مشاعر السرور في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
عبدالله يعقوب
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.
أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ r، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنَّ يدَ اللهِ على الجماعة، ومن شذَّ عنهم فمات، فميتته جاهليةٌ والعياذُ بالله.
عباد الله: (الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللَّهِ، وَمَا وَالَاهُ، أَوْ عَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا). هكذا قال حبيبكم صلى الله عليه وسلم... فلا يكاد المؤمنُ في دنياه يجدُ شيئاً من السرورِ وانبساطِ النفس.. إلا ما قلَّ وندر.
أمضى سلطانُ الأندلسِ الناصرُ لدينِ اللهِ الأُموي، مدةَ ولايته التي استمرت خمسين عاماً.. أمضاها غازياً ومجاهداً في سبيل الله، وكان ذا همةٍ عاليةٍ ومطالبَ سامية، ومع اتساع ملكه.. وعظيم سلطانه.. وقهره لعدوه، إلا أنه وُجد بخطه (تأريخ) قال فيه: أيامُ السرورِ التي صفتْ لي دون تكدير في مدة سلطاني، يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا. فعُدّتْ تلك الأيام؛ فوجد فيها أربعةَ عشر يوما.
خلال خمسين عاما.. لم يصفُ له سوى أربعةَ عشرَ يوماً.. فمن يفرح بهذه الدار.. التي طُبعت على الأحزان والأكدار: (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ).
ومع ذا.. فمِن رحمةِ الله بعباده المؤمنين أن جعل لهم شعائرَ يطربُ لها القلبُ فرحا وسرورا.. ويختال تيها وحبوراً، لا يعرفها.. إلا من ذاق حلاوتها، ومن جرّب عرف: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ).
ألا وإنَّ مِن أعظمِ مقامات الإيمان، وأَرفعِ درجاتِ القلوب، فَرَحُها التامُ بما جاء بِهِ النبيُ r، قال اللهُ تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)، فاللهم ثبتنا على دينِك الحقِ حتى نلقاك.
أيها الكرام.. ثمت مواقفُ وأحداث، صحَّ بها الخبر، في سيرةِ سيِّدِ البشر r، تنضح ألقاً ونوراً، وبهجةً وحبوراً، إذا قرأناها وسمعناها: آنستنا وأسعدتنا وأفرحتنا، فكيف بمن عاصرها، أو عاش أحداثها ووقائعها لحظة بلحظة.
نذكر بعضا منها.. لتعلموا أن محمداً وصحبه كانوا بشراً من البشر.
في حياتهم الفرحُ واليُسر.. والحزنُ والعُسر.. وكلُّ الناس كذلك.
والمؤمن يتقلب بين أقدار الله، ولا منجا ولا ملجا من الله إلا إليه.
عباد الله.. لَمَّا خرج رَسُولُ اللَّهِ r مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى المَدِينَةِ، كَانَ الأَنْصَارُ يَخْرُجُونَ كُلَّ يَوْمٍ إِذَا صَلُّوا الصُّبْحَ إِلَى الحَرَّةِ يَنْتَظِرُونَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ.. رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعِ الأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنَ البِعْثَةِ، خَرَجُوا عَلَى عَادَتِهِمْ، فَلَمَّا حَمِيَ الحَرُّ رَجَعُوا، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى بُيُوتهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ، لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ r وَأَصْحَابَهُ مُبيِّضِينَ، يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ اليَهُودِيُّ أَنْ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ العَرَبِ، هَذَا جَدُّكُمْ الذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ المُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ، فتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ r بِظَهْرِ الحَرَّةِ، وَسُمْعَتِ الرَّجَّةُ وَالتَّكْبِيرُ فِي بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ في قباء، وَكَبّرَ المُسْلِمُونَ فَرَحًا بِقُدُومِه r، وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، فَتَلَقَّوْهُ وَحَيَّوْهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ، مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ r، يحي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ r، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ r، عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَحْدَقُوا بِهِ مُطِيفِينَ حَوْلَهُ، وَالسَّكِينَةُ تَغْشَاهُ، وَالوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ).
ولما غادر رَسُولُ اللَّهِ r قُباءَ متوجهاً إلى المدينة.. رَكِبَ نَاقتهُ، وَأَرْخَى لَهَا الزِّمَامَ، فَأتاهُ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سالِمِ بنِ عَوْفٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه! أَقِمْ عِنْدَنَا فِي العَدَدِ وَالعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ r: (خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ).
فَخَلُّوا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إِذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي بَيَاضَةَ، تَلَقَّاهُ رِجَالٌ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه! هَلُمَّ إِلَيْنَا، إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ r: (خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَة).
فَخَلُّوا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إِذَا مَرَّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ، اعْترَضَهُ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، هَلُمَّ إِلَيْنَا، إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ r: (خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ).
فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّه r المَدِينَةَ بَعْدَ الجُمُعَةِ، فِي جَوٍّ مَشْحُونٍ بِالفَرَحِ وَالبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، ارتجَّتْ فيه البُيُوتُ وَالسِّكَكُ بِأَصْوَاتِ التَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ، وَأَشْرَقَتِ المَدِينَةُ بِحُلُولهِ فِيهَا، وَسَرَى السُّرُورُ إِلَى القُلُوبِ، بِدخولِ الحَبِيبِ المَحْبُوبِ r.
قال البَرَاءُ بنِ عَازِبٍ: فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيءٍ.. فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ r، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ.. قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، وصَعَدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ البُيُوتِ، وَتَفَرَّقَ الغِلْمَانُ وَالخَدَمُ فِي الطُّرُقِ، ينَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّه! يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قال أَنَسُ بنُ مَالِكٍ: لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الذِي دَخَلَ رَسُولُ اللَّه r فِيهِ المَدِينَةَ، أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ.. فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ أَنْوَرَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ يَوْمِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّه r وَأَبُو بَكْرٍ المَدِينَةَ.
وَلَمْ تَزَلْ نَاقَتُهُ r سَائِرَةً بِه، حَتَّى إِذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ ابنِ النَّجَارِ -وَهُوَ مَوْضِعُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ اليَوْمَ - بَرَكَتْ، فَلَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا r حَتَّى نَهَضَتْ، وَسَارَتْ قَلِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ، وَرَجَعَتْ وَبَرَكَتْ فِي مَوْضِعِهَا الأَوَّلِ.
فَلَمَّا بَرَكَتْ.. وَضَعَتْ جِرَانَهَا، فنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّه r، وَذَلِكَ فِي بَنِي النَّجَارِ أَمَامَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ r: (هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ المَنْزِلُ)، ثمَّ قَالَ r: (أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟).
فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّه، هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا بَابِي، فَقَالَ لَهُ r: (فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا)، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ رَحْلَ النَّبِيِّ r فَوَضَعَهُ فِي بَيْتهِ.
وهنا أتساءل عن مشاعر أبي أيوبَ رضي الله عنه وهو يسعى في بيته.. يهيئُ لهما مقيلاً ومنزلاً.. فبالله عليكم.. مَن أسعدُ من أبي أيوب في تلك اللحظة، التي يحمل فيها متاعَ رسولِ الله.. ليكون ضيفه في بيته. مشاعر يعجز القلم عن تصويرها.. ويعجز اللسان عن بيانها. رضي الله عنهم وأرضاهم.
وهذه أم المؤمنين خديجة، تأتي رسولَ الله r بإناءٍ فيه طعام، فيقرؤها النبيُ r السلامَ من ربها سبحانه وتعالى ومن جبريل، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
فهل منزلة تضاهي تلك المنزلة..؟ وهل سعادةٌ تضاهي سعادتها.. وهذه الكلماتُ تقرع سمعها..؟ رضي الله عنها وأرضاها..
وهذا علي بن أبي طالب، يخلّفه النبيُ r في المدينة حين خرج إلى غزوة تبوك ليرعى أهل بيته، فلمزه المنافقون، فحمل عليٌ سلاحَه وخرج إلى الغزو، وأدرك رسولَ الله r ببعض الطريق، فقال له: ما أقدمك؟ فأخبره عليٌ بالخبر، فأمره أن يرجع، وقال له: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي)، فما أسعدها من مشاعر، وما أعلاها من مفاخر.
وهذا بطل من أبطال الإسلام.. عبدالله بن أنيس الأنصاري الجهني: يقوم بعمليةٍ بطوليةٍ لوحده، فيناوله النبيُ r عصا جائزةً له على بطولته، فقال: ما هذه العصا يا رسول الله؟ قال: (هذه العصا تتوكأ عليها في الجنة، والمتوكئون في الجنة قليل).
حدثني عن مشاعر أبي طلحة الأنصاري، وهو يضيّف ضيفَ رسول الله r، ويبيتُ هو وآلُ بيته جوعى، ويصبحُ الصباح فيغدو إلى رسولِ اللهِ r، فيخبره رسولُ الله r بخبرِ السماء: (لقد عجب ربُّكما من صنيعكما بضيفكما البارحة)، وأُنزلت آياتٌ من القرآن في شأنه، فهي تُقرأ إلى يوم القيامة: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
وأخبرني عن مشاعر فاطمة: عندما أخبرها الحبيب r بأنها سيدةُ نساء أهل الجنة.
وأخبرني عن مشاعر عائشة: عندما بشّرها النبي ﷺ في حادثة الافك ببراءتها من فوق سبع سماوات.
8- وحدثني عن أنصار الله وأنصار رسوله، في غزوة حنين، عندما خطب فيهم رسولُ الله قائلاً: (أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ r إِلَى رِحَالِكُمْ، لَوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ)، وقال لهم: (اللهم اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ، وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، وَلِأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ).
