مراقبة الله تعالى
عبدالرحمن سليمان المصري
مراقبة الله تعالى
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق فسوى ، وقدر فهدى ، والذي أخرج المرعى ، أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد :
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ، قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ ([1]) .
عباد الله :
اعلموا أنَّ الله عز وجل شهيدٌ ورقيبٌ عليكم ، وهو مطَّلع على أعمالكم ، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، ولا يعزب عنه مثقالَ ذرة ، قال الله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾([2]) ، وقال تعالى :﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) ﴾([3]) ، وقال تعالى :﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾([4]) ، وقال تعالى :﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)﴾([5]).
وإذا استشعر العبد أن الله مطلع عليه في جميع أحواله ، وجمع مع هذا العلم الخوف منه ؛ نتج عن ذلك عبودية المراقبة لله تعالى ؛ وهذه هي أعلى مراتب الدين ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وهي منزلة الإحسان ، ويتضمن ذلك أمرين :
الأول : أن تراقب الله تعالى ؛ فتعلم أنه سبحانه يعلم كل شيء تقوم به من قول أو فعل أو ما تخفيه في
قلبك ، قال تعالى:﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي
السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) ﴾([6]) .
وقال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾([7]).
والثاني: أن تعلم أن الله رقيب عليك ؛ بسمْعه الذي وسِع كل الأصوات ، وببصره الذي أحاط بجميع المُبْصَرَات ، وبعلمه الذي أحاط بكل شيء ؛ فلا تخفى على الرب خافية ، أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيءٍ عددا .
عباد الله : وهذه المراقبة تكون في مقامين :
الأول : أن تراقب الله عز وجل عند أوامره ، في توحيده وعبادته من الصلاة والصيام والزكاة والحج ، ورعاية الزوجة والأبناء، وإنجاز أعمال الناس في جميع القطاعات ، فتفعل ذلك وأنت مؤمن موقن بأن الله يراك ، يعلم ما تقول ، وما تكتب ، وما تفعل ، وما تضمر وما تريد ، فيدعوك ذلك لإتقان عملك ؛ لعلمك أن الله مطلع عليك ، ويكون الداعي لذلك هو مرضات الله تعالى .
قال تعالى:﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) ﴾([8]).
الثاني : أن تراقب الله عز وجل عند المحرمات ؛ فإذا ما حدَّثتك نفسك بالمعصية وارتكاب ما حرم الله ؛ فتذكر اطلاع الرب عز وجل عليك وعِلمه بك وأنه عز وجل يراك ، ويسمع كلامك ، ويعلم حالك ، ولا تخفى عليه خافية .
عباد الله : أين الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة في المساجد من مراقبة الله؟
وأين الذين يعُقّون والديهم ويقطعون الأرحام والأقارب ؟
وأين الذين يأكلون الحرام من الربا والسرقة ويجحدون حقوق الناس ؟
وأين الذين يخوضون بألسنتهم في أعراض المسلمين من الغيبة والنميمة وغيرها ؟
وأين الذين يطلقون أبصارهم إلى الحرام في الأسواق والشاشات والجوالات؟
وأين الذين يقعون في المعصية إذا كانوا خالين بأنفسهم ، فإذا تحرك شيء حولهم فزِعوا منه كي لا يراهم أحد على تلك الحال ، فأين هم من مراقبة الله تعالى ؟
قال الله تعالى : ﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)﴾ ، فغياب هذا المعنى عن العبد يحمله على الإسراف في ارتكاب المعاصي ثم الوقوع في شؤمها وعواقبها ، فتكون النتيجة ؛ ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) ﴾([9]) ،فمن قام في قلبه أن الله لا تخفى عليه خافية ، راقب الله جلّ في علاه وحاسب نفسه وتزود لآخرته .
وإن مما يعين المسلم على مراقبة الله تعالى :
استحضار معاني أسماء الله تعالى وصفاته .
واستحضار نظر الرب عز وجل في حركاتنا وسكناتنا ؛ فيدعونا ذلك للحياء منه .
وكثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان ، ومحاسبة الإنسان لنفسه ، وتذكر الموت والقبر .
عباد الله : ومراقبة الله تبارك وتعالى من صفات المؤمنين ، وأخلاق الموحدين ، وهي دليل على صدق الإيمان .
