مظاهر الغفلة في حياتنا المعاصرة للشيخ عاطف عبد المعز الفيومي
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
1431/05/03 - 2010/04/17 18:30PM
مظاهر الغفلة في حياتنا المعاصرة
الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي
الحمدُ لله وحْده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعدَه، نبينا محمَّد، وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.أما بعد:
1- تحذير القرآن من الغفلة وأهلها:
لا ريبَ أنَّ الأمم تمرُّ بمِحنٍ وشدائد، تهذِّبها تارة، وتربِّيها تارة، وتَرْفع عنها غبارَ الطريق تارةً أخرى، كما أنَّ المِحن قد تكون صورةً من العقاب والتوبيخ، وإنَّ مِن المحن والرزايا التي أصابتْ أمَّتَنا اليوم في مقتلٍ: الغفلةَ بما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ وحقائق، مِن التِّيه والنسيان، في شتَّى مجالات الحياة البشرية.
يقول الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر، في تقديمه لكتاب "في مهب المعركة"، مصورًا هذه الظاهرة: "وأشدُّ النكبات التي يُصاب بها البَشرُ نكبةُ الغفلة..."؛ "مالك بن نبي، في مهب المعركة، تقديم محمود محمد شاكر".
والغفلة آفةٌ قاتلة، وداءٌ عُضال فتَّاك، وطريق يكثر فيه السالكون إلاَّ مَن رَحِم الله تعالى، دبَّ هذا الداء في جَسَد الأمَّة الإسلامية منذ عدَّة قرون، وأقعَدها عن سبيلها، وأوْهن مِن قُواها، وشغلها أيَّما شغل عن رسالتها وغايتها في هذه الحياة الدنيا، والمتأمِّل في آيات القرآن يرى أنَّ الله - تعالى - قد أنذر وحذَّر مِن هذا الداء المهلِك، الذي أصابَ الأُمم، وأقعدَها عن السبيل الأَمَم، بل وحلَّ بها عقاب الله - تعالى – المعجَّل؛ كما قال - تعالى -: في كتابه لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) [يس: 6، 7].
قال ابن سعدي - رحمه الله تعالى - في تفسيره: "وهم العرب الأُميُّون، الذين لم يزالوا خالين مِن الكتب، عادمين الرُّسل، قد عمتْهم الجهالة، وغمرتْهم الضلالة، وأَضحكوا عليهم وعلى سفههم عقولَ العالمين، فأرسل اللَّه إليهم رسولاً مِن أنفسهم، يُزكِّيهم ويُعلِّمهم الكِتاب والحِكمة، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين، فينذر العرب الأميِّين، ومَن لحق بهم من كلِّ أُمِّي، ويذكر أهل الكتب بما عندَهم من الكتب، فنِعمة اللَّه به على العرب خصوصًا، وعلى غيرهم عمومًا، ولكن هؤلاء الذين بُعثتَ فيهم لإنذارهم بعدَما أنذرْتَهم، انقسموا قسمين: قسم ردَّ ما جئتَ به، ولم يقبلِ النذارة، وهم الذين قال اللَّه فيهم: ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )؛ أي: نفذ فيهم القضاءُ والمشيئة، أنَّهم لا يزالون في كُفْرهم وشِرْكهم، وإنما حقَّ عليهم القول بعدَ أن عرض عليهم الحق فرَفضوه، فحينئذ عُوقِبوا بالطبْع على قلوبهم"؛ "تفسير ابن سعدي".
وقال صاحب "الظلال" - رحمه الله -: "والغفلة أشدُّ ما يُفسِد القلوب، فالقلْب الغافل قلْب مُعطَّل عن وظيفته، معطَّل عن الالْتقاط والتأثُّر والاستجابة، تمرُّ به دلائلُ الهدى، أو يمرُّ بها دون أن يحسَّها أو يدركها، ودون أن ينبض أو يستقبل، ومِن ثَمَّ كان الإنذار هو أليقَ شيء بالغفلة التي كان فيها القوم، الذين مضتِ الأجيال دون أن ينذرَهم منذِرٌ، أو ينبههم منبِّه، فهم مِن ذرية إسماعيلَ، ولم يكن لهم بعدَه من رسول، فالإنذار قد يُوقِظ الغافلين المستغرقين في الغفلة، الذين لم يأتِهم ولم يأتِ آباءَهم نذير.
