مرآة المؤمن.

عاصم بن محمد الغامدي
1438/05/13 - 2017/02/10 08:31AM
[align=justify]الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي لا تُسْتفتَحُ الكتبُ إلا بحمدِه، ولا تُستمنَحُ النعمُ إلا بواسطةِ كَرَمِهِ ورِفْدِه، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الأنبياءِ محمدٍ رسولِه وعبدِه، وعلى آله الطيبين وأصحابه الطاهرين من بعدِه، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، سبحان من وفق للتوبة أقواما، وثبت لهم على صراطها أقداما، نظروا إلى الدنيا بعين الاعتبار، فعلموا أنها لا تصلح للقرار، وتأملوا أساسها فإذا هو على شفا جُرُفٍ هارٍ، فنَغَّصُوا بالصيامِ لذةّ الهوى بالنهار، وبالأسحار هم يستغفرون، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
عباد الله:
كان الأنبياء والصالحون ناصحين منتصحين، هذا نوحٌ عليه السلام يقول لقومه: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وهودٌ عليه السلام، خاطب قومه بمثل ذلك.
ونزل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمسلمين في غزوة بدر مكانًا دون الماء، فأتاه أحد الصحابة فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم أو نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض حتى نأتيَ أدنى ماء من العدو فننزلَه، ونبني عليه حوضًا نملؤه ماء، فنشربُ ولا يشربون. فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد أشرتَ بالرأي".
ولما جاءه أحدُ الصحابةِ رضي الله عنهم وبايعه على الإسلام، شرط عليه النبيُّ عليه الصلاة والسلام فقال: «وَالنُّصْح لِكُلِّ مُسْلِمٍ». [رواه البخاري].
وكما أن عمادَ الحج وقوامَه الوقوفُ بعرفة، فعمادُ الدينِ وقوامُه النصيحةُ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». [رواه مسلم].
فمن كان ناصحًا لنفسه صرف العبادة لله، ولم يشرك معه أحدًا، وتوقف عند آيات كتابه، مؤتمرًا بأوامره، ومنتهيًا بنواهيه، ومتأثرًا بمواعظه، ونصرَ سنةَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم باتباعها ونشرِها، وبلَّغ كلَّ ذلك لأئمة المسلمين وعامتهم، راغبًا في عموم الخير، وبقاء الدين.
ويكفي الناصحين فخرًا تشبههم بالأنبياء والمرسلين، ويكفي كارههم نهيًا وزجرًا تشبهه بالقوم الكافرين، قال صالحٌ عليه السلام لقومه: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}.
عباد الله:
النصيحةُ كلمةٌ عامةٌ، لها اعتباراتٌ مختلفةٌ، وليست كما يظنُّ البعضُ مجردَ إبداءِ الرأيِ عند وجود الخطأِ، بل مفهومها في الإسلامِ أعمُّ وأشملُ.
هل من النصح للأولاد تلبية كل رغباتهم دون نظر في المآلات اللازمة؟
هل من النصح للزوجة هجرُ تعليمِها ما تحتاجه من أمور دينها ودنياها؟
هل من النصح للجار والصديقِ والزميل والقريب تركُ دلالته على الخير، والأخذِ بيده إلى الرشد؟
أليس البدء بالنفس في الخيرات والطاعات، من أعظم النصيحة للمقصرين.
ومن المؤسف ما ابتلي به البعض في هذا الزمان من تحرُّجه من إبداء النصيحة، تحت مبررات شيطانية مختلفة، كالحفاظ على الخصوصية، وعدم التدخل في شؤون الآخرين.
وليس هذا من سنة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فَعَنْ حَكِيمِ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى»، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى العَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ. [رواه البخاري].
والتزم الصحابةُ رضوانُ الله عليهم والسلفُ الصالح بعدهم، مبدأ النصيحة في حياتهم، فكانوا يشيرون على بعضهم، ويتآمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، حتى قال بعضهم: "من رأى من أخٍ له منكرًا فضحك في وجهه فقد خانه". [من أخبار السلف الصالح 431].
عباد الله:
المرآةُ تعكس الصور كما هي، فلا تُجَمِّل قبيحًا، ولَا تُقَبِّحُ جميلاً، ومن نظَرَ إليها رأى فيها صورة نفسه دون تدخلاتِ تحسينٍ أو تحقيرٍ، وهكذا ينبغي للمؤمنِ أن يكون مع المؤمنِ، فَقَدْ قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ». [رواه أبو داود وحسنه الألباني].
وتتأكد النصيحة