتنِ قدرَ المستطاعِ: لأنَّ القربَ منها رُبَّما جَرَّ للوقوعِ فيها، قالَ النبيُّ-عليه وآله الصلاةُ والسلامُ-: "إنَّ السعيدَ لمن جُنِّبَ الفتنَ، إنَّ السعيدَ لمن جُنِّبَ الفتنَ، إنَّ السعيدَ لمن جُنِّبَ الفتنَ".
قال ابنُ الجوزيِ-رحمه اللهُ-: "ما رأيتُ فتنةً أعظمَ منْ مُقاربةِ الفتنةِ، وقَلَّ أنْ يقاربَها إلا منْ يقعُ فيها، ومن حامَ حولَ الحمى يوشِكُ أنْ يرتعَ فيه".
قال ابنُ حزمٍ-رحمه اللهُ-:
لا تُتْبِعِ النفسَ الهوى***ودعِ التعرضَ للمحنْ

إبليسٌ حيٌّ لم يمتْ***والعينُ بابٌ للفتنْ
[/align][/align][/align]
المرفقات

معالم في الفتن-28-6-1436هـ-عبدالله اليابس-الملتقى-بتصرف.doc

معالم في الفتن-28-6-1436هـ-عبدالله اليابس-الملتقى-بتصرف.doc

المشاهدات 1486 | التعليقات 0