ثم يكشف عن مصير هؤلاء الغافلين، وعمَّا نَزَل بهم من قدر الله، وَفقَ ما علم الله مِن قلوبهم ومِن أمرهم، ما كان منه وما سيكون: ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ).. لقد قُضِي في أمرهم، وحَقَّ قدرُ الله على أكثرهم، بما علِمه من حقيقتهم، وطبيعة مشاعرهم، فهم لا يؤمنون، وهذا هو المصيرُ الأخير للأكثرين، فإنَّ نفوسهم محجوبةٌ عن الهدى، مشدودةٌ عن رؤية دلائله أو استشعارها"؛ "في ظلال القرآن".
وقال - تعالى -: ( إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [يونس: 7، 8].
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره: "يقول الله - تعالى - مخبرًا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلِقاء الله يومَ القيامة، ولا يرجون في لِقاء الله شيئًا، ورَضُوا بهذه الحياة الدنيا، واطمأنَّتْ إليها أنفسُهم.
قال الحسن: واللهِ ما زيَّنوها ولا رفعوها، حتى رضُوا بها، وهم غافلون عن آياتِ الله الكونيَّةِ فلا يتفكَّرون فيها، والشرعيَّةِ فلا يأتمِرون بها؛ بأنَّ مأواهم يومَ معادهم النار، جزاءً على ما كانوا يكسِبون في دنياهم من الآثام والخَطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكُفر بالله ورسوله واليوم الآخِر"؛ "تفسير ابن كثير".
وهنا تأتي آياتُ القرآن تُوحي بعاقبة الغافلين عن آيات الله ورسالاته؛ قال - تعالى -: ( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) [الأعراف: 136]، وقال - تعالى -: ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) [الأعراف: 146]، وقال - تعالى -: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) [الأعراف: 172].
وتأتي آياتٌ أخرى تُبصِّر الناس بطريق الهدى، وصُحْبة الصالحين المتقين، وتحذِّر من طريق الرَّدَى، وصُحْبة الأشقياء الغافلين؛ كما قال - تعالى -: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) [الكهف: 28].
2- مظاهر الغفلة في الحياة المعاصرة:
إنَّ الغفلة إذا عمَّ خطرُها، أوشكتْ بالهلاك للأمم، وإنَّ اليقظة والبصيرة إذا لاح سبيلُها، فنِعم الطريق للسالكين، وإنَّ أخطر ما تمرُّ به الأمَّة اليوم هذا الداء القاتِل، الذي بدَتْ لنا مظاهرُه في كثيرٍ من مجالات الحياة الإسلامية، في الجانب الفردي، وفي الجانب الجَماعي، وهذه صُور ونماذج تدلِّل على فُشوِّ الغفلة في الأمة الإسلامية خاصَّة، بل وفي غيرها من الأمم:
1- الغفلة عن أشراط الساعة:
مِن مظاهر الغفلة في حياة كثيرٍ من الناس اليوم: الغفلة عن علامات الساعة وأشراطها؛ حيث إنَّ الله - تعالى - جعَل ظهور هذه العلامات دليلاً على اقتراب يومِ القِيامة، ومحاسبة الله للخلائق، كلٌ يُجزَى بعمله؛ كما قال - تعالى -: ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) [الأنبياء: 1].
وقال - تعالى -: ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) [محمد: 18]، ومع ذلك يقع الناسُ في غفلة شديدة، حيث يرَوْن انتشارَ الرِّبا والزِّنا، وشرْب الخمور والمسكرات، وضرْب المعازف والقينات، وكثرة الفواحِش والمنكرات، ولا يلقون بالاً لمثل هذه العلامات الكبيرة، والتي تستوجب عليهم التوبة إلى الله منها، والاستعداد للدار الآخِرة.
2- الغفلة عن المهمات والأولويات:
ومنها كذلك الغفلة عن المهمَّات والأولويات، والانشغال بالتوافِه والشهوات، وما يلحق بها ممَّا يُضيع الأعمارَ والأوقات، فنجد في أمَّتنا مَن شُغِل بالنِّساء والحب والغرام، ونجد مَن شُغل بالنوادي والمباريات، بينما كان الواجبُ عليهم الانشغالَ بما هو أوْلى وأجْدى، وأنفع في الدنيا والآخرة.
فالانشغال بتصحيح التوحيد والعقيدة، والانشغال بتصحيح العبادة، وتهذيب الأخلاق، والانشغال بالدَّعْوة إلى الله، وهداية الناس، والانشغال بقضايا الأمَّة وهمومها، والانشغال بتربية الشباب بالعِلم الشرعي، وإعدادِهم للجِهاد في سبيل الله تعالى - كلُّ ذلك أَوْلى وأجْدَى، وأهمُّ وأنفعُ مِن غيره من كثيرٍ من التوافه والْمُلهيات.
