مطلب الحكمة

عبدالوهاب بن محمد المعبأ
1437/07/21 - 2016/04/28 18:43PM
مطلب الــــحـــكــــمة
الخطبة الأولى
الحمد لله عالمِ الغيبِ والشهادة، ربِّ كل شيءٍ وملِيكِه، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وخِيرتُه من خلقه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلوات الله وسلامُه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن أصدق الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحدَثاتُها، وكلَّ مُحدَثَةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.
أيها المسلمون، أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ منْ حديثِ أبي هريرةَ أنهُ سمعَ رسولَ اللهِ يقولُ: ((كَانَتِ امْرَاتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَاخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ اشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى)).
أيها المسلمون، امرأتانِ معهُمَا طفلانِ صغيرانِ، هجمَ عليهما ذئبٌ على زمنِ داودَ وسليمانَ عليهِما السلامُ فأكلَ الذئبُ ولدَ الكبرى، فادَّعتْ المرأةُ الكبرى أنَّ الولدَ الذي لمْ يأكلْهُ الذئبُ ولدها، وأنَّ الولدَ المأكولَ هوَ ولدُ الصغرى، فاحتكمَتا لدى داودَ عليهِ السلامُ، فكانتْ الكبرى ألحنَ حجةً وأسبغَ بيانًا، فقضى داودُ عليهِ السلامُ الولدَ للكبرى، ثمَّ احتكمَتا إلى سليمانَ عليهِ السلامُ الذي فهَّمَهُ اللهُ الحكمَ يومَ أنْ قالَ اللهُ في حكمِهِ في مسألةِ الغنمِ التي نفشتْ في الحرثِ قال تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ، احتكمتْ هاتانِ المرأتانِ عندَ سليمانَ، فقالَ سليمانُ عليهِ السلامُ: أعطوني سكينًا أشطر هذا الولدَ شطرينِ، وأشقُّهُ نصفينِ، وكلُّ واحدةٍ منكُما تأخذُ نصفًا، فرضِيَتِ الكُبرى بذلكَ، وأمَّا الصغرى فرفضَتْ هذا الحكمَ، وتنازلتْ عنْ نصفِها، وقالتْ: أعطوا الولدَ للكبرى ولا تقسِمُوهُ نصفينِ، فعلمَ سليمانُ عليهِ السلامُ أنَّ الولدَ لها، أنَّ الولدَ للصغرى، فحكمَ لها بالولدِ، لأنَّ سليمانَ عليهِ السلامُ يعلمُ أنَّ الأمَّ الحقيقيةَ للولدِ لا ترضى بشَقِّهِ نصفينِ، لأنهُ فلذةُ كبدِها وثمرةُ فؤادِها، وأما الأمُّ المزيفةُ صاحبةُ الادعاءِ الباطلِ فلا يهمُّهَا ذلكَ، أشُطِرَ الولدُ أمْ لمْ يُشطَرْ، أقُتلَ الطفلُ أمْ لمْ يُقتلْ، بلْ تريدُهُ يُشطرُ ويُقتلُ لتتساوى هيَ والصغرى في المصيبةِ، وتتشاركَ هي والصغرى في فقدِ الولدِ.
أيها المسلمون، قصةٌ عجيبةٌ تحملُ في طيَّاتِها المعنى الحقيقيَّ لصدقِ الارتباطِ، الصادق
من غيره
عباد الله: بعد أن وهب الله -عزّ وجل- المُلك لداود -عليه السلام- على بني إسرائيل، يحكم بينهم، ويدلون بحججهم عنده، وهو يفصل بينهم بما آتاه الله من علم وحكمة، وهبه الله -عز وجل- سليمان -عليه السلام-، وعندما كان سليمان في الحادية عشرة من عمره وكان أبوه شيخًا كبيرًا في السن أوشكت به السنون إلى الأجل المحتوم، أصبح دائب التفكير في أمر قومه، مهتمًا بمن تكون له الولاية من بعده، يرى أبناءه من حوله وسليمان وإن كان صبيًا إلا أنه يفضلهم علمًا وحكمة، وأصبح وهو في هذا السن -الحادية عشرة- قادرًا على أن يصرف الأمور تصريف الناقد البصير، وكان من عادة داود أن يحضر ابنه سليمان مجلس والده، والخصومات والقضايا التي ترد بين يديه حتى تزداد قوة معرفته ورأيه، فكان سليمان ملازمًا لأبيه في مجلسه.