وحدثني عن مشاعر أبي بكرٍ الصديق: وهو يسمعُ النبيَّ r في مرض موته يقول: (مروا أبا بكر فليصل بالناس).
بل حدثني .. كيف هي مشاعرُنا ونحن نرى محمداً r يوم القيامة، يشفع لنا عند ربنا.. وهو الذي يبكي من أجلنا.. ويقول: يا رب أمتي أمتي.
فاللهم شفّع فينا نبيك وحبيبك محمدا صلى الله عليه وسلم
اللهم أحينا على سنته، وتوفنا على ملّته، وألحقنا به غير خزايا ولا ندامى ولا مفتونين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً حمداً.. والشكر لله شكراً شكراً..
عباد الله: إنّ من أهم الأمور التي يسعى الناسُ لتحقيقها في هذه الحياة: السعادة، بأن يكون المرءُ سعيدا في حياته، سعيدا في غدوه ورواحه، سعيدا بماله وصحته وأولاده، فهذا أمرٌ مطلوب.. ووجودُه محفّز للعمل.
وهنا بعضُ التوجيهات حول السعادة..
السعادةُ عبدَالله... تنبع من داخلك، ولا تهبط عليك من السماء، فأنتَ من يزرعها ويصنعها، بالرضا عن الله وأقدارِه، والثقةِ به، والاعتمادِ عليه، ثم بالعطاءِ والبذل، وإسعادِ الآخرين، ثم النظرةِ الإيجابيةِ المتفائلةِ لكل ما حولنا، وللواقعِ، والمستقبل.
كن قنوعاً بما عندك، منسجما متوافقا مع ذاتك وعقلك وقلبك وجوارحك وأحوالك وظروفك.. فليست السعادةُ أن لا تمرَّ بالآلام، وأن لا تواجه الصعاب، بل السعادةُ أن تحافظ على رَباطةِ جأشك، وهدوءِ أعصابك، وتفاؤلِ قلبك، وأنت تواجه الصعابَ والآلام.
كن قانعاً بما عندك، وراضياً عما أنت عليه، وأنظر إلى مَن هو أقلُ مِنك في النِّعم، ومَن هو أكثرُ مِنك في البلاء، وبذلك.. تنعم بالسعادة والهناء.
واعلم أنَّ السعادةَ دائماً.. تبدو ضئيلةً.. عندما نحملها بأيدينا الصغيرة.
لكن.. عندما نشاركها الآخرين.. سندرك كم هي كبيرةٌ وثمينة.
لذا.. بادر، وأفرِح الآخرين وأسْعِدْهُم، بكلمةِ تشجيعٍ هنا.. أو خدمةٍ إنسانيةٍ هناك.. يكون لها مفعولُ السحر على مَن حولك، ومِن شأنها أن تملأ قلبك فرحا وسرورا... وسعادة وحبوراً، وفي الحديث: (ومن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة).
فبادر ثم بادر.. ولا تنتظر ظروفاً مثالية أو أموراً معينة حتى تسعد وتفرح، درّب نفسك على أن تسعد تفرح بكل الأمور في حياتك حتى العادية منها كما يقال، افرح بيومك الجديد، واسعد بصحتك، وافرح بأهلك وصحبك ومَن حولك.
لا تدع أحداً يسرق مِنك سعادتك... ولا تجعل فرحك وسعادتك يتوقفان على مدح الآخرين لك، أو ردود أفعالهم نحوك.
واعلم أنَّ مَن كان ينتظر الحصول على كل شيء ليصبح سعيداً، فلن يحصل على السعادة في أي شيء.
إذا علمتَ ذلك.. فاعلم أنَّ السعادةَ مراتبُ ودرجات، وأعلاها رأساً وأعظمها أُسَّاً.. إنما تُنال بفضل الله ورحمته وتوفيقه: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
ألا فاتق اللهَ عبدَ الله، واغتنم ممرَّ الساعاتِ والأيامِ والأعوام، وحاسبْ نفسك قبل الحساب، فقد سَعَدَ من لاحظها وحاسبها، وفاز من تابعها وعاتبها، واستدركْ من العمرِ ذاهباً، ودع اللهوَ جانباً، وقم في الدجى نادماً، وقفْ على الباب تائباً، بلسانٍ ذاكر، وجفنٍ ساهر، ودمعٍ قاطر: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) أخرجه مسلم.
فأحسن فيما بقي، يُغفر لك ما مضى، فإن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي.
اللهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ صِحَّةً في إِيمَانٍ، وَإِيمَانًا فِي حُسْنِ خُلُقٍ، وَنَجَاحًا يَتْبَعُهُ فَلَاحٌ، وَرَحْمَةً مِنْكَ وَعَافِيَةً، وَمَغْفِرَةً مِنْكَ وَرِضْوَانًا.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله.. سيدنا محمد بن عبدالله.. كما أمركم بذلك ربكم فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً).
اللهم صل وسلم، وزد وبارك وأنعم، على عبدك ورسولك نبينا محمد.