3- الغفلة عن الدار الآخرة والاستعداد لها:
ومِن مظاهر الغفلة أيضًا: الغفلة عن الدار الآخرة - يوم القيامة - والاستعداد لها، والرُّكون إلى حبِّ الدنيا وزينتها، والانغماس الشديد في طلبها، واستعجال التَّرَف والمُتعة، واللذَّة والراحة في دار الحياة الدنيا؛ كما قال - تعالى -: ( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) [القيامة: 20 -21]. وقال - تعالى -: ( إِنَّ هَؤُلاَء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً ) [الإنسان: 27].
4- الاستخفاف بأوامر الله ورسوله:
ومنها الاستخفاف والاستهانة بأوامِر الله ورسوله، ومقارفة الكبائر والمحرَّمات، وترْك التورُّع عن فعْل الذنوب والسيئات، حيث دبَّ في كثير من الناس هذا الداء، فلا يكاد المرءُ يستحيي من فِعْل الفاحشة ولا مقدماتها، ولا من أكْل الرِّبا وأموال الناس بالباطل، ولا يتورَّع بنفسه عن مواطنِ الشُّبهات والمحرَّمات، ولا ينأى بنفسه عن سماع الغِناء والمعازف، كما قد يظنُّ بعضُهم أنَّ ذلك من القضاء والقَدَر، وأنه كُتِب عليه حظُّه من الزنا وأنه مدرِك ذلك لا محالة، وأنَّ ما وقع فيه ليس إلا قدرًا كُتِب في سابق الأزل، وهو فاعل لهذا القدر، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العظيم.
ومنهم مَن يقع في ذلك استهانةً منه بأنواع العقوبات، التي جاء الوعيدُ بها في الكتاب والسُّنة، ولا يعبأ بآيات القرآن والتدبُّر فيها، ولا النظر في عواقِب ومصير الغافلين.
5- التقليد الأعمى للكفار:
والتقليد الأعْمى لأهل الكفر والشرك مظهرٌ لا يكاد تَرفع بصرَك حتى تراه في مجالاتٍ كثيرة، حيث التقليدُ في شؤون القضاء والحُكم والسياسة، والتبعية العمياء لدول الكُفْر والإلحاد في ذلك، والتقليد في المَلْبس والمظهر، حيث الشبابُ المخنَّث، والتغزُّل والغرام، وضحالة الثقافة والفِكر، وضياع معالِم الولاء والبراء في عقيدة المسلِم، وحب التقليد الدائم والمستمر لكلِّ ما هو غربي وشرقي.
وقد جاءتْ نصوص الوحيين من القرآن والسُّنة تحذِّر من هذا المسلَك المذموم؛ حيث قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [المائدة: 51].
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لَتتبعُنَّ سَنَنَ مَن قبلكم شِبرًا بشبر، وذِراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحْر ضبٍّ لتبعتموهم)). قيل: يا رسولَ الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمَن؟!))؛ متفق عليه.
هذه أهمُّ معالِم ومظاهر الغفلة في حياة الأمَّة المعاصِرة اليوم، والتي ينبغي عليها أن تتخلَّص منها؛ لتصحوَ من رقادها، وتستبينَ طريقها، وإلا فإنَّ الأمَّة ستظلُّ مضروبةً بيد من الذُّلِّ والهوان، من قِبل أعدائها، وستظلُّ تدور حولَ رحاها بلا طعام يُشبِعها، ولا منهج يَهديها.
3- طوق النجاة من الغفلة:
إنَّ الغفلة أمرٌ وارد على النفس البشرية، ولكن حسْب الإنسانِ أن يسعى دائمًا إلى معالِم اليقظة والبصيرة؛ حتى لا يُؤخَذ على غِرَّة مع الغافلين، سَأَلَ رجلٌ ابن الجوزي: أيجوز أن أفسح لنفسي في مباحِ الملاهي؟ فقال: "عندَ نفسك من الغفلة ما يَكْفيها"، وقال ابن القيم - رحمه الله -: "لا بدَّ مِن سِنَة الغفلة، ورُقاد الهوى، ولكن كن خفيفَ النَّوم".
