مرحباً يا رمضان ..
عبدالله محمد الطوالة
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ مسيرِ الليالي والأيامِ، ومصرفِ الشهورِ والأعوامِ، الملكِ القدوسِ العزيزِ السلامِ .. {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ..
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، حي قيومٌ .. تفردَ بالسرمدية والعظمةِ والدوامِ .. {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} ...
وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسولهُ، النبيُّ الأميُّ الإمام، أزكى الأنامِ، ومسكُ الختامِ، وبدرُ التمامِ، وخيرُ من صلى وصامَ، وطافَ بالبيت الحرامِ .. صلى الله وسلم وبارك عليهِ وعلى آله وصحبهِ الكرامِ، والتابعينَ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً ..
أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ عباد الله واعلموا أنَّ في القلب شعثًا لا يلمّهُ إلا الإقبالُ على الله، وفيهِ وحشةٌ لا يُزِيلُها إلا الأُنسَ بطاعة اللهِ، وفيهِ قلقٌ وحزنٌ لا يُذهبهُ إلا إدامَةُ ذِكرِ اللهِ، وفيهِ فاقةٌ لا يسُدُّها إلا محبةُ اللهِ والإنابةِ إليهِ .. {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .. وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} ..
معاشر المؤمنين الكرام: لا شكَّ أنَّ شهرَ رمضانَ المبارك، هو أعظمُ مواسِمِ المؤمنِ وأغلاها، وأنفسِها وأشرفِها وأزكَاها .. إنه موسمٌ نفيسٌ جليل، ليس له في المواسمِ شبيهٌ ولا مثيل .. فأهنِئكم أحبتي في الله ونفسي بقربِ قدومه .. وأبشركم كما كانَ المصطفى ﷺ يبشرُ أصحابه فيقول: "أتاكم رمضان, شهرٌ مبارك، فرضَ اللهُ عليكم صيامه, تُفتحُ فيه أبوابُ السماء، وتُغلَّقُ فيه أبوابُ الجحيم، وتُغلُّ فيه مردةُ الشياطين، للهِ فيه ليلهٌ خيرٌ من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم" .. ويقول ﷺ: "أتاكُم شهرُ رمضان، شهرُ بركةٍ، يغشاكُمُ الله فيه برحمتِه، ويحُطُّ الخطايا، ويستجيبُ الدعاءَ، ينظرُ إلى تنافُسِكُم فيه، ويُباهي بِكُم ملائكتَه، فَأروا الله مِن أنفُسَكُم خيراً، فإن الشقيَّ من حُرِمَ رحمَة الله"..
إنها يا عباد الله بشائرُ عظيمة .. وكيف لا يُبشرُ المؤمنُ بشهرٍ مُليء بالخيرات والبركات، وتزايد النفحات والرحمات، ومضاعفة الحسنات والدرجات، وكيف لا يُبشرُ المؤمنُ بليلةٍ هي خيرٌ من ألف شهر، من حُرمَ خيرها فهو المحروم حقاً .. كيف لا يبشر المؤمنُ بموسمٍ تضاعفت فيه فُرصُ الربحِ والنجاح، وأزيلت عنه المعوقات والمثبطات، وتنوعت عوامِلُ التشجيعِ والمحفزات .. فَمَرَدَةُ الشياطين قد صُفِّدت، وسحائِبُ الإيمانِ قد هبَّت وأقبلت، وبيوتُ اللهِ قد ازدانت وعُمِرت، ونفحاتُ الرحمنِ دنت وتنزلت، ودعواتُ المسلمين قد لهجت وصعدت .. والنفوسُ قد تشوقت وتهيئت، والربُّ الرؤوف الرحيم جلَّ وعلا، قد أكرمنا بعفوِه وحلمِه، وغمرنا بمغفرتِه وسِتره .. ينادينا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.. ويؤكدها لنا بصيغة المبالغة: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}، "يبسُط يدَه بالليل ليتوب مسيءُ النّهارِ، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل"، وينادي جلَّ وعلا: "يا ابنَ آدم، إنّك ما دعوتني ورجَوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي .. يا ابنَ آدم، لو بلغَت ذنوبك عَنانَ السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك .. يا ابنَ آدم، إنك لو أتيتني بقرابِ الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشرِك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرةً".
فحري بنا يا عباد الله: أنَّ نقْدِرَ لرمضان قدْرَه، وأنَّ نعرفَ له شرفَهُ وفضلَه، وأنَّ نستقبلهُ أحسنَ استقبال، ونفرحَ بقدومه غاية الفرح، وأنَّ نستعِدَّ له أحسنَ استعداد، وأنَّ نُقبِلَ عليه أفضلَ إقبال ..