وفي مجلس من مجالس القضاء جلس النبي الملك داود، وجلس بجانبه ابنه سليمان، فأتى خصمان، قال أحدهما: إن زرعًا له قد آتى ثمره ودنت قطوفه وصار بهجة الناظر وعتاد الزارع، وانتشرت فيه غنم خصمه ولم يردها رادّ، بل سامت وانسابت في الزرع ليلاً فأهلكته وأبادته حتى صار أثرًا بعد عين، ولم يدفعه ولم يرد دعواه صاحب الغنم بحجة ولا دليل، فلزمته الخصومة، وحقت عليه كلمة القضاء، فحكم داود بالغنم لصاحب الزرع يأخذها خالصة مقابل زرعه الذي أكلته وأتلفته، وجزاء إهمال صاحبها الذي تركها فنفشت الزرع بالليل -أي رعته ليلاً بلا راع-.

ولكن الصبي سليمان وقد آتاه الله علمًا وحكمة وأوقفه على دقيقات هذه الخصومة انبرى في مجلسه، وفك عقال صمته، واستأذن والده في الحكم فقال: غير هذا أرفق، ودون هذا أوفق: تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها، وتسلّم الأرض إلى أصحاب الغنم يقومون على زراعتها حتى تعود كما كانت، ثم يترددان فيأخذ كل ما كان تحت يمينه، وبذلك لا يكون هناك غرم ولا غنم، فهذا أقرب إلى العدل وأصح في الحكم وأولى في القضاء، كان هذا مبدأ ظهور أمر النبي سليمان -عليه السلام- الذي كان خير خلف لأبيه.

قال الله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء:79].

وخلف سليمان والده داود -عليهما السلام- في الملك والنبوة، فاتجهت همته إلى بناء بيت المقدس بالشام تسهيلاً لأسباب العبادة، فأقام بنيانه شامخًا، ولما تم له ذلك اطمأن قلبه وسكنت نفسه.

ثم آتاه الله العلم والحكمة وورث والده، وعلمه منطق الطير وآتاه من كل شيء، قال تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ *وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل15 :16].

وفي يوم جمع سليمان عساكره من الجن والإنس والطير، فرأتهم نملة متوجهين إلى وادي النمل فقالت: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:18] ، أي لا يعلمون بمكانكم، فما كان من سليمان -عليه السلام- إلا أن تبسم ضاحكًا من قولها، ودعا الله -عز وجل- أن يلهمه شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يعمل صالحًا يرضى الله، وأن يدخله برحمته في عباده الصالحين.

فتفقد سليمان الطير فوجدها جميعًا إلا الهدهد، وذلك ليدله على الماء، فلم يجده، فأقسم ليعذبنه أو ليذبحنه إلا أن يأتي بحجة واضحة يبين فيها عذره ويزيل ما يخالج النفس في أمره، ولكن الهدهد غاب مدة قصيرة وعاد يخفض رأسه وذنبه متواضعًا لسيده، وتقدم الطائر فقال: لقد اطلعت على ما لم يصل إليه علمك، ولم تعرفه مع ما أمدك الله من قوة وملك، وكشفت سرًّا اختفى خبره عنك، فخفض هذا الكلام من حدة غضب سليمان، فاستحث الهدهد أن يخبره، فقال الهدهد: وجدت في أرض سبأ امرأة تملكهم، وقد أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، إلا أن الشيطان استولى عليهم، فصدهم عن السبيل، فهم لا يهتدون، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، فهالني أمرها، وروعني شأنها، وكان الأجدر بهم أن يعبدوا الله رب السماوات والأرض ويسجدوا له، الذي يعلم ما تكن الجوانح وما تخبئ الأرض، لا إله إلا هو رب العرش العظيم.

دُهش سليمان لهذا الأمر العجيب، ورأى أن لا يرد الهدهد في خبره، وقال له: سننظر في نبئك ونتحقق من صدقك، وإن كان الأمر كما وصفت فهذا كتاب اذهب به وألقه إليهم ثم تنحَّ عنهم إلى مكان تنتظر رأيهم وترقب جوابهم، فحمل الهدهد الكتاب، ثم سار به إلى بلقيس ملكتهم، فوجدها في قصرها في مأرب باليمن، فطرح الكتاب أمامها، فتلقفته وقرأته فإذا فيه: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل:30].