وهذه بعض ملامح النجاة مِن سِنَة الغفلة القاتلة، نُشير إليها بإيجاز:
1- إنَّ المخرَج لأمتنا من هذه الغفلة، وطوقَ النجاة لها، لا يكاد يغيب عنَّا في آيات القرآن المُنْزَل، ولا في وحي النبيِّ المُرْسَل - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث الاعتصامُ والاستمساك بحبْل الله ورسوله، وتحقيق الوحْدة بالأُخوة الإيمانية؛ كما قال - تعالى -: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [الأنعام: 153].
وقال - تعالى -: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [آل عمران: 103].
قال الشافعي: الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معْنى كتاب الله وسُنَّةٍ ولا قياسٍ، وإنَّما تكون الغفلة في الفُرْقة.
وقال - تعالى -: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) [النساء: 175].
وقال - تعالى - أيضًا: ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [طـه: 123، 124].
وكما جاء في حديث عبدالله بن مسعود، قال: خطَّ لنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطًّا، ثم قال: ((هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شِماله، وقال: هذه سُبلٌ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ) الآية))؛ رواه أحمد والنسائي والدارمي، وصحَّحه الألباني.
وفي خُطبة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حجَّة الوداع حثَّ على التمسُّك بالكتاب والسُّنة، حيث قال: ((وقد تركتُ فيكم ما إنِ اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبدًا، أمرًا بينًا: كتابَ الله، وسُنَّة نبيه))؛ رواه مالك.
فالاعتصامُ بالله ورسوله نجاةٌ للأمَّة من طوق الغفلة، وهدايةٌ لها إلى الطريق الصحيح، فلا الْتواءَ ولا اعوجاج، ولا زيغَ ولا انحراف، ولا بِدعَ ولا أهواء.
2- والدعوة إلى هذا المنهج الربَّاني سبيلٌ لنجاة الأمَّة، ويقظتها من غفلتها، وسعادتها في الدنيا والآخِرة، وتنبيه للغافلين بأحكام الله وشريعته، ودِين الرسول وسُنته؛ كما قال - تعالى -: ( وَلْتَكُنْ مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [آل عمران: 104]، وقال - تعالى -: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُم مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) [آل عمران: 110].
3- وتحقيق عقيدة لله ولرسوله وللمؤمنين والبَراء من الكافرين، وعدم موالاتهم، والتقرُّب إليهم، والسَّيْر في رِكابهم، والتقليد الأعمى لِمَا يحملون من عقائدَ ومناهجَ وأخلاق، تُصادِم الدِّين والقِيم، كل ذلك نجاة مِن طوق الغفلة؛ كما قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) [المائدة: 51، 52].
وكما قال - تعالى - عن خليله إبراهيم - عليه السلام -: ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) [الممتحنة: 4].
وكما قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [آل عمران: 100 - 101].
4- والاستعداد للدار الآخِرة، بالعمل الصالِح، وترْك الانغماس في حبِّ الدنيا وملذاتها - طوقُ النجاة من الغفلة؛ كما قال - تعالى -: ( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ) [الإسراء: 19].
وقال - تعالى -: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ) [هود: 15]، وقال - تعالى -: ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) [الكهف: 110].
وقال - تعالى -: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [النساء: 134].
وقال - تعالى -: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) [الشورى: 20]، وقال - تعالى -: ( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ) [الشورى: 47].
وما توانَى العاملون، ولا تأخَّر الكسالى إلا بسبب الغفلة عن الآخِرة، والانشغال عن العمل للآخِرة، أمَّا أهل الصلاح فهُم خلاف ذلك؛ كما أخبر تعالى: ( رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَّلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ ) [النور: 37]. ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) [الزمر: 9].
إنَّ الدنيا سرعانَ ما تبلَى، وعمَّا قريب ستفْنَى، وليس لها عندَ الله شأنٌ ولا اعتبار، وإنما هي قنطرة إلى الجنة أو النار؛ يقول - عزَّ وجلَّ -: ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِى الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحياةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [الحديد: 20].
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الدنيا حُلوةٌ خَضِرة، وإنَّ الله تعالى مُستخلِفُكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتَّقوا الدنيا، واتَّقوا النِّساء))؛ رواه مسلم في صحيحه.
5- والاستعاذة بالله تعالى، والاستعانة به وحْدَه، على مكايد الشيطان وحبائله، وشرورِه ومصايده - طوقٌ للنجاة من الغفلة؛ كما قال - تعالى -: ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) [الأعراف: 200، 201].
6- والضَّرْب على أيدي الظالمين، والوقوف أمامَهم، ونهيهم عن الفساد والطغيان - طوقُ نجاة من الغفلة أيضًا؛ كما قال - تعالى -: ( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ) [هود: 116].
الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي
الحمدُ لله وحْده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعدَه، نبينا محمَّد، وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.أما بعد:
1- تحذير القرآن من الغفلة وأهلها:
لا ريبَ أنَّ الأمم تمرُّ بمِحنٍ وشدائد، تهذِّبها تارة، وتربِّيها تارة، وتَرْفع عنها غبارَ الطريق تارةً أخرى، كما أنَّ المِحن قد تكون صورةً من العقاب والتوبيخ، وإنَّ مِن المحن والرزايا التي أصابتْ أمَّتَنا اليوم في مقتلٍ: الغفلةَ بما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ وحقائق، مِن التِّيه والنسيان، في شتَّى مجالات الحياة البشرية.
يقول الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر، في تقديمه لكتاب "في مهب المعركة"، مصورًا هذه الظاهرة: "وأشدُّ النكبات التي يُصاب بها البَشرُ نكبةُ الغفلة..."؛ "مالك بن نبي، في مهب المعركة، تقديم محمود محمد شاكر".
والغفلة آفةٌ قاتلة، وداءٌ عُضال فتَّاك، وطريق يكثر فيه السالكون إلاَّ مَن رَحِم الله تعالى، دبَّ هذا الداء في جَسَد الأمَّة الإسلامية منذ عدَّة قرون، وأقعَدها عن سبيلها، وأوْهن مِن قُواها، وشغلها أيَّما شغل عن رسالتها وغايتها في هذه الحياة الدنيا، والمتأمِّل في آيات القرآن يرى أنَّ الله - تعالى - قد أنذر وحذَّر مِن هذا الداء المهلِك، الذي أصابَ الأُمم، وأقعدَها عن السبيل الأَمَم، بل وحلَّ بها عقاب الله - تعالى – المعجَّل؛ كما قال - تعالى -: في كتابه لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) [يس: 6، 7].
قال ابن سعدي - رحمه الله تعالى - في تفسيره: "وهم العرب الأُميُّون، الذين لم يزالوا خالين مِن الكتب، عادمين الرُّسل، قد عمتْهم الجهالة، وغمرتْهم الضلالة، وأَضحكوا عليهم وعلى سفههم عقولَ العالمين، فأرسل اللَّه إليهم رسولاً مِن أنفسهم، يُزكِّيهم ويُعلِّمهم الكِتاب والحِكمة، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين، فينذر العرب الأميِّين، ومَن لحق بهم من كلِّ أُمِّي، ويذكر أهل الكتب بما عندَهم من الكتب، فنِعمة اللَّه به على العرب خصوصًا، وعلى غيرهم عمومًا، ولكن هؤلاء الذين بُعثتَ فيهم لإنذارهم بعدَما أنذرْتَهم، انقسموا قسمين: قسم ردَّ ما جئتَ به، ولم يقبلِ النذارة، وهم الذين قال اللَّه فيهم: ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )؛ أي: نفذ فيهم القضاءُ والمشيئة، أنَّهم لا يزالون في كُفْرهم وشِرْكهم، وإنما حقَّ عليهم القول بعدَ أن عرض عليهم الحق فرَفضوه، فحينئذ عُوقِبوا بالطبْع على قلوبهم"؛ "تفسير ابن سعدي".
وقال صاحب "الظلال" - رحمه الله -: "والغفلة أشدُّ ما يُفسِد القلوب، فالقلْب الغافل قلْب مُعطَّل عن وظيفته، معطَّل عن الالْتقاط والتأثُّر والاستجابة، تمرُّ به دلائلُ الهدى، أو يمرُّ بها دون أن يحسَّها أو يدركها، ودون أن ينبض أو يستقبل، ومِن ثَمَّ كان الإنذار هو أليقَ شيء بالغفلة التي كان فيها القوم، الذين مضتِ الأجيال دون أن ينذرَهم منذِرٌ، أو ينبههم منبِّه، فهم مِن ذرية إسماعيلَ، ولم يكن لهم بعدَه من رسول، فالإنذار قد يُوقِظ الغافلين المستغرقين في الغفلة، الذين لم يأتِهم ولم يأتِ آباءَهم نذير.
