مُسْتَنْقَعُ المخدِّراتِ، انهزامٌ وهلاكٌ
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ يهدي مَنْ يشاءُ إلى صراطٍ مُستَقيمٍ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له؛ السّميْعُ العليمُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أكمَلَ اللهُ بشريعَتِه الرسالاتِ، وأتمَّ بها النِّعْمَةَ على البشريَّةِ، فكانتْ شاملةً لكلِّ شيءٍ في الحياةِ الدُّنيَويَّة؛ صلى الله وسلّم عليه، وعلى آلِه والصحابةِ أجمعينَ، وعلى مَنْ تبعَهمْ بإحسانٍ وتسليمٍ، إلى يومِ الدِّينِ..
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسِي بتقوى اللهِ "وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ"
معاشرَ المؤمنينَ: قالَ اللهُ تعالى مخاطباً العدوَّ إبليسَ : "وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا "
قالَ المفسرونَ: إنَّ معنى " وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ" أي: اجْمَعْ عليْهِم كلَّ ما تقْدرُ عليهِ مِنْ مَكَايِدِكَ، فإبليسُ عدوُّ آدمَ وذريَّتَه؛ لمْ يَدَّخِرْ سبيلاً، ولنْ يتركَ مجالاً في إضلالِ بني آدمَ وإغْوَائهم، وقدْ أخذَ على نَفَسِه عهداً بذلكَ فقالَ: "ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ"
فحربُهُ علينا معَ كلِّ جَبْهةٍ وجِهةٍ؛ حربٌ لا تَضَعُ أوْزارَها، ولا تنَطفئ نارُهَا؛ ولا يَشيخُ جنودُها، ولا تَنْقَطِعُ مُؤنَتُها.
وما حربُ المخدِّراتِ المُسْتَعِرةُ نارُها علينا وعلى شبابِنا، ووطنِنا، وأوطانِ المسلمينَ في هذا العَصْرِ؛ إلّا حرْبٌ إبليسيّةٌ شيطانيّةٌ، يَشُنّها جنودُ إبليسَ وأعْوانُه؛ على البشريَّةِ عموماً، وعلى المسلمين خصوصاً؛ فكلُّ مهرِّبٍ ومروِّجٍ لها، وكلُّ بائعٍ ومسوِّقِ وناشرٍ لها؛ جنديٌّ مِنْ جنودِ إبليسَ، وشيطانٌ مِنْ شياطينِ الإنسِ، وعدوٌّ حاقدٌ، ومُجرِمٌ فاجِرٌ.
عبادَ اللهِ: الحكمَاءُ يقولونَ: الوقايةُ خيرٌ مِنَ العلاجِ، والعلماءُ يقولونَ: الدَّفْعُ أيْسَرُ مِنَ الرَّفْعِ، فَمِنْ هاتينِ الحِكْمَةِ، والقاعِدَةِ؛ نتيقَّنُ أنَّ حِفْظَ ناشِئتِنَا وأولادِنا مِنَ المخدِّراتِ، وتوعيتَهم بأخطارِها، وأضرارِها، وتبْصِيرَهم بأنواعِها وأشكالِها، وتعريفَهم بحيَلِ وطرُقِ مروِّجيْها، وتَنْبيهَهَم
لصفاتِ مُتعاطيْها ومُدْمِنيها، كلُّ ذلكَ واجبٌ متحتِّمٌ، ومسؤوليةٌ أوَّليّةٌ مِنْ مسؤولياتِ الوالدين.
