معالم في العشر الأواخر

د. زاهر بن محمد الشهري
1435/09/19 - 2014/07/16 23:21PM
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، جادَ على عباده بالصِّيام والقيام، وفتح لهم أبواب الخير والإحسان، نحمده حَمْد الشاكرين، ونستغفرُه استغفار المُذْنبين، ونسألُه مِن فضله العظيم، فهو الجواد الكريم، البَرّ الرَّحيم، لا يخيب مَن رجاه، ولا يرد مَن دعاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له في هذه الليالي المُقْبلات رحمات ونفحات، يسعد بها مَن نال حظه منها، ويغبن غبنًا عظيما مَن حرمها، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ جل وعلا، وأن نقدمَ لأنفسِنا أعمالاً تبيضُ وجوهَنا يوم نلقى اللهَ، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [النحل:111].
معاشر الصائمين: مضى ثلثا هذا الشهر العظيم، اجتهد فيها من اجتهد بالعبادة وتقرب من تقرب فيها بالطاعة، وسارع من سارع فيها إلى الحسنات والأعمال الصالحة، مقتفيًا بذلك هدي قدوتنا ونبينا محمد ، الذي كان أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وبقي ثلثه الأخير، وعشره المباركات، والتي كان نبينا يحتفي بها، ويقدمها على غيرها، بل ويتفرغ للعبادة فيها، كل ذلك حرصًا منه وهو يبني منهجًا لأمته بأن تجعل من تلك الأيام والليالي معالم في طريق التقرب إلى الله، وإضاءات في طريق المسابقة إلى الخيرات، ومنارات في طريق المنافسة في الطاعات، وعلامات في المسارعة للحسنات، ومن أبرز تلك المعالم ما يلي:
أولاً: جدّه واجتهاده :
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. رواه مسلم.
وقالت أيضًا رضي الله عنها فيما رواه الإمام مسلم: كان رسول الله إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وجدَ وشد المئزر.
والجدّ هو: بذل الجهد في طلب الطاعات أو في فعلها، أي: بذل ما يمكنه من الوسع، وذلك يستدعي أن يأتي الطاعة بنشاط ورغبة وصدق ومحبة، ويستدعي أن يبعد عن نفسه الكسل والخمول والتثاقل وأسباب ذلك، ففي أي شيء يكون هذا الجدّ؟
الجد في الصلاة فيصلي في الليل والنهار ما استطاع. والجد في القراءة فيقرأ ما تيسر من القرآن بتدبر وخشوع وقلب حاضر. والجد في الذكر فيذكر الله ولا ينساه، ولا يزال لسانه رطبا بذكر الله. والجد في الدعاء فيدعو ربه تضرعا وخفية ويكثر من الدعاء. والجد في الأعمال الخيرية المتعددة من النصائح والعبادات، وما أشبه ذلك.
ثانيًا: عنايته الخاصة بليالي العشر:
ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. وفي المسند عنها رضي الله عنها قالت: كان النبي يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "( أَيْ سَهِرَهُ فَأَحْيَاهُ بِالطَّاعَةِ وَأَحْيَا نَفْسَهُ بِسَهَرِهِ فِيهِ لِأَنَّ النَّوْم أَخُو الْمَوْتِ)"، وقال الإمام النووي رحمه الله: "أي: استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها".
ثالثًا: الاعتكاف: وهو من الطاعات التي تتأكد في هذه العشر المباركات، وهو لزوم المسجد بنية مخصوصة لطاعة الله تعالى، وهو سنة مؤكدة عن النبي ، قال الزهري رحمه الله: "عجبًا للمسلمين! تركوا الاعتكاف مع أن النبي ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل".
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده. رواه البخاري ومسلم.
المعتكف ذكر الله أنيسه، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجاة ربه متعته، والدعاء والتضرع لذته، ويكون بذلك قريبًا من ربه، قريبًا من تحقيق قيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، إضافة إلى الأجور الكبيرة المترتبة على التزامه للمسجد، من استغفار الملائكة له، وانتظاره الصلاة بعد الصلاة، وإدراكه لتكبيرة الإحرام، وتلاوته وسماعه للقرآن، وقيامه لليل، ففي الاعتكاف حفظ لوقت المسلم، ومساعدة له على عمارته بالمفيد من الأعمال الصالحة، وتربية له على العبادة والطاعة، وتعلق لقلبه بالمسجد وهو مما يحب الله، وطمأنينة للنفس وتزكية لها، وزيادة في إيمانيه وقربه من الله، أضف إلى ما يحصل للمعتكف من الابتعاد عن الشواغل والصوارف التي تشغل الإنسان عن العبادة، وتصرفه عنها.
رابعاً: تحريه لليلة القدر:
ليلة القدر ليلة عظيمة مباركة، قال الله تعالى عنها: إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ وقال النبي : ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه البخاري ومسلم.
