مُشَاهَدَاتِي فِي حَجِّ عَام 1444هـ.
أ.د عبدالله الطيار
الحمدُ للهِ ربِّ الْعَالَمِينَ، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ هَدَانَا لِلْمَنَاسِكِ، وَبَيَّنَ لَنَا الشَّرَائِعَ وَالمَقَاصِدَ، وأشْهَدُ ألّا إِلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسُولُهُ، أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَهِدَايَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْشَادًا لِلتَّائِهِينَ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ إلى يوم الدين، أمَّــا بَعْـدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) آل عمران: [102].
أيُّهَا المُؤمنونَ: نَحْمَدُ اللهَ عزَّ وجَلَّ عَلَى التَّمَامِ، وَنَسْأَلُهُ المزِيدَ مِنَ الْفَضْلِ وَالإِنْعَامِ، فَقَد امْتَنَّ عَلى المسلِمِينَ عَامَّةً، وَعَلى بِلادِنَا خَاصَّةً بِتَمَامِ حَجِّ هَذا الْعَام 1444هـ بَأَمْنٍ وَأَمَانٍ وَرَاحَةٍ وَسَلامٍ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَنْ يَسَّرَ لِلْحَجِيجِ حَجَّهُمْ، وَبَلَّغَهُمْ أَوْطَانَهُمْ، مُطْمَئِنِّينَ سَالِمِينَ.
عِبَادَ اللهِ: والحجُّ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ تَتَجَلَّى فِيهَا مَوَاقِفٌ إِيمَانِيَّةٌ وَدُرُوسٌ عقديَّةٌ وتَرْبَوِيَّةٌ يَنْبَغِي على المسْلِمِ أَلا يَغْفَلَهَا بَلْ يَجِبُ إِبْرَازُهَا والتَّذْكِيرُ بِهَا، ومِنْ تِلْكَ الدُّرُوسِ مَا يَلِي:
أوَّلًا: الأمَّةُ الإسلامِيَّةُ لا تَجْتَمِعُ إلا بِالاعْتِصَامِ بالكتابِ والسُّنَّةِ، فَلا اعْتِبَارَ لِجِنْسٍ وَلا حَسَبٍ وَلا نَسَبٍ، وَلا مِيزَانَ للتَّفَاضُلِ إلا بِتَقْوَى اللهِ عزَّ وجَلَّ، قالَ تعالَى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات: [13] لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلا لأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ وَلا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إلَّا بالتَّقوَى، مَلايِينٌ مِنَ البَشَرِ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُم وأَلْوَانُهُم وأَلْسِنَتُهُم، يُلَبُّونَ بِلِسَانٍ واحدٍ، وَزِيٍّ وَاحِدٍ، تَدَفَّقُوا لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ شَوْقًا وتَرَكُوا دُنْيَاهُمْ طَوْعًا، فِي مَشْهَدٍ يَنْطِقُ بِالْقُوَّةِ والائْتِلافِ، وَنَبْذِ الفُرْقَةِ وَالْخِلافِ.
ثَانِيًا: وَمِنَ الدُّرُوسِ العظيمةِ الّتِي تَتَجلَّى في عِبَادَةِ الْحَجِّ السَّمَاحَة والْيُسْر وَهِيَ قَاعِدَةٌ تَقُومُ عَلَيْهَا سَائِر الْعِبَادَاتِ، قَالَ تعالَى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج: [78] ومَا سُئِلَ النَّبيُّ ﷺ في حجة الوداع عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: (افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ).
ثالثًا: تَقْوَى اللهِ عزَّ وجَلَّ غَايَةُ الْغَايَاتِ، وَمُنْتَهَى الْعِبَادَاتِ، وأَعْظَمُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ المُسْلِمُ إِلَى مَوْلاهُ، وَيَتَزَوَّد بِهِ لِأُخْرَاهُ، فَقَدْ أَوْصَى اللهُ الْحَجِيجَ بِقَوْلِهِ: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) البقرة [197] وَبَعْدَ أَنْ شَرَعَ لَهُم ذَبْحَ الْهَدْي بَيَّنَ الْحِكْمَةَ بِقَوْلِهِ: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) الحج: [37].
رابعًا: السَّكِينَةُ سَمْتُ المُؤْمِنِ، وَعِفَّةُ اللِّسَانِ مَنْطقه، وغضُّ البَصَرِ شَامته، والأَمَانَةُ رِدَاؤُهُ، لا يَكْتَمِلُ إِيمَانُهُ إلا بِخُلُقٍ حَسَنٍ، وَصَبْرٍ جَمِيلِ، قال تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) البقرة: [197] والأخلاق أعظم ما يستقيه الحاج من حجه، وأكرم هدية يعود بها لأهله.
خامسًا: الحجُّ دَرْسٌ لاغْتِنَامِ الأَوْقَاتِ، وَاسْتِثْمَارِ الطَّاقَاتِ، وَإِعْمَارِهَا بِالطَّاعَاتِ، فَهَا هُوَ الْحَاجُّ يَنْتَقِلُ مِنْ عِبَادَةٍ لِأُخْرَى، وَمِنْ شَعِيرَةٍ لِشَعِيرَةِ، لا يَفْتُرُ عَزْمُهُ، وَلا تَخُورُ قُوَاهُ حِرْصًا عَلى تَمَامِ نُسُكِهِ، وَقَبُولِ حَجِّهِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَنْتَقِلَ هَذا المَعْنَى لِسَائِرِ حَيَاتِهِ قالَ تعالَى (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الحجر: [99].
سَادِسًا: فَضْلُ عِبَادَة الذِّكْر الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ غَرْسًا لِلْجِنَانِ، وَشَرَعَهُ بِكُلِّ لِسَانٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ وَآنٍ، وَفِي الْحَجِّ يَتَجَلَّى الذِّكْرُ عِبَادَةٌ لازِمَةٌ لِكُلِّ شَعِيرَةٍ، وَقَرِينَة كُلِّ نُسُكٍ، ومَا شُرِعَ الطَّوَافُ والسَّعْيُ، والرَّمْيُ والنَّحْرُ، إلا لإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
فَيَا مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللهِ الْحَرَام هَذا العَام: شَكَرَ اللهُ سعيَكم، وأدامَ سعدَكم، قد وطِئتُم أرضَ الحرَم، واكتحلَتْ عيونُكم بمرأى الكعبةِ المُشرَّفةَ، وبُلِّغْتُم هذا البيتَ العتيقَ، وأنهيتُمْ مناسِكَ الحجِّ، فلكم تُزفُّ التهاني ببُلوغِ هذه الأماني، واللهُ المسؤولُ أن يُتِمَّ علينا وعليكم النعمةَ، ويتفضَّلَ بالقبولِ والرِّضَا. أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرِّجِيمِ: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) البقرة: [200-202]، أقولُ قَوْلِي هَذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:
الحمدُ للهِ على إِحْسَانِهِ والشُّكْرُ له على توفيقِهِ وامتنانِهِ وأشهدُ ألّا إلهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، الدَّاعِي إلَى رضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ: واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ شُكْر النِّعَمِ التَّحَدُّثَ بِهَا، والثَّنَاءَ عَلى المُنْعِمِ سُبْحَانَهُ، ومَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى بِلَادِنَا مِنْ خِدْمَةِ الْحُجَّاجِ والمُعْتَمِرينَ، وَرِعَايَتِهِمْ، والقِيَامِ عَلى شُؤونِهِم، ومَا مَنَّ اللهُ عزّ وجلّ على بلادِنَا مِنْ قِيَادَةٍ حَكِيمَةٍ رَشِيدَةٍ، ورِجَالٍ مُخْلِصُينَ وَجُهُودٍ مُضْنِيَةٍِ، وتَوْظِيفٍ لِلْكَوَادِرِ الْبَشَرِيَّةِ والتِّقَنِيَّةِ والمَادِّيَّةِ، كَلَّلَهَا اللهُ عزَّ وجَلَّ بِنَجَاحٍ لا مَثِيلَ لَهُ، فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
عباد الله: شَاهَدْنَا فِي حَجِّ هَذا الْعَامِ 1444هـ أمورًا تُثْلِجُ الصَّدْرَ، وخَدَمَات عظيمة تَضَافَرَتْ فيها جهودُ المخلصينَ العاملينَ في قطاعاتِ الحجِّ، فأثمرتْ نجاحًا باهرًا لمسهُ كلُّ حاجٍّ ومعتمرٍ وزائرٍ لمسجدِ رسولِ اللهِ ﷺ وجاءَ هذا النجاحُ الكبيرُ لحجِّ هذا العامِ 1444هـ؛ لِيُسْقِطَ جميعَ الأقنعةِ المزيفةِ، ويُخرسَ أبواقَ الكَذَبَةِ والمرتزقةِ والحاقدين. لقد شَرِقَ الإعلامُ الكاذبُ وأبواقُهُ المأجورةُ ومرتزقتُه الحاقدونَ على بلادِ التوحيدِ الذينَ راهنوا على فشلِ حجِّ هذا العامِ ولكنَّهم خابوا وخسروا وباؤوا بالفشلِ الذَّريعِ وفضحَ اللهُ كيدهُم في مشهدٍ حيٍّ واقعيٍّ رأيناهُ بأمِّ أعينِنَا، فنحمدُ اللهَ ونشكرُه ونسألُه المزيدَ من فضلِه، وهنيئًا لخادمِ الحرمينِ الشريفينِ وسُموِّ وليِّ عهدهِ وسائرِ قياداتِ الحجِّ والعاملينَ لخدمةِ الحُجَّاجِ فلهم أجرُ كلِّ حاجٍ وزائرٍ أدُّوا حجَّهم وعُمرتَهم وزيارتهم لمسجدِ رسولِ اللهِ ﷺ بيُسرٍ وسهولةٍ وألسنتُهم تلهجُ بالدعاءِ لهذا البلدِ المعطاءِ.
اللَّهُمَّ اقْبَلْ مِنَ الْحَجِيجِ حَجَّهُمْ، وَاخْلُفْ نَفَقَتَهُمْ، وَاغْفِر ذُنُوبَهُمْ، وَرُدَّهُمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ، فَرِحِينَ مُطْمَئِنِّينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِنا لكلِّ خيْرٍ، واصْرِفْ عنهُم كُلَّ شَرٍّ، واجْعَلْهُمْ ذُخْرًا للإسلامِ والمسلمينَ وَاجْزِهِمْ خَيْرَ الْجَزَاءِ عَلى ما يقدِّمُونَهُ لخِدْمَةِ الْحُجَّاجِ والمعْتَمِرِينَ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ رجالَ الأمنِ، والمُرَابِطِينَ، وَرِجَالَ أَمْنِ الْحَجِّ والْعُمْرِةِ والطُّرُقِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أيمانِهِمْ وعنْ شمائِلِهِمْ ومِنْ فَوْقِهِمْ، ونعوذُ بعظَمَتِكَ أنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَات، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ، واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وأُمَّهَاتِهِم، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا، وأزواجًنا، وجيرانَنَا، وَمَشَايِخنَا، ومَنْ لهُ حقٌّ علينَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجمعة 1444/12/19هـ