أيّها الآباء والمربُّونَ: مِنْ أعظمِ وسائلِ وقايةِ أولادِنا مِنَ الوقوعِ في شَرَكِ المخدِّراتِ، وحبائلِ المروِّجينَ: أنْ نكونَ آباءً صالحينَ وقُدواتٍ حَسَنَةً لأولادِنا، وأنْ نحتويهمْ عاطفيِّاً، وروحيَّا، وأنْ لا نَضَعَ بيننا وبينهمْ حواجزَ نفسيَّةً، أو فَجَوَاتٍ بمسمّياتٍ لا تَبتُّ للتربيةِ بصلةٍ، ولا تنمُّ عن قيمةٍ خُلُقُيَّةٍ تربويّةٍ؛ فبعضُ الآباءِ يَصْطَنِعُ له شخصيَّةً مُهابَةً، ويعيشُ في درجةٍ فوقيَّةٍ عن أولادِه، فلا يتبسّطُ معهم في حديثٍ، ولا يستمعُ منهم لمشكلاتِهم، وهُمُومِهمْ، ولا يتناقشُ معهم في حاجاتِهم ومُتطلّباتِهم، وكذلكَ هو ضعيفٌ ومُقَصِّرٌ في المراقبةِ والمتابعةِ والسؤالِ؛ عن ذهابِهم ومجيئهِم، وعن جُلسائهم وأصدقائهم، فالصاحبُ ساحبٌ، وفي الحديث " الرجلُ على دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم من يُخالِلُ " رواهُ أبوداودَ وغيره عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، وحسَّنَه الألبانيُّ. فهؤلاءِ الأولادِ يكونونَ صيداً سهلاً، لمروِّجي المُخدِّراتِ، سُرعانَ ما يَقَعُونَ في شِرَاكِهمْ، ويَسْقُطونَ في فِخَاخِهم.
كما أنَّ تقويَةَ الوازِعِ الدِّينيِّ لدى الأولادِ؛ مِنْ أعْظمِ الحُصُونِ التي تحفظُهُم مِنَ المُخدِّراتِ وأصحابِها، ومِنْ أقوى الحواجزِ التي تَمْنَعُهُم عن الوقوعِ فيها، فَمَنْ حَفِظَ اللهَ حَفِظَه، ومَنْ اتقى اللهَ وَقاهُ، ومَنْ راقبَ اللهَ خافَهُ وخشاهُ، قالَ الإمامُ ابنُ بازٍ رحمَه الله: (فإذا استقامَ العبدُ على دينِ اللهِ، وعَرَفَ واجبَهُ، وعرَفَ ما حرَّمَ اللهُ عليهِ، صارَ لديه وازعٌ مِنْ قَلْبِهِ، وازعٌ مِنْ دِيْنِهِ، وازعٌ مِنْ إيْمَانِهِ، يَمْنَعُه مِنَ الجرائمِ كُلِّها، ولو كانتْ بينَ يَديْه لم يأخذْ مِنْها شيئًا، يَمْنَعُه محبّتُهُ للهِ، وخوفُه مِنَ اللهِ) انتهى كلامه.
وترتيبُ وقتِ الأولادِ، ومَلءُ فراغِهِم، وإشغالُهم بما يفيدُ وينفعُ؛ مِنْ أٍسبابِ حفظِهِمْ ـــ بإذن اللهِ ـــ مِنْ وَحَلِ المُخدِّراتِ ومُسْتنقَعاتِها.
معاشرَ المسلِمينَ: أنواعُ المخدِّراتِ كثيرةٌ لا تُعَدُّ، ومُتنوعَةٌ تصْعبُ الإحاطة بها، لكنْ هناكَ أنواعٌ يَكثرُ استخدامُها، وَوَاسِعٌ انتشارُها، ومِنْ أكثرِها تعاطياً، وإدماناً؛ الكبتاجون، والحشيشُ، والهيرويينُ، وهذه الأنواعُ كلُّ واحدٍ منها أخبثُ مِنَ الآخَرِ، في شدَّة ضررِهِ على العَقْلِ، والجسمِ، والنّفْسِ، والرُّوْحِ، وظَهَرَ في السنواتِ الأخيرةِ نوعٌ يشاركُهُا في أخطارِها، وأضرارِها، وشرورها؛ بلْ يفوقُها في الخُطُورةِ، وسُرْعَةِ الضَّرَرِ والضَّراوةِ، وقوَّةِ العَطَبِ، ويُعتبرُ مِنْ أعنَفِ المخدِّراتِ في تَدْمِيْرِ حياةِ المُتعاطي، والقضاءِ عليه بفترةٍ وجيزةٍ قصيرةٍ؛ ذلكم النّوعِ يسمّى: (الشَّبُو) ويسمّى في أوساطِ مروِّجيه ِومتعاطيهِ أيضاً بـ (الكريستالِ، والثّلْجِ، والسّابو، والغُلاسِ) كلُّ هذه مسمياتٌ له، وهو مُخدِّرٌ يتم تَصنيعُه مِنْ مادةٍ تُعدُّ مِنَ المُنبِّهاتِ القويَّةِ التي تؤثرُ على الجهازِ العصبيِّ المركزيِّ، وتزيدُ تلكَ المادةُ مِنْ كميَّةِ التأثيرِ على الدِّماغِ، وهذا يؤدي في النهايةِ للإصابةِ بالإدمانِ السريعِ مِنْ أوَّلِ جُرْعَةِ تؤخذُ منها، ويعدُّ مِنَ المُنَشِّطَاتِ التي تزيدُ السُّلوكَ العدوانيَّ والعُنْفَ عندَ المُتَعَاطِي، ويؤدِّي إلى ارتكابِ الشَّخْصِ للجريمةِ بـدمٍ باردٍ ويفتخرُ بها في بعضِ الأوْقَاتِ.
