مصلح ومصطلح ... (عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ودعوته)

عبدالله اليابس
1436/10/27 - 2015/08/12 16:37PM
مصلح .. ومصطلح الجمعة 4/8/1436هـ
الحمد لله رب العالمين سبحانه.. سبحان الذي في السماء عرشه ، سبحان الذي في الأرض حكمه.
سبحان من ملأ الوجودَ أدلةً *** ليلوح ما أخفى بما أبداهُ
سبحان من أحيا قلوب عباده *** بلوائح ٍ من فيض ِ نور هـــــداهُ
وأشهد إن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأنت إله الخلق ربي وخالقي *** بذلك ما عُمِّرتُ في الناس أشهد
تعاليت رب الناس عن قول من دعا *** سواك إلهًا أنت أعلى وأمجد
لك الخلق والنعماء والأمر كله *** فإياك نستهدي وإياك نعبد

وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه.
والله ما في الخلــق مثلُ محمدٍ *** في الفضل والأخلاق والعرفانِ
فهو النبي الهاشمـي المصطفى *** من خيرة الأنساب من عدنانِ
لو حاول الشعراء وصف محمدٍ *** وأتـوا بأشعار مـن الأوزانِ
ماذا يقـول الواصفـون لأحمدٍ *** بعد الـذي قد جاء في القـرآنِ


وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله .. وراقبوه في السر والنجوى.. واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. اسمحوا لي أن اليوم أن أُرجع بكم شريط التاريخ ثلاثمائة سنة إلى الخلف.. وأنتقلَ بحضراتكم إلى بداية القرن الثاني عشر الهجري ..
نحن الآن في نجد .. نجد .. التي تبعد عن هذا الجامع أقل من أربعمائة كيلو متر فقط ..
وها هي نجد من الناحية السياسية مقسمة إلى أمارات صغيرة كثيرة.. متناثرة متناحرة.. هذه الأمارات الصغيرة لا تعرف الأمن والسكينة إلا قليلاً, فهي مشغولة إما بالإغارة على جارتها .. أو بصد غارات الأعداء.. بل وصل الحال إلى إغارة أبناء القبائل والأمارات على بعضهم البعض..
أما الناحية الدينية في نجد فلم تكن بأحسن حالاً من سابقتها .. فقد كانت القبور والأضرحة.. تعبد عبادة من دون الله .. يدعى أصحابها وتطلب منهم الحاجات .. وتقرب لهم النذور.. ومن أشهر تلك الأضرحة ضريح زيد بن الخطاب رضي الله عنه الجبيلة, وفي شعيب غبيراء ضريح ضرار بن الأزور رضي الله عنه.
وفي بليدة يقال لها الفدّا يكثر فيها ذكر النخل المعروف بـ(الفحَّال).. فكان الرجال والنساء يأتون إلى هاته النخيل ويتبركون بها .. ويطلبون منها الزواج أو الولد.. وكانت المرأة إذا تأخرت عن الزواج تضم النخل بيديها وتقول: (يا فحل الفحول.. أريد زوجًا قبل الحول).. وكان هناك شجرة الطرفية ينتابها طوائف من الناس فيتبركون بها وتعلق فيها النساء الخِرَق إذا ولدن الذكور ليسلموا من الموت.
وكان هناك غار يسمى بغار بنت الأمير .. زعموا أنها اعتصمت به من فاسق أراد هتك عرضها ففلقه الله لها .. فكان الناس يرسلون له اللحم والخبز والهدايا تقربًا إليه..
كما انتشر الذبح من دون الله للقبور والأشجار والأحجار والأولياء.. وانتشرت النذور لهم.. والحلف بهم.. إلى آخر تلك المظاهر التي تذكرنا بما كان عليه أهل الجاهلية الأولى قبل مبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
في تلك الأجواء الأيام المظلمة والأحوال السيئة.. كان في بلدة العيينة من نجد رجل يقال له عبدالوهاب بن سليمان من قبيلة بني تميم .. كان عبدالوهاب عالمًا جليلاً من علماء الحنابلة .. وتولى القضاء مدة طويلة في العيينة وحريملاء.. وكان والده سليمان من أشهر العلماء في عصره, بل كان مرجعًا للعلماء وله كتاب مشهور في المناسك كان مرجع الحنابلة في ذلك الوقت.
في عام ألف ومائة وخمسة عشر من الهجرة النبوية رزق القاضي الشيخ/ عبدالوهاب بابن اختار له اسم (محمد) ..
اعتنى عبدالوهاب بوليده الصغير.. حيث لمس منه ذكاء حادًا, وقوة في الحفظ والفهم, فاعتنى أولاً بتدريسه القرآن الكريم, فحفظ محمد القرآن وهو دون العاشرة من العمر, ثم درس كتب الفقه الحنبلي على يد والده, وطالع كتب الحديث والتفسير بكثرة على صغر سنه, وقد أعجب عبدالوهاب بابنه إعجابًا شديدًا حتى أنه كان يذكر أنه يستفيد من ذكاء ابنه وسعة اطلاعه أيام تدريسه, بل بلغ من شدة إعجاب عبدالوهاب بابنه محمد رحمهما الله أنه كان يقدمه لإمامة الصلاة رغم حداثة سنه.
لما وصل محمد إلى سن البلوغ ذهب إلى الحج وأقام لمدة شهرين في المدينة المنورة يطلب العلم, ثم لما عاد إلى العيينة اشتغل بطلب العلم من والده ونسخ الكتب العلمية حتى نقل عنه أنه كان يكتب عشرين صفحة في الجلسة الواحدة.
ثم حج محمد مرة أخرى وزار المسجد النبوي .. والتقى هناك بجمع من العلماء درس على أيديهم الفقه والعقيدة والحديث وغيرها من علوم الشريعة, ثم توجه من المدينة إلى البصرة لطلب العلم, ومنها إلى الأحساء ثم عاد إلى بلدة حريملاء التي انتقل والده للسكنى بها.
لاحظ الفتى محمد أن البدع والخرافات والشرك التي كانت تحيط به ليست من الإسلام في شيء, فهي تخالف ما يدرسه ويتعلمه ويقرأه في كتاب الله تعالى, فهو على سبيل المثال يشاهد التبرك والتمسح بالقبور والأضرحة, ودعاء أصحابها من دون الله.. وفي الوقت نفسه يقرأ في كتاب الله قوله تعالى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}, فسماه الله تعالى شركًا .. وفي الوقت الذي يشاهد فيه الناس تحلف بغير الله تعالى وهو يقرأ حديث ابن عمر عند الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله، فقد كفر أو أشرك".
تاقت نفس الشاب محمد إلى تغيير هذا الواقع المرّ الذي تعيشه أمة الإسلام آنذاك, وإلى تصحيح معتقد الناس الذين ران عليه سواد الجهل والشرك والضلال, فانتفض آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر, يجوب أماكن الناس ونواديهم, يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن الشرك, وكانت قدوة محمد في ذلك منهج محمد صلى الله عليه وسلم.
فاجتمع حوله في حريملاء مجموعة كبيرة من الطلبة, وألف في تلك الفترة كتاباً أسماه "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد" لم يضع فيه شيئًا غير الآيات والأحاديث التي توضح التوحيد وتبينه, وقسم هذه الآيات والأحاديث على أبواب ووضع على كل باب عنواناً.
اشتد العداء من الجهلة والمنتفعين على الشيخ محمد.. فتحالف مع أمير العيينة عثمان بن معمر والذي اقتنع بدعوة التوحيد, وأصبح أمير العيينة يحمي دعوة التوحيد.
في تلك الفترة انتشرت دعوة التوحيد, وعاد الناس في العيينة للصلاة مع الجماعة وصيام رمضان وإيتاء الزكاة بعد أن كادت تنسى, بل قام الشيخ محمد بهدم القبة التي كانت على قبر زيد بن الخطاب بنفسه.
بعد ذلك تعرض أمير العيينة لضغوط سياسية اضطرته للتخلي عن نصرة الشيخ محمد فذهب إلى الدرعية وقت العصر فنزل في بيت ابن سويلم والذي أصبح فيما بعدُ مركزًا للدعوة والتوحيد, فلما علم به أمير الدرعية محمد بن سعود رحمه الله زاره فعرض عليه الشيخ محمد أصول الدعوة التي يدعو لها وهي: (معنى لا إله إلا الله, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والجهاد) وألقى خطبة موجزة ذكر فيها المساوئ الموجودة في أهل نجد، ولفت نظره إلى إصلاحها فتأثر الأمير ونطق قائلا: "يا شيخ! إن هذا دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا شك فيه، وأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به، والجهاد ممن خالف التوحيد، ولكن أريد أن اشترط عليك اثنين:
1. نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله، وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترتحل عنا وتستبدل بنا غيرنا.
2. إن لي على الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار أخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا.
قال الشيخ: أما الأولى: فابسط يدك. الدم بالدم والهدم بالهدم.
وأما الثانية: فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات، فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها.
فبايع الأمير على يد الشيخ، وعهد إليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: كان من ثمرات تلك البيعة بين الشيخ محمد بن عبدالوهاب والإمام محمد بن سعود انتشار دعوة التوحيد, وتطهرت الجزيرة من دنس الشرك, وأزيلت القباب من على القبور, وعاد الناس لدينهم بفضل الله تبارك وتعالى, ومن ثمرات تلك البيعة ما تنعم به هذه البلاد حالياً من نعمة التوحيد وانتشار مظاهر التدين ولله الحمد.. ومن ثمارها أيضًا ما تنعم به هذه البلاد من نعمة الرخاء والمال الوافر.
إن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب كما علمتم هي دعوة للعودة إلى التوحيد الخالص الذي أرسل الله تعالى لأجله الرسل, وأنزل الكتب, فهي لم تأت بجديد من عند أصحابها .. وإنما كانت مطالبة بالعودة للدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم فقط.
ولقد تعرضت هذه الدعوة إلى حملات كثيرة تشويهية فتارة يسميها مناوؤها بالوهابية.. وهي تسمية خاطئة لغة وواقعًا, أما لغة فإنهم نسبوا الاسم للأب .. ولم ينسبوه للمجدد محمد بن عبدالوهاب؛ إذ كان عليهم أن يسموها مثلاً المحمدية, وهي خطأ في الواقع لأن محمد بن عبدالوهاب لم يأت بأي دين أو مذهب أو قول جديد, وإنما غاية ما جاء به الدعوة للعودة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وفي ذلك يقول الملا عمران بن رضوان أحد معاصري الإمام محمد بن عبدالوهاب:
إن كان تابع أحمد متوهبًا *** فأنا المقر بأنني وهابي
إن السر في تسميتها بهذا الاسم (الوهابية) أن هناك فرقة من الخوارج نشأت في القرن الثاني الهجري بهذا الاسم وسماها بعضهم (الوهبية) كانت في شمال أفريقيا, عطلت شرائع الإسلام, وعاثت في الأرض فسادًا.. فأريد ربط هذه بتلك..
ومن المفاهيم الخاطئة المتعلقة بدعوة الشيخ رحمه الله أنها دعوة تكفيرية لكل من لا ينتسب إليها, وقد راجت هذه الفرية في زمن الشيخ رحمه الله, ما دفعه لتفنيدها والرد عليها حيث قال: "وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبة عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله أو لم يهاجر إلينا ولم يَكفُر ... سبحانك هذا بهتان عظيم)
ومن أعظم البهتان الذي ألحق بدعوة الشيخ رحمه الله أنها دعوة تبغض أهل البيت رضي الله عنهم, ويكفيك لدحض هذه الفرية أن تعلم أن الشيخ له ستة من الأبناء منهم حسن وحسين وعلي, وابنته الوحيدة اسمها فاطمة!
وفي عام 1206هـ وافت المنية الشيخ محمد بن عبدالوهاب .. بعد حياة عامرة بالعلم والعمل.. والدعوة إلى الله تعالى..
رحم الله الشيخ محمد .. وجزاه عنَّا خير الجزاء, وجمعنا به في دار كرامته, مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقًا.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات

مصلح ومصطلح.doc

مصلح ومصطلح.doc

المشاهدات 2510 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


جُزيت الجنّة يا شيخ عبدالله