ثم يكشف عن مصير هؤلاء الغافلين، وعمَّا نَزَل بهم من قدر الله، وَفقَ ما علم الله مِن قلوبهم ومِن أمرهم، ما كان منه وما سيكون: ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ).. لقد قُضِي في أمرهم، وحَقَّ قدرُ الله على أكثرهم، بما علِمه من حقيقتهم، وطبيعة مشاعرهم، فهم لا يؤمنون، وهذا هو المصيرُ الأخير للأكثرين، فإنَّ نفوسهم محجوبةٌ عن الهدى، مشدودةٌ عن رؤية دلائله أو استشعارها"؛ "في ظلال القرآن".
وقال - تعالى -: ( إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [يونس: 7، 8].
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره: "يقول الله - تعالى - مخبرًا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلِقاء الله يومَ القيامة، ولا يرجون في لِقاء الله شيئًا، ورَضُوا بهذه الحياة الدنيا، واطمأنَّتْ إليها أنفسُهم.
قال الحسن: واللهِ ما زيَّنوها ولا رفعوها، حتى رضُوا بها، وهم غافلون عن آياتِ الله الكونيَّةِ فلا يتفكَّرون فيها، والشرعيَّةِ فلا يأتمِرون بها؛ بأنَّ مأواهم يومَ معادهم النار، جزاءً على ما كانوا يكسِبون في دنياهم من الآثام والخَطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكُفر بالله ورسوله واليوم الآخِر"؛ "تفسير ابن كثير".
وهنا تأتي آياتُ القرآن تُوحي بعاقبة الغافلين عن آيات الله ورسالاته؛ قال - تعالى -: ( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) [الأعراف: 136]، وقال - تعالى -: ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) [الأعراف: 146]، وقال - تعالى -: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) [الأعراف: 172].
وتأتي آياتٌ أخرى تُبصِّر الناس بطريق الهدى، وصُحْبة الصالحين المتقين، وتحذِّر من طريق الرَّدَى، وصُحْبة الأشقياء الغافلين؛ كما قال - تعالى -: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) [الكهف: 28].
2- مظاهر الغفلة في الحياة المعاصرة:
إنَّ الغفلة إذا عمَّ خطرُها، أوشكتْ بالهلاك للأمم، وإنَّ اليقظة والبصيرة إذا لاح سبيلُها، فنِعم الطريق للسالكين، وإنَّ أخطر ما تمرُّ به الأمَّة اليوم هذا الداء القاتِل، الذي بدَتْ لنا مظاهرُه في كثيرٍ من مجالات الحياة الإسلامية، في الجانب الفردي، وفي الجانب الجَماعي، وهذه صُور ونماذج تدلِّل على فُشوِّ الغفلة في الأمة الإسلامية خاصَّة، بل وفي غيرها من الأمم:
1- الغفلة عن أشراط الساعة:
مِن مظاهر الغفلة في حياة كثيرٍ من الناس اليوم: الغفلة عن علامات الساعة وأشراطها؛ حيث إنَّ الله - تعالى - جعَل ظهور هذه العلامات دليلاً على اقتراب يومِ القِيامة، ومحاسبة الله للخلائق، كلٌ يُجزَى بعمله؛ كما قال - تعالى -: ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) [الأنبياء: 1].
وقال - تعالى -: ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) [محمد: 18]، ومع ذلك يقع الناسُ في غفلة شديدة، حيث يرَوْن انتشارَ الرِّبا والزِّنا، وشرْب الخمور والمسكرات، وضرْب المعازف والقينات، وكثرة الفواحِش والمنكرات، ولا يلقون بالاً لمثل هذه العلامات الكبيرة، والتي تستوجب عليهم التوبة إلى الله منها، والاستعداد للدار الآخِرة.
2- الغفلة عن المهمات والأولويات:
ومنها كذلك الغفلة عن المهمَّات والأولويات، والانشغال بالتوافِه والشهوات، وما يلحق بها ممَّا يُضيع الأعمارَ والأوقات، فنجد في أمَّتنا مَن شُغِل بالنِّساء والحب والغرام، ونجد مَن شُغل بالنوادي والمباريات، بينما كان الواجبُ عليهم الانشغالَ بما هو أوْلى وأجْدى، وأنفع في الدنيا والآخرة.
فالانشغال بتصحيح التوحيد والعقيدة، والانشغال بتصحيح العبادة، وتهذيب الأخلاق، والانشغال بالدَّعْوة إلى الله، وهداية الناس، والانشغال بقضايا الأمَّة وهمومها، والانشغال بتربية الشباب بالعِلم الشرعي، وإعدادِهم للجِهاد في سبيل الله تعالى - كلُّ ذلك أَوْلى وأجْدَى، وأهمُّ وأنفعُ مِن غيره من كثيرٍ من التوافه والْمُلهيات.