وتؤدي مادةُ (الشَّبُوِ) إلى فقدان ِالمتعاطيَ الارتباطَ بالواقعِ، والانْفِصَالَ عنه، وتقودُه للإصابةِ بأمراضِ الفِصَامِ، وجنونِ العَظَمَةِ، والارْتِيَابِ الشّدَيْدِ بالآخرينَ، والهَلاوِسِ السَّمْعِيَّةِ والبَصَريَّةِ، وقدْ يُعاني متعاطي (الشَّبُو) مِن عَدَمِ النَّومِ عِدَّةَ أيامٍ بسببِ القوَّةِ الشَّديدَةِ في تنبيهِهِ للجهازِ العصبيِّ.
و(الشَّبُوُ) يكونُ على شكلِ بلّوراتٍ صَغِيرَةٍ تُشبِهُ الجلِيْدَ، أوْ مسحوقٍ أبيضَ يُشْبِهُ الكِريسْتَالَ، لهُ رائحِةٌ قويَّةٌ، وطَعْمٌ مرٌّ، يُمْكِنُ حَقْنُهُ، أوْ تَدْخِيْنُهُ، أوْ شَمُّهُ، أو ابْتِلاعُهُ.
ويُرَوِّجُ لها مُرَوِّجوْها بِدَعاوى كاذِبةٍ، وشُبهاتٍ زائفةٍ؛ فيُوهِمونَ الشّخصَ بأنّهُ إذا تعاطَاهَا ستغْمُرُهُ السَّعادَةُ، ويَنْشَرِحُ صَدْرُهُ، وتَذْهَبُ ضِيْقَتُه، وتزيدُ ساعاتُ عَمَلِه، وتكْثرُ إنتاجيَّتُه، وأنَّها تزيدُ مِنْ قوَّتِهِ الجنْسيَّةِ؛ وهذا كُلُّه هُراءٌ وافتراءٌ، وباطلٌ؛ نهايتُه؛ العَجْزُ، والضَّعْفُ، والانهزامُ، والفقرُ، وخسارةُ كلِّ شيءٍ، ومآلٌ إلى المصحّاتِ النَّفْسِيَّةِ، أوْ العُزْلَةِ الاجتماعيَّةِ، والوِحْدَةِ والاكتئابِ، والانكسارِ بعدَ الانحسارِ والبَوَارِ.
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ، والسُنّةِ، ونفعنا بما فيهما مِنَ الآياتِ والحكمةِ..
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ واهبِ العقولِ، المُنْعِمِ على العبدِ فوقَ المَرْجوِّ والمأمولِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له؛ لا يُكَلِّفُ نفساً إلّا ما تَطُوْلُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُهُ، الشافِعُ في الموقفِ المَهُوْلِ، صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آله وأصحابِه، ومَنْ تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ القيامةِ والمُثُولِ ..