فمرحباً يا رمضان، شهرُ الخيرِ والبركةِ والإحسان، شهرُ التقوى والهدى والإيمان، شهرُ التوبة والأوبة، شهرُ البشائرِ والذخائر، شهرُ الرحمات والنفحات، شهرُ الغُفرانِ والعتقِ من النيران، في الحديث الصحيح، قال ﷺ: "من صام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقال ﷺ: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقال ﷺ: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" ..
مرحباً يا رمضان، شهرُ القربِ والطاعة، شهرُ الفرجِ والشفاعة .. ففي حديثٍ صحيح، يقول النبي ﷺ: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ منعتهُ الطعامَ والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقولُ القرآنُ: منعتهُ النومَ بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشَفَّعان" ..
مرحباً يا رمضان، شهرُ الصبرِ والإخلاص، شهرُ الفضلِ والاختصاص، ففي الحديث الصحيح: "كل عملِ ابن آدمَ يضاعف، الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ، قال الله عزَّ وجلَّ: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به" .. وفي محكم التنزيل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ..
مرحباً يا رمضان، شهرُ الفرحةِ والبهجة .. ففي صحيح مسلم يقول النبي ﷺ: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطرَ فرحَ بفطره، وإذا لقي ربهُ فرحَ بصومه" ..
مرحباً يا رمضان، شهرُ الكرمِ والعطاء، شهرُ إجابة الدعاء .. ففي الحديث الصحيح، يقول النبي ﷺ: "ثلاث دعواتٍ مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر" ..
إنها يا عباد الله مناسبةٌ غاليةٌ لا تعوض، وأوقاتٌ نفيسةٌ لا تقدر بثمن، فهل من مدكر، وهل من مستعدٍ ومُشمِّر .. فالسعيدُ واللهِ من اغتنمها، وبالطاعة عمرها واستثمرها .. ووالله لو قيلَ لأهل القبورِ تمنّوا .. لتمنوا يوماً من رمضان ..
فيا من أدركَ رمضان، استشعر قيمةَ ما وهِبَ لك، وبادِر وقتك، واستثمر فرصتك .. واعلم أن الله جلَّ جلاله يدعوك للمُسَابَقَةِ في الخيرات، وَيدعوك إلى المُنَافَسَةِ والمُسَارَعَةِ في الطاعات، يقولُ جل وعلا: {فَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ} وَيقَولَ تعالى: {وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ} .. وَيقَولُ تبارك وتعالى: {سَابِقُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا كَعَرضِ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} .. وَيقَولُ سبحانه وبحمده: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ * في جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ..
وتَأَمَّلُوا عِبَادَ اللهِ قَولَ رَبِّكُم جَلَّ وَعَلا: {مَن ذَا الَّذِي يُقرِضُ اللهَ قَرضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أضعافًا كَثِيرَةً}، لِتَعلَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ استَقرَضَكُم أَموَالَكُم، وَأَعمَارَكُم، وَأَعمَالَكُم، لِيُوَفِّيَكُم أَجَورَكُم، وَيُضَاعِفَ حَسَنَاتِكُم ..
فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله, وَاستَعِدُّوا لرمضان، وَاعقُدُوا العَزمَ عَلَى المُتَاجَرَةِ مَعَ اللهِ بِأَحسَنِ مَا تَجِدُونَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَتلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُم أُجُورَهُم وَيَزِيدَهُم مِن فَضلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} ..
أقول ما تسمعون ...
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده اللذين اصطفى ..
أما بعد فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ....
معاشر المؤمنين الكرام: تخيلوا رجلاً مسكيناً مُحتاجاً، يمرُّ عليه أحدُ المحسنينَ الكبار، فيقول له افتح جيبك لأملئه لك ذهباً، فيقول له المحتاج، ليس لي جيوب، فيقول له المحسن فأتني بوعاءٍ أملئهُ لك، فيقولُ المسكين، ليس عندي وعاء، فيمضى المحسنُ دونَ أن يغنمَ المسكينُ منه شيئاً .. ليصبحَ بعدها مضرَباً للأمثال في دناءة الهمَّةِ، وبلادة العجز: خُذ يا فقير، قال ليس معي ماعون ..
