مسائل مهمة في الغيبة
عبد الله بن علي الطريف
مسائل مهمة في الغيبة 1444/7/5هـ
أيها الإخوة: يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:12]،
في هذه الآية ينهى الله تعالى عن أعظم طوام اللسان، وأخطر مزالقه، وأيسر أعماله وأشهى مقوله وهي الغيبة.. وحذر منها المصطفى ﷺ أيما تحذير، فَقد قَالَ: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ». رواه أبوداود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وصححه الألباني.. وقَالَ لعَائِشَةَ لما اغتابت بالإشارة: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» رواه أبو داود وصححه الألباني وكفى بهذه الآية والأحاديث زاجراً وَذِكْرَى (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
أيها الإخوة: هناك تساؤلات متعددة تدور في نفس المسلم عن الغيبة تحدث عنها أهل العلم وبينوا أحكامها نذكر منها: أولاً: ذكر الشخص بما فيه مما يكره هل هذا من الغيبة المحرمة.؟
أجاب على هذا رسول الله ﷺ فقال: وَالْغِيبَةُ «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ».. وَسَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: مَا الْغِيبَةُ؟ فَقَالَ: «أَنْ تَذْكُرَ مِنْ الْمَرْءِ مَا يَكْرَهُ أَنْ يَسْمَعَ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إذَا قُلْتَ بَاطِلًا فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ» رواه مالك في الموطأ وصححه الشيخ الألباني. الْبُهْتَانُ الذي جعله ابن حجر الهيثمي رحمه الله في الزواجر: (الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ: الْبُهُتُ) فقال: وهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْغِيبَةِ، إذْ هُوَ كَذِبٌ فَيَشُقُّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، بِخِلَافِ الْغِيبَةِ لَا تَشُقُّ عَلَى بَعْضِ الْعُقَلَاءِ؛ لِأَنَّهَا فِيهِ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ قول النَّبيُّ ﷺ: «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ» وحسنه الألباني. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قولَ النَّبيِّ ﷺ: «مَنْ ذَكَرَ امْرَأً بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ لِيَعِيبَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَاذِ مَا قَالَ فِيهِ» قَالَ الْمُنْذِرِيّ إِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ قَالَ: فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ وَلَيسَ بِخَارِجٍ». رواه أبو داود والحاكم والطبراني والبيهقي وقال الألباني صحيح. والبهتان من أشنع الأعمال وأذمها وهو الكذب الذي يبهت سامعه؛ أي: يَدْهَشُ له ويتَحَيَّرُ، وهو أفحشُ مِن الكذب، وإذا كان بحضرة المقول فيه كان افتراءً.
أيها الإخوة: التساؤل الثاني: يقول بعض الناس إذا قيل له لا تغتاب فلان قال: أنا مستعد أن أقول هذا الكلام بوجوده ويظهر عدم المبالاة.! وما علم أن هذا من إملاء الشيطان وتزيينه؛ لأن انتقاص المسلم في حضرته، شتم وسب له، ومن أذية المسلم المحرمة، قال ﷺ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» رواه البخاري. وقال ﷺ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». رواه مسلم. وقال الجرجاني "الغيبة: ذكر مساوئ الإنسان في غيبته وهي فيه، وإن لم تكن فيه فهي بهتان، وإن واجهه فهو شتم" انتهى
أيها الإخوة: ولو قال قائل: إذا تحدثت عن فعل غير مقبول وقع من مجهول الاسم والصفة هل هذا من الغيبة المحرمة.؟ نقول: الغيبة لا تكون إلا بتعيين الشخص المتكلم عنه، وفي حال إبهام اسمه ومعرفة السامعين له بعمله؛ تنزل منزلة التعيين، وأما مجرد ذكر الفعل دون ذكر تعيين الشخص، فهذا ليس بغيبة، وقد ثبت أن النبي ﷺ كان يقول: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ» وَقَالَ مَرَةً: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ» رواهما البخاري، وَقَالَتْ عَائِشَةَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي أَمْرٍ. فَتَنَزَّهَ عَنْهُ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَغَضِبَ حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث التي فيها ذكر أفعال دون ذكر أصحابها تحذيراً من فعلها، وعلى هذا إذا كان الشخص الذي تُكلم عنه غير معروف لدى السامعين، ومجهول لديهم فليس بغيبة..