مراقبة الله ، هو الذي جعَل الفتاة التي أمرَتْها أمُّها ، أن تغشَّ اللبن وتخلطه بالماء قبل بيعه للناس ، أن تُراجِع أمها قائلة: يا أمَّاه، ألا تخافين من أمير المؤمنين عمر ، فقالت لها أمُّها: إنَّ عمر لا يَرانا، فقالت الفتاة: إنْ كان عمر لا يَرانا فرَبُّ عمر يَرانا.
مراقبة الله هو الذي منع الرجل الذي تمكَّن من المرأة في قصة الثلاثة أصحاب الغار ؛ فقالت له: ( اتَّق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقِّه ) ؛ فقام وترَكَها، وترَكَ المال الذي أعطاها لَمَّا ذكَّرته بالله ، فقام وترَكَها خوفا من الله ، ومراقبة له .
مراقبة الله منعت يوسف عليه السلام من المعصية ولم يكن قد أوحي إليه إلا أنه تربى في بيت النبوة من
أبيه يعقوب عليه السلام ، وقد ذكر العلماء أن دواعي الفتنة قد توفرت عند نبي الله يوسف عليه السلام أكثر من غيره :
فيوسف عليه السلام رجل والرجال تميل إلى النساء بطبعها .
وكان شاباً، وشهوة الشاب أقوى من غيره .
وكان أعزباً، فلا يوجد لديه ما يرد شهوته .
وكان غريبا بينهم والغريب لا يتحرج من فعل ما يعيبه مثل غيره .
والمرأة التي دعته إلى نفسها كانت ذات جمال ، والجميلة تغري بالفاحشة أكثر من غيرها .
وكانت ذات منصب فهي زوجة عزيز مصر، وذات المنصب يكون إغراؤها أكثر من غيرها .
و كانت المرأة سيدته التي لها عليه الأمر، وعليه الطاعة والتنفيذ .
وكانت المرأة غير ممتنعة ، بل هي صاحبة الحاجة .
وكانت هي التي ابتدأت ودعته لها ، قالت: هيت لك .
ولم يكن يخشى أن تخبر عمّا سيقع بينهما ، فهي صاحبة الطلب .
وكانت قد غلقت الأبواب فلا أحد يطلع على ما يدور بينهما .
فهذه الظروف قد اجتمعت ، وتهيأت ليوسف عليه السلام ، وزاد عليها بأنها : توعدته بالسجن والإذلال والصغار إذا هو لم يستجب لرغبتها .
وكان موقف يوسف عليه السلام : أن جاهد نفسه ، وصبر عن معصية الله ، وتجلت لديه مراقبة الله تعالى، والحياء منه، قال تعالى : ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالمُونَ ﴾([10]) .
فكانت العاقبة له هي الرفعة في الدنيا والآخرة .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا
وأستغفر الله العظيم لي من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن مراقبة الله تحيي القلوب ، وتوقظ الضمائر ، وتحرك في الإنسان دواعي الخير ، وتميت فيه نوازع الشر ، والبعض منا يمتنع من فعل المحرمات أمام الناس ، وذلك لما يلحقه من ذلك السُبّة ، والعيب ، والمنقصة .
وأعظم وقت تظهر فيه مراقبة الله تعالى ، هو حين يغيب النظام ، وعين الرقيب ، فتجد المسلم وقّافا عند حدود الله لا يتعداها ، لا يمنعه ذلك سوى مراقبة الله تعالى والخوف منه ، قال تعالى : ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) ﴾([11]) .
عباد الله : من راقب الله عز وجل ؛ حاسب نفسه وتزود لآخرته ، وأكثر من الاستغفار والتوبة ، وراجع كل تصرفاته .
وقد أعد الله لمن راقبه وخشيه في السر والعلن ؛ أجرا عظيما وجزاء وفيرا في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) ﴾([12]) ، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾([13]) ،
وقال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾([14])
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ([15]) .
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
الدعاء...
([1])آل عمران: 102
([2]) النساء : 1
([3]) طه : 7
([4])الحديد : 4
([5]) غافر : 19
([6]) الشعراء : 217-220
([7]) ق : 16
([8]) يونس : 61
([9]) فصلت : 22-23
([10]) يوسف : 23
([11]) العلق : 14
([12]) الملك : 12
([13]) البينة : 7-8
([14])النازعات : 40-41
([15]) سورة الأحزاب : 56