وصدق من قال: ولم أر في عيوب الناس عيباً – كعجز القادرين على التمام .. هذا هو والله يا عباد الله، ما حذرنا منه المصطفى ﷺ بقوله في الحديث الصحيح: "أتاني جبريل فقال يا محمد: من أدركَ شهرَ رمضان فمات ولم يُغفر له فأُدخلَ النار فأبعدهُ الله، قل: آمين، فقلت آمين" ... فاستعيذوا بالله يا عباد الله: أن تمرَّ بكم مواسمُ الخيرِ وفرصُ السعادة، ثم لا تَزدادون هُدىً، ولا ترعوون عن هوىً .. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "بمحلوف رسول الله ﷺ ما أتى على المسلمين شهرٌ خيرٌ لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهرٌ شرٌّ لهم من رمضان، ثم قال في نهاية الحديث: هو غنمٌ للمؤمن، ونقمةٌ للفاجر) ..
رمضان أحبتي في الله فرصةٌ وأيّ فرصة، زمانٌ وأيُّ زمان، إنه موسمٌ عظيمٌ، يدعونا للجدِّ والعمل، وتركِ التواني والكسل .. فلنستنفر يا عباد الله, كل طاقاتنا وقدراتنا، ولنستثمر كل أوقاتنا وإمكانياتنا، عسى أن نوفق فيرضى عنا ربُّ العالمين .. وعسى أن لا نفرط فنكون من المحرومين ..
رمضان أيها الكرام، كما قال جلَّ وعلا: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}، فلنجدَّ ونجتهدَ في اغتنامها بالخيرات، ولنسارع في عِمارتها بالصالحات، ولنحذر أن يضيع شيئاً منها في التفاهات والترهات .. الله .. الله يا عباد الله .. أروا الله من أنفسكم خيرًا ..
فها هي أسواق الآخرة قد فتحت أبوابها فأين هم المتاجرون؟!
وها هي الجوائز الكبرى قد أعلنت فأين المتنافسون المتنافسون؟!
وها هي الرحمات والبركات تتنزل، فأين المشمرون المثابرون ؟!
ها هي أبواب الجنة قد فتحت، فأين المسارعون الجادون ؟!
ها هي أبواب النيران قد غلّقت، فأين التائبون النادمون ؟!
وها هي مردة الشياطين قد صفدت، فأين المجتهدون العازمون ؟!
فيا من يطمع في المغفرة وقبول التوبة .. ها قد أقبل رمضان .. فماذا نويتَ وقرَّرت ؟! .. وعلام عزمتَ واجمعت ؟! ..
ألا فاتقوا عباد الله في هذه الفرصةِ الغالية، وحفزوا هممكم، وشدّوا عزائمكم، وابذلوا قصارى جهدكم، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، وعليكم بالصبر والمصابرة، والجدّ والمثابرة .. فبالجدِّ والاجتهاد فاز من فاز، وسعُدَ من سعُد .. {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} ..
يا ربِّ عبدُكَ قد أتاكَ وقد أساءَ وقد هفَا .. حملَ الذنوبَ على الذنوب الموبقاتِ وأسرفَا .. وقد استجارَ بجود عفوكِ من عقابكِ مُلحِفا .. مُتحسراً، مُتأوهاً، مُتأسفاً .. يا ربِّ فاعفُ عنهُ وعافِه، فلأنتَ أولى من عفَا ..
ألا فاتَّقُواْ اللّهَ عباد الله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ .. فَمَا أَحسَنَ عَاقِبَةَ الصِّدقِ مَعَ اللهِ .. فوَاللهِ، يا عباد الله: مَا مِن عَبدٍ يَطَّلِعُ اللهُ عَلى قَلبِهِ .. فَيَرَى أَنَّهُ صادق .. يُرِيدُ الفَوزَ في رَمَضَانَ .. إِلاَّ أَعطَاهُ اللهُ مُرَادَهُ .. كيف لا وهو الذي يفرحُ بتوباتنا، ويتقرب إلينا أكثرَ مما نتقربُ إليه .. ففي الحديث القدسي الصحيح: "من تقرب مني شبراً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هروله" .. فَالصِّدقَ الصِّدقَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، فَعَلَى قَدرِ الصِّدقِ يَكُونُ الفَوزُ والفلاح، قال سُبحَانَهُ: {فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} .. فاصدقوا اللهَ يصدقكم .. اصدقوه يا عباد الله يصدقكم، واستقبلوا شهركم بتوبة خالصةٍ نصوح، وعودةٍ قويةٍ صادقة، ونيةٍ في الخير عازِمةٍ جازِمة، استروحوا روائِح الجنان، وتعرضوا للنفحات الكريم الرحمن، وتزودوا بزاد التقوى والإيمان .. بلغني الله وإياكم شهر البر والإحسان، وجعلنا فيه دوماً من أهل الذكر والقرآن ..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..
اللهم صل ..