فجمعت الملكة بلقيس أمراءها وأكابر دولتها إلى مشورتها لتخبرهم عن أمر هذا الكتاب وتأخذ رأيهم فيه، فقالوا: نحن أبناء حرب وجلاد، لا أهل رأي وسداد، وقد تركنا أمورنا لتدبيرك وتفكيرك، فانظري ماذا تأمرين نكن طوع أمرك. لمحت الملكة في كلام رجالها ميلاً إلى الحرب والمدافعة، فخطّأت رأيهم، وأبانت لهم أن الصلح خير وأحسن، فقالت: إن الملوك إذا غلبوا قرية ودخلوها عنوة بحرب خربوها، فأبادوا حضارتها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، فذلك دأبهم ما تعاقبت الأيام وتوالت الأزمان، وإني مرسلة إلى سليمان بهدية فيها من كل غال وثمين، أصانعه بها على ملكي، وأتبين بها سبيله وماذا يريد.

ثم بعثت إلى سليمان بهدية مع رجال من كرام القوم، فانتقل الرسل بالهدايا، وأقبل الهدهد إلى سليمان يبثه الخبر، فاتخذ سليمان للأمر عدته، لذلك أمر الجن فزينوا له بناءً عجيبًا وصرحًا مشيدًا يهز الأفئدة، ويبهر الأعين ويدهش القلوب، فلما دنا القوم نظروا إليه فبهتوا وأقبل عليهم سليمان بوجه طلق يرحب بقدومهم بما حملوا من هدايا ونفائس يبتغون بها رضا وقبولاً من النبي الكريم.

فعفّ سليمان وتلطف وقال للرسول: ارجع إليهم بهديتهم، فإن الله أعطاني الرزق السخي والعيش الرضي، ومد لي أسباب النبوة والملك، وآتاني ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين، ولا يمكن أن أقبل بمالٍ يلهيني عن الدعوة إلى الله، فأنتم بهديتكم تفرحون، ارجع -أيها الرسول- إليهم فلتأتينهم بجنود لا قدرة لهم بهم ولا احتمال، ولنخرجنهم من أرضهم -أرض سبأ- أذلة صاغرين، ذاهبًا عنهم العز والملك والسلطان.

عاد الرسل فأخبروا بلقيس بما رأوا وما سمعوا، فقالت: ليس لنا بد من السمع والطاعة، ولنبادر إجابته ونسارع لقبول دعوته.

فلما سمع سليمان بقدومهم عليه ووفودهم إليه، قال لمن بين يديه ممن سخره الله له من الجن: أيكم يأتيني بعرشها -أي كرسي الملك- قبل أن يأتوني مسلمين؟! قال عفريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن ينقضي مجلس حكمك فتقوم من مقامك، وإني لذو قوة على إحضاره، وأمين على ما فيه، ثم قال الذي أوتي العلم والحكمة: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، أي نظرك بالعين، أي في سرعة هائلة.
أيها المسلمون: وصل عرش بلقيس إلى سليمان في لمح البصر، فما كان منه إلا أن قال: هذا من فضل ربي عليّ، وتلك نعمة من نعمه، ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن حسنت النعمة لديه وصادفت من قلبه مكانًا فشكر ربه فإنما يشكر لنفسه، لأنه المستحق للشكر، وأما من كفر بنعمة ربه فإنما هو من الذين خسروا الدنيا والآخرة، والله غني عن العالمين.

ثم قال سليمان لجنوده: نكروا لها عرشها، فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك؟! فاستبعدت أن يكون ذلك عرشها وقد خلّفته بأرض سبأ، ولكنها رأت معالمه وتبينت علاماته ومحاسنه، فدهشت لذلك الأمر الغريب وقالت: كأنه هو، ووقفت مشتتة التفكير حائرة القلب.

وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج أبيض، ثم دعا ملكة سبأ إليه، فلما رأته حسبته لجة، أي ماءً عظيمًا، فكشفت عن ساقها، أي للخوض فيه، فقال لها سليمان: إنه صرح ممرد من قوارير، أي إنه صرح مملس من الزجاج، عند ذلك انكشف حجاب الغفلة عنها وقالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل:44]، فدعت الله -عز وجل- وقالت: إنها مالت حينًا عن عبادته، وضلت عن رحمته، فظلمت نفسها وحبستها عن نور الله، أما الآن فقد أسلمت مع سليمان خالصة الإيمان بالله متوجهة إلى طاعته، فهو رب العالمين وأرحم الراحمين.
أقول ماتسمعون ,,,,

الخطبة الثانية
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلِّمها".

الحكمة ضالة المؤمن؛ أينما وجدها فهو أحق الناس بها، الحكمة نعمة من الله وفضل وعطاء يؤتيه من يشاء من عباده: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً
قف طويلاً في السيرة لترى حكمة النبي –صلى الله عليه وسلم-، وهذه شواهد تنضح بحكمته:

عندما اختلف أهل مكة فيمن يحظى بوضع الحجر الأسود في مكانه عند إعادة بناء الكعبة واحتكموا إليه أشار -صلى الله عليه وسلم- عليهم بوضعه في رداء وأن يمسك رجل من كل قبيلة طرفًا منه، فاستحسنوا رأيه الحكيم ووافقوا عليه، فجنبهم بحكمته الخلاف والنزاع.

وبعد البعثة تجلت حكمته -صلى الله عليه وسلم- في حسن معاملته لمن حوله سواء من آمن به واستجاب لدعوته أو من خالفه ولم يؤمن به، هل دعا بالهلاك على أهل الطائف وهم الذين ضربوه بالحجارة حتى سال عرقه ودمه، وأبى أن يدعو عليهم بل قال: عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا. هل نفعل هذا مع من آذونا؟!

وعندما فتح مكة وسمع أحد أصحابه يقول: اليوم يوم الملحمة، أي الانتقام والثأر، فأبى هذا المنطق وخاطب أهل مكة وهم الذين طردوه وتآمروا على قتله وقتلوا أصحابه أمام عينيه وحاربوه سنين طويلة وألبوا عليه القبائل، قال: "ما تظنون أني فاعل بكم؟!"، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

وكيف آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة فأقام أمة متراحمة تعبد ربًا واحدًا؟!
عباد الله كم من قلوب قاسية لانت بسبب الحكمة؟! وكم من قلوب صافية طاهرة انكسرت ولم تلتئم جراحها من سنين بسبب الطيش والعجلة وعدم الحكمة؟! كم من نفوس شاردة عاصية أقبلت على ربها واصطلحت على مولاها بسبب الحكمة؟! وكم من عصاة بالغوا في عصيانهم وشردوا عن ربهم بسبب عدم الحكمة؟! كن حكيمًا وتعلم الحكمة، وادع الله أن يرزقك الحكمة، فهي رأس مال العقلاء. فكم من سفيه لا عقل له خرَّب بيته وضيع ماله وأهدر كرامته وجرَّأ عليه السفهاء والحمقى لأنه لم يكن حكيمًا.
فكم هو مُفرِّطٌ من لم يسعَى للحكمة؟ وكم هو أحمق من لم يُرِد الحكمة؟ وكم هو عبدٌ لمصالحه وشهواته من استنكَفَ عنها؟. فيا لله! ماذا يصنع فاقِد الحكمة؟! ويا لله! ماذا يخشى من أُوتِيَها؟!.

عند المُدلهِمَّات يُعرفُ الحكماء الذين لا تحكمُهم المصالحُ الشخصية والأهواءُ،
فما ظنُّكم بمجتمعٍ ترتفعُ فيه أصواتُ الحكماء؟ أترونَه سيُعاني من خلاف بني مجتمعه؟ أترونه يضِلُّ طريقَه؟ أترَونَه يكثُر فيه الخلاف والغِشُّ والظلم والأَثَرة والنِّزاع؟ والقتل والدمار كلا، وألف كلا!.

وأنتم -يا أهل اليمن- توجكم نبيكم -عليه الصلاة والسلام- بتاج الحكمة التي تجلت في أقوالكم وفعالكم عبر التأريخ.

أرسل عمر بن عبد العزيز إلى محمد بن كعب القرظي يوما، وهو أمير المدينة، يسأله عن قول الله -تعالى-: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54]، من هم؟ فقال محمد: هم أهل اليمن! قال عمر: يا ليتني منهم!.