وقد أخبر النبي أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأن أوتار العشر أرجى من غيرها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في كل وتر))، وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله أن هذه الليلة متنقلة في العشر، وليست في ليلة معينة منها دائمًا، فقد تكون في ليلة إحدى وعشرين، وقد تكون في ليلة ثلاث وعشرين، وقد تكون في ليلة خمس وعشرين، وقد تكون في ليلة سبع وعشرين وهي أحرى الليالي، وقد تكون في تسع وعشرين، وقد تكون في الأشفاع. فمن قام ليالي العشر كلها إيمانًا واحتسابًا أدرك هذه الليلة بلا شك، وفاز بما وعد الله أهلها.
ليلةُ القدر يفتَّح فيها الباب ويقرَّب فيها الأحباب ويُسمع الخطاب ويردّ الجواب، إنها ليلةٌ ذاهبةٌ عنكم بأفعالكم وقادمةٌ عليكم غدًا بأعمالكم.
فيا ليت شعري، يا ليت شعري بماذا سنودِعها؟! وبأي الأعمال نودِّعها؟! أتراها ترحَل حامدةً منا الصنيع أم ذامّةً التفريط والتضييع؟! هذا أوان السباق فأين المسابقون؟! هذا أوانُ القيام فأين القائمون؟!
أليسَ من عجبٍ أنَّ فئامًا منَ الناس أغفَلُ ما يكونون في زمانِ الجد والاجتهاد؟! أليسَ من الغريبِ أنّ الكثيرين لا يحلُو لهم التسوّقُ إلا في هذه الأزمنة النفِيسَة؟! أليس من الأعجَب أنّ أقوامًا يكونون أكثرَ ولعًا بمشاهدة القنواتِ الفضائية في هذه الأيام العظيمةِ والليالي الشريفة؟!
ألا فاتقوا الله عباد الله، واستثمِروا هذه اللياليَ الغُرّ بالأعمال الصالحة، واغتنِموا واجتهدوا فيها، واعتنوا بأهل بيوتكم من الزوجة والأولاد فلا تحرموهم من فضل الله ورضوانه، فقد كان النبي إذا دخلت العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد مئزره.
يطرق الباب على فاطمة وعلي -رضي الله عنهما- قائلاً: "ألا تقومان فتصليان"، يطرق الباب وهو يتلو: ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمرًا:"أيقظوا صواحب الحجرات؛ فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة".
إن هذه العناية بأمر الزوجة والأهل والأولاد تجعل البيت المسلم يعيش روحانية هذا الشهر الكريم.
اللهم إنا نسألك إيمانًا كاملاً ويقينًا خالصًا، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين, إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمد ربي وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، المؤمن الصادق الذي تعلق قلبه بالله كلما تقدمت به الأيام في رمضان زاد اجتهاده, وزاد قلبُه إيمانًا وَرِقَّة، وحَمَلَه خوفُه من انقضاء الشهر على المزيد من الخير.
وضعيفُ الإيمان يبدأ شهرَهُ بالاجتهاد ثم يفتر شيئًا فشيئًا حتى يترُكَ كثيرًا من عمله, أو يعودَ كما كان قبل رمضان.
فإيّاك ـ يا عبد الله ـ أن تكون كذلك, واحرص على الثبات وملازمة الطاعة, فإن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها, وأن يكون العبد على حال أحسن من حاله السابقة.
عباد الله: احرصوا على اغتنام هذه العشر، وأروا الله تعالى من أنفسكم خيرًا، فلربما جاهد العبدُ نفسه في هذه الأيام القلائل، فقبل الله تعالى منه، وكتب له سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، وهي تمرُّ على المجتهدين واللاهين سواءً بسواء؛ لكن أعمالهم تختلف، كما أن المدون في صحائفهم يختلف، فلا يغرنكم الشيطان فتضيع هذه الأيام كما ضاعت مثيلاتها من قبل.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ التَّوفِيقَ يَا رَحمَنُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الخِذلانِ وَالحِرمَانِ، ونسألك أن تجعلنا من المقبولين، ومن عبادك الصالحين.
اللهم بلغنا ليلة القدر، وأعنا على قيامها إيمانًا واحتسابًا...
اللهم وفقنا فيما بقي من الليالي والأيام, اللَّهُمَّ اجْعلْنَا من السابقينَ إلى الخيراتِ، الناهين عن المنكَرات، الآمنينَ في الغرفات، مع الَّذِينَ أنعمتَ عليهم وَوَقَيْتَهُمْ السيئاتِ، اللَّهُمَّ أعِذْنا من مُضلاَّتِ الفتنِ، وجنبنا الفواحشَ ما ظهَرَ منها وما بطَن..
عباد الله: صلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
المرفقات

معالم في العشر الأواخر.doc

معالم في العشر الأواخر.doc

المشاهدات 2392 | التعليقات 1

الله يعطيك العافية على الخطبة . أسال الله ان يتكون في ميزان حسناتك يوم القيامة