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"
معاشرَ المؤمنينَ: رأسُ الحَرْبةِ في حَرْبِ المخدِّراتِ؛ هم مُهَرِّبوهَا ومُروِّجوهَا، وهم يعملونَ وفقَ دوافعَ خبيثةٍ، ومُغرِياتٍ ماديّةٍ، وينفِّذُونَ ما يُريْدُه أعداؤنا؛ مِنْ تضييعِ شبابِنا، وهدْم اقتصادِنا، وتفكيكِ مجتمعِنا، وإضعافِ قوتّنِا، وهدْمِ حضارتِنا، وإذابةِ هويّتِنا، وسلْبِ أموالِنا.
فالواجبُ علينا جميعاً؛ مكافحتُهم، وفضحُهم، وعدَمُ التّستُّرِ عليهم؛ بلْ الإبلاغُ عنهم، والتّواصلُ معَ الجهاتِ الأمنيّةِ بخصوصِهم، وعدمُ إيوائهم، أو السكوتِ عنْهم، فهم مفسدونَ في الأرضِ، حقُّهم إقامةُ شرعِ اللهِ فيهم؛ وهو القتل كما أفتتْ بذلكَ هيئةُ كبارِ العلماءِ، حيثُ جاءَ في فتواها قولُهم: (وإنْ تكرَّرَ مِنْه ــ أي المروَّجُ ــ ذلكَ فيُعزَّزُ بِمَا يَقْطَعُ شرُّهُ عن المجتمعِ ولو كان ذلكِ بالقتلِ، لأنَّهُ بِفعْلِه هذا يُعْتَبَرُ مِنَ المُفسدين في الأرضِ، ومِمنْ تأصَّلَ الإجرامُ في نفوسِهم، وقدْ قَرَّرَ المحقِّقُونَ مِنْ أهلِ العِلْمِ أنَّ القَتْلَ ضَرْبٌ [أي: نوع] مِنَ التَّعزيرِ، قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ ـــ رحمَه اللهُ تعالى ـــ: "ومَنْ لمْ يَنْدَفِعُ فَسَادُهُ في الأرضِ إلّا بالقتلِ قُتِلَ، مِثْلُ قَتْلِ المُفرِّقِ لِجَمَاعَةِ المُسْلِمينَ؛ الداعي للبِدَعِ في الدين " انتهى كلامهم.
وبعدُ عبادَ اللهِ: هناكَ عيونٌ ساهرةٌ، ونفوسٌ مُتيقِّضةٌ، وهِمَمٌ متوثِّبةٌ، تكافِحُ وتُنافحُ مُهربي المخدِّراتِ؛ وتلاحقُهم وتتابعُهم في جُحُورِهم وأوكارِهم، وتتصيَّدُهم في مسالِكهم ووسائلِهم، وتكشِفُهُم في حِيَلِهم ومخطّطَاتِهم؛ صدَّ اللهُ ويصدُّ بسبَبِهمْ عن البلادِ والعبادِ شرّاً مستطيراً، وخطراً كبيراً، وبفضلِ اللهِ ثمَّ بسببِهم؛ تُمْنَعُ عن دخولِ البلادِ أطنانٌ وأطنانٌ، وملايينُ وملايينُ مِنْ هذه السمومِ، ومِنْ هذا البلاءِ، أولئكَ هُمْ رجالُ مكافحةِ المُخدّراتِ الذينَ يواجهونَ الأخطارَ، ويعملونَ الليلَ معَ النّهارِ، لحماية الوطنِ والمواطنِ والمقيمِ، ومعهم رجالُ الأمنِ الآخرين، والشرفاءُ مِنَ المواطنين، نسألُ اللهَ العليَّ القَدِيرَ أنْ يُعينَهم، وأنْ يُكَلِّلَ جهودَهم بالنَّجاحِ، وأنْ يحفظَهمْ، وأنْ يُعِيذَهم مِنْ شرِّ الأشرارِ، وكيْدِ الفُجّارِ، وطوارقِ الليلِ والنّهارِ.
هذا وصلّوا وسلموا على رسولِ اللهِ حيثُ أمركمْ بذلك الله إذْ يقولُ: إنّ اللهَ وملائكتَه يصلونَ على النبيِّ ...