أهل اليمن هم من علّم الدنيا السلام، هم من لقّن العالم المحبة، هم من نشر ثقافة الرفق، ورفع لواء اللين، وتجلت الحكمة في فعالهم في أحلك الظروف والملمات.

لغة القوة دخيلة عليهم، أحاديث العنف ليست من سماتهم، ثقافة الدم لا يؤمنون بها. ألم يسلموا برسالة وجذبهم إلى الإسلام كلمة؟ فلم ترق قطرة دم واحدة وقد دخلوا في دين الله أفواجا؟!.

هم أول من جاء بالمصافحة، شهد بذلك أنس بن مالك وهو يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقدم عليكم غدا أقوام هم أرق قلوبا للإسلام منكم"، قال أنس: فقدم الأشعريون من أهل اليمن، فيهم أبو موسى الأشعري، فما إن قدموا تصافحوا، فكانوا هم أول من جاء بالمصافحة. رواه أحمد وهو في السلسلة الصحيحة.

يقال هذا -يا أهل اليمن- لتعرفوا من أنتم، وأي رداء ألبستم، وبأي لغة تتحدثون؟ عندما كانت البشرية، تعيش حياة غير مستقرة، يسودها الخلاف، وينعدم فيها الائتلاف، ويعمها الاستخفاف، ويكتنفها الإسفاف، كنتم أنتم في حينها تعلّمون العالم مد الأيادي، وترفعون راية التفاهم والتآخي.

فالحكمة قد تجلت فيكم عبر الأزمان، تجلت الحكمة فيكم يوم احتكمتم إلى العقل لحل مشكلاتكم،

اين اهل الحكمة اليوم الذين يغلِّبوا لغة الحكمة على لغة التحريض، يغلبوا لغة الحكمة على لغة التحريش، يغلبوا لغة الحكمة على لغة النزاع، يغلبوا لغة الحكمة على لغة الفتنة وبث روح الفرقة وإذكاء نيران الصراع والخلاف. والقتل والدمار

الحكمة هي أبرز ما نحتاجه اليوم، فأين أهل الإيمان والحكمة؟ أين الحكماء في أقوالهم؟ أين الحكماء في فعالهم؟ أين الحكماء في تصرفاتهم؟ (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
أيها المسلمون: ومن أمارات الحكمة أن يكون المرء رشيداً في تصرفاته كلها، فيبدأ بالأهم فالأهم، ويأخذ بالأصلح فالأصلح، فإذا كان أمامه مصلحتان لا يمكن تحصيلهما جميعاً سعى في تحصيل أكبرهما وأنفعهما، وإذا تعارضت مصلحتان عامة وخاصة قدم العامة؛ لأنها أنفع وأشمل والأجر فيها أكمل، وإذا تبين له أنه يترتب على بعض تصرفاته مصلحة ومفسدة متساويتان، قدم ما فيه درء المفسدة، لأن درء المفسدة -عند التكافؤ- مقدم وأولى من جلب المصالح، وإذا كان لا بد من ارتكاب إحدى مفسدتين -لا مفر من ذلك- ارتكب أخفهما ضرراً وأقلهما خطراً.

أيها المسلمون: ومن أمارات الحكمة أن لا يدخل العاقل في أمر حتى ينظر في عواقبه، ويعرف سبيل الخلاص منه، فأحزم الناس من لم يرتكب عملاً حتى يفكر ما تجري عواقبه،
فاتقوا الله عباد الله، وتحلوا بالحكمة في سائر الأحوال، واسألوا الله المزيد منها، فإنها من أعظم النوال، واحذروا مما ينقصها أو يضادها، فإن السفه من أسباب مجانبة الصواب ونقص الثواب والخسران يوم الحساب
ورأس الحكمة مخافة الله جلا وعلا (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
هذا، وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون-، فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال -صلوات الله وسلامه عليه-: "من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".

اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم احقِن دماء إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماء إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماء إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم نفِّس كربَهم، وفرِّج همَّهم، يا ذا الجلال والإكرام.
أخوكم عبدالوهاب المعبأ
جوال 773027648
المشاهدات 1269 | التعليقات 0