مستريح ومستراح منه. 23 محرم 1439هـ (نص+ وورد + بي دي إف)
عاصم بن محمد الغامدي
الحمدلله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، فهي وصيته للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}.
عباد الله:
الحياة الدنيا مليئة بالتقلبات، يصبح الإنسان فيها سعيدًا ويمسي مهمومًا، وتارة يكون غنيًا، ثم تثقله الديون، وهي كذلك كثيرة التكاليف، فلا يستطيع المؤمن فيها الاسترسال في كل رغباته، ولذلك قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ». [أخرجه مسلم].
وما من أمر في هذه الدنيا -كرهه الناس أو أحبوه- إلا ولله سبحانه فيه حكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
وقد اتفق الناس مع كثرة اختلافهم وتنوعهم على كراهية أمرٍ لا يسلم منه أحد، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ». [رواه أحمد وصححه الألباني].
والموت مع ما فيه من قطع الناس عن الدنيا، وحجز الأهل والأحباب عن بعضهم، يظل أمرًا أوجد لحكمة، يكفي لتتصور بعضها أنْ تتخيل أنَّ الموت غيرُ موجود، وأن الناس من عهد آدمَ عليه السلام لا زالوا على قيد الحياة حتى ألان، فكم سيكون لديك شخص لتخدمه، وتزوره، وتعالجه، وكيف سيكون حالك كلما تقدم بك السن، هل تستطيع تدبر شؤونك بنفسك، وقضاء حاجاتك وتلبية رغبات أهلك، وهل سيشعر الناس بعد ذلك بقيمة الحياة؟
أيها المسلمون:
رغم صعوبة تقبل الموت، وألم وقعه على الميت وأهله، إلا أنَّه حقيقة لابد من تقبلها، وحسن الاستعداد لها.
والناس في الموت قسمان، لا ثالث لهما، فقد مُرَّ عَلَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ». [رواه البخاري ومسلم].
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا *** في يوم موتك ضاحكًا مسرورًا.
والراحة تبدأ مع المؤمن قبل خروج الروح، فالملائكة تتنزل عليه تطمئنه، وتبشره: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}.
فإذا مات المؤمن، انتقل من حياة التعب والكبد، إلى حياة البرزخ، غير فزع ولا مشعوف، وفي البرزخ يأتيه ملكان يسألانه عن ربه ودينه ونبيه، فإذا أجاب، «فُرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا، وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، وَيُقَالُ لَهُ: عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَالْجَنَّةُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَالنَّارُ». [رواه مسلم].
ويا لنعيم المؤمن حين يفارق هذه الدنيا، يفرش له من فراش الجنة، ويلبس من لباس الجنة، ويأتيه من نسيم الجنة وطيبها، ويفسح له في قبره، ويبشر برضوان الله تعالى وجنته، وينوَّر له قبره وينام نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب الناس إليه، ولذلك كله فهو يشتاق إلى قيام الساعة.
عباد الله:
بعد الوفاة حياة لا نستطيع تصور حقيقتها، إلا لو استطاع الجنين في بطن أمه تصور حياتنا الدنيا.
هل تعلمون أن أرواح المؤمنين تلتقي بعد الممات؟
وأنهم يتساءلون بينهم، ويأخذون أخبار بعضهم؟
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللَّهِ، وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ، حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ: مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ، فَيَسْأَلُونَهُ: مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَإِذَا قَالَ: أَمَا أَتَاكُمْ؟ قَالُوا: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْكِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الْأَرْضِ، فَيَقُولُونَ: مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ». [أخرجه النسائي وصححه الألباني].
وفي الحديث الآخر: «إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَلْتَقِي عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ، مَا رَأَى أَحَدُهُمْ صَاحِبَهُ قَطُّ». [رواه أحمد وهو حديث حسن].
وفي قول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}، إثبات للمعية على الإطلاق، فهي معية ثابتة في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، كما ذكره بعض العلماء رحمهم الله.
أيها المسلمون:
ينبغي أنْ لا تشغلنا كراهية الموت، عن حسن الاستعداد له، فالمؤمن تتعاقب عليه منذ وفاته البُشْرَيَاتُ، حتى إنه يرغب في قيام الساعة، طمعًا في الثواب الذي رأى مقدماتِه.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.
الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المسلمون:
فإن ثبوت نعيم المؤمن بعد الموت، لا يعني الحث على طلبه، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ». [رواه الترمذي، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ].
والأوقات والساعات كرأس المال للتاجر، وكلما كان رأس المال كبيرًا، كان الربح أكثر، ولذلك لما قال رجل لبعض السلف: طاب الموت، قال: يا ابن أخي لا تفعل، لساعة تعيش فيها تستغفر الله خير لك من موت الدهر، ولما قيل لشيخ كبير: أتحب الموت؟ قال: لا، قد ذهب الشباب وشره، وجاء الكبر وخيره، فإذا قمت قلتُ: باسم الله، وإذا قعدت قلت: الحمدلله، فأنا أحب أن يبقى هذا.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا». [رواه مسلم].
عباد الله:
قد يطلب الناس الموت لسبب دنيوي، أو ديني، أما الدنيا فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طلب الموت بسببها، بل لعل هذا الذي طلب الموت ليستريح مما به، أن ينتقل إلى تعب أكبر، فَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَاتَتْ فُلَانَةُ وَاسْتَرَاحَتْ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «إِنَّمَا يَسْتَرِيحُ مَنْ غُفِرَ لَهُ». [رواه أحمد وصححه الألباني].
أما طلبه لسبب ديني، فإنَّ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ". [رواه الترمذي وصححه الألباني].
وطلب الشهادة في سبيل الله ثابت عن الصالحين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ». [رواه مسلم].
فكونوا أيها الكرام من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واتقوا الله -رحمكم الله، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة؛ فإن الشقي من حرم رحمة الله، عياذًا بالله، ثم صلوا وسلموا على خير البرايا، فقد أمركم الله تعالى بذلك فقال عز من قائل: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.
المرفقات
ومستراح-منه-2
ومستراح-منه-2
عاصم بن محمد الغامدي
يبدو أن ملف البي دي إف لم يظهر مع الموضوع الرئيس
المرفقات
https://khutabaa.com/forums/رد/284052/attachment/%d9%88%d9%85%d8%b3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ad-%d9%85%d9%86%d9%87-3
https://khutabaa.com/forums/رد/284052/attachment/%d9%88%d9%85%d8%b3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ad-%d9%85%d9%86%d9%87-3
تعديل التعليق