3- الغفلة عن الدار الآخرة والاستعداد لها:
ومِن مظاهر الغفلة أيضًا: الغفلة عن الدار الآخرة - يوم القيامة - والاستعداد لها، والرُّكون إلى حبِّ الدنيا وزينتها، والانغماس الشديد في طلبها، واستعجال التَّرَف والمُتعة، واللذَّة والراحة في دار الحياة الدنيا؛ كما قال - تعالى -: ( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) [القيامة: 20 -21]. وقال - تعالى -: ( إِنَّ هَؤُلاَء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً ) [الإنسان: 27].
4- الاستخفاف بأوامر الله ورسوله:
ومنها الاستخفاف والاستهانة بأوامِر الله ورسوله، ومقارفة الكبائر والمحرَّمات، وترْك التورُّع عن فعْل الذنوب والسيئات، حيث دبَّ في كثير من الناس هذا الداء، فلا يكاد المرءُ يستحيي من فِعْل الفاحشة ولا مقدماتها، ولا من أكْل الرِّبا وأموال الناس بالباطل، ولا يتورَّع بنفسه عن مواطنِ الشُّبهات والمحرَّمات، ولا ينأى بنفسه عن سماع الغِناء والمعازف، كما قد يظنُّ بعضُهم أنَّ ذلك من القضاء والقَدَر، وأنه كُتِب عليه حظُّه من الزنا وأنه مدرِك ذلك لا محالة، وأنَّ ما وقع فيه ليس إلا قدرًا كُتِب في سابق الأزل، وهو فاعل لهذا القدر، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العظيم.
ومنهم مَن يقع في ذلك استهانةً منه بأنواع العقوبات، التي جاء الوعيدُ بها في الكتاب والسُّنة، ولا يعبأ بآيات القرآن والتدبُّر فيها، ولا النظر في عواقِب ومصير الغافلين.
5- التقليد الأعمى للكفار:
والتقليد الأعْمى لأهل الكفر والشرك مظهرٌ لا يكاد تَرفع بصرَك حتى تراه في مجالاتٍ كثيرة، حيث التقليدُ في شؤون القضاء والحُكم والسياسة، والتبعية العمياء لدول الكُفْر والإلحاد في ذلك، والتقليد في المَلْبس والمظهر، حيث الشبابُ المخنَّث، والتغزُّل والغرام، وضحالة الثقافة والفِكر، وضياع معالِم الولاء والبراء في عقيدة المسلِم، وحب التقليد الدائم والمستمر لكلِّ ما هو غربي وشرقي.
وقد جاءتْ نصوص الوحيين من القرآن والسُّنة تحذِّر من هذا المسلَك المذموم؛ حيث قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [المائدة: 51].
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لَتتبعُنَّ سَنَنَ مَن قبلكم شِبرًا بشبر، وذِراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحْر ضبٍّ لتبعتموهم)). قيل: يا رسولَ الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمَن؟!))؛ متفق عليه.
هذه أهمُّ معالِم ومظاهر الغفلة في حياة الأمَّة المعاصِرة اليوم، والتي ينبغي عليها أن تتخلَّص منها؛ لتصحوَ من رقادها، وتستبينَ طريقها، وإلا فإنَّ الأمَّة ستظلُّ مضروبةً بيد من الذُّلِّ والهوان، من قِبل أعدائها، وستظلُّ تدور حولَ رحاها بلا طعام يُشبِعها، ولا منهج يَهديها.
3- طوق النجاة من الغفلة:
إنَّ الغفلة أمرٌ وارد على النفس البشرية، ولكن حسْب الإنسانِ أن يسعى دائمًا إلى معالِم اليقظة والبصيرة؛ حتى لا يُؤخَذ على غِرَّة مع الغافلين، سَأَلَ رجلٌ ابن الجوزي: أيجوز أن أفسح لنفسي في مباحِ الملاهي؟ فقال: "عندَ نفسك من الغفلة ما يَكْفيها"، وقال ابن القيم - رحمه الله -: "لا بدَّ مِن سِنَة الغفلة، ورُقاد الهوى، ولكن كن خفيفَ النَّوم".