أيها الإخوة: ومن التساؤلات: هل يجزئ قول: "رب اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات" عن الاستغفار لمن اغتبته، أم يجب الدعاء له بالاسم.؟ الجواب: لا يجزئ، بل لابد من تخصيصه.
ومن التساؤلات: ما كفارة الغيبة.؟ هي الاستغفار لمن اغتبته، والدعاء له، والثناء عليه في غيبته، ولا يعني كون الاستغفار كفارة للغيبة أنه كاف، بل لا بد من التوبة الصادقة التي يصحبها الإقلاع، والندم، وعدم العود، وصدق القلب في معاملة الخالق سبحانه، ثم يُرجى لمن جاء بهذه التوبة أن يغفر الله له ذنبه، ويعفو عنه خطيئته. أسأل الله تعالى أن يعفو عنا إنه جواد كريم..
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: أما حقوق العباد، ومظالم الخلق، فلا يكفرها إلا عفوُ أصحابها عنها ومغفرتهم لها قال شيخ الإسلام رحمه الله: وما يُلَائِمُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ الْمُجَرَّدَةَ تُسْقِطُ حَقَّ اللَّهِ مِنْ الْعِقَابِ. وَأَمَّا حَقُّ الْمَظْلُومِ فَلَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ وَهَذَا حَقٌّ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَسَائِرِ الظَّالِمِينَ، فَمَنْ تَابَ مِنْ ظُلْمٍ لَمْ يَسْقُطْ بِتَوْبَتِهِ حَقُّ الْمَظْلُومِ لَكِنْ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ أَنْ يُعَوِّضَهُ بِمِثْلِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَوِّضْهُ فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْعِوَضِ فِي الْآخِرَةِ فَيَنْبَغِي لِلظَّالِمِ التَّائِبِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الْحَسَنَاتِ حَتَّى إذَا اسْتَوْفَى الْمَظْلُومُونَ حُقُوقَهُمْ لَمْ يَبْقَ مُفْلِسًا، وَمَعَ هَذَا فَإِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَوِّضَ الْمَظْلُومَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ كَمَا إذَا شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ، وَفِي حَدِيثِ الْقِصَاصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أنيس قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ قَالَ: الْعِبَادُ - عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا" قَالَ: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: "لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ" قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قَالَ: "بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ" رواه أحمد وصححه الألباني. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ.. الحديث» رواه البخاري وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) وَالِاغْتِيَابُ مِنْ ظُلْمِ الْأَعْرَاضِ قَالَ: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)، فَقَدْ نَبَّهَهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ الِاغْتِيَابِ وَهُوَ مِنْ الظُّلْمِ.. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلِمَةٌ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عَرَضٍ فَلْيَأْتِهِ فَلْيَسْتَحِلَّ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ فِيهِ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ إلَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَإِلَّا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ» أَوْ كَمَا قَالَ. انتهى.
وبعد أحبتي: من أراد أن يستبرئ لنفسه من إثم الغيبة عليه أن يسعى جاهدا في التحلل ممن اغتابه، فيطلب منه العفو والصفح، ويعتذر إليه بالكلام اللين والحسن، ويبذل في ذلك ما يستطيع، حتى إن اضطر إلى شراء الهدايا القيمة الغالية، أو تقديم المساعدة المالية، فقد نص العلماء على جواز ذلك كله في سبيل التحلل من حقوق العباد..
ولما رأى أهل العلم أن التحلل من العباد في أمر الغيبة قد يؤدي في بعض الحالات إلى مفسدة أعظم، فيوغر الصدور، ويقطع الصلات، وقد يُحمِّلُ القلوب من الأحقاد والأضغان ما الله به عليم، رخص أكثر أهل العلم في ترك التحلل، ورجوا أن يكفي في ذلك الاستغفار للمغتاب والدعاء له والثناء عليه في غيبته.ِ