وهذه بعض ملامح النجاة مِن سِنَة الغفلة القاتلة، نُشير إليها بإيجاز:
1- إنَّ المخرَج لأمتنا من هذه الغفلة، وطوقَ النجاة لها، لا يكاد يغيب عنَّا في آيات القرآن المُنْزَل، ولا في وحي النبيِّ المُرْسَل - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث الاعتصامُ والاستمساك بحبْل الله ورسوله، وتحقيق الوحْدة بالأُخوة الإيمانية؛ كما قال - تعالى -: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [الأنعام: 153].
وقال - تعالى -: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [آل عمران: 103].
قال الشافعي: الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معْنى كتاب الله وسُنَّةٍ ولا قياسٍ، وإنَّما تكون الغفلة في الفُرْقة.
وقال - تعالى -: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) [النساء: 175].
وقال - تعالى - أيضًا: ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [طـه: 123، 124].
وكما جاء في حديث عبدالله بن مسعود، قال: خطَّ لنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطًّا، ثم قال: ((هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شِماله، وقال: هذه سُبلٌ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ) الآية))؛ رواه أحمد والنسائي والدارمي، وصحَّحه الألباني.
وفي خُطبة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حجَّة الوداع حثَّ على التمسُّك بالكتاب والسُّنة، حيث قال: ((وقد تركتُ فيكم ما إنِ اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبدًا، أمرًا بينًا: كتابَ الله، وسُنَّة نبيه))؛ رواه مالك.
فالاعتصامُ بالله ورسوله نجاةٌ للأمَّة من طوق الغفلة، وهدايةٌ لها إلى الطريق الصحيح، فلا الْتواءَ ولا اعوجاج، ولا زيغَ ولا انحراف، ولا بِدعَ ولا أهواء.
2- والدعوة إلى هذا المنهج الربَّاني سبيلٌ لنجاة الأمَّة، ويقظتها من غفلتها، وسعادتها في الدنيا والآخِرة، وتنبيه للغافلين بأحكام الله وشريعته، ودِين الرسول وسُنته؛ كما قال - تعالى -: ( وَلْتَكُنْ مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [آل عمران: 104]، وقال - تعالى -: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُم مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) [آل عمران: 110].
3- وتحقيق عقيدة لله ولرسوله وللمؤمنين والبَراء من الكافرين، وعدم موالاتهم، والتقرُّب إليهم، والسَّيْر في رِكابهم، والتقليد الأعمى لِمَا يحملون من عقائدَ ومناهجَ وأخلاق، تُصادِم الدِّين والقِيم، كل ذلك نجاة مِن طوق الغفلة؛ كما قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) [المائدة: 51، 52].
وكما قال - تعالى - عن خليله إبراهيم - عليه السلام -: ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) [الممتحنة: 4].
وكما قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [آل عمران: 100 - 101].
4- والاستعداد للدار الآخِرة، بالعمل الصالِح، وترْك الانغماس في حبِّ الدنيا وملذاتها - طوقُ النجاة من الغفلة؛ كما قال - تعالى -: ( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ) [الإسراء: 19].
وقال - تعالى -: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ) [هود: 15]، وقال - تعالى -: ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) [الكهف: 110].
وقال - تعالى -: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [النساء: 134].
وقال - تعالى -: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) [الشورى: 20]، وقال - تعالى -: ( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ) [الشورى: 47].
وما توانَى العاملون، ولا تأخَّر الكسالى إلا بسبب الغفلة عن الآخِرة، والانشغال عن العمل للآخِرة، أمَّا أهل الصلاح فهُم خلاف ذلك؛ كما أخبر تعالى: ( رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَّلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ ) [النور: 37]. ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) [الزمر: 9].
إنَّ الدنيا سرعانَ ما تبلَى، وعمَّا قريب ستفْنَى، وليس لها عندَ الله شأنٌ ولا اعتبار، وإنما هي قنطرة إلى الجنة أو النار؛ يقول - عزَّ وجلَّ -: ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِى الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحياةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [الحديد: 20].
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الدنيا حُلوةٌ خَضِرة، وإنَّ الله تعالى مُستخلِفُكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتَّقوا الدنيا، واتَّقوا النِّساء))؛ رواه مسلم في صحيحه.
5- والاستعاذة بالله تعالى، والاستعانة به وحْدَه، على مكايد الشيطان وحبائله، وشرورِه ومصايده - طوقٌ للنجاة من الغفلة؛ كما قال - تعالى -: ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) [الأعراف: 200، 201].
6- والضَّرْب على أيدي الظالمين، والوقوف أمامَهم، ونهيهم عن الفساد والطغيان - طوقُ نجاة من الغفلة أيضًا؛ كما قال - تعالى -: ( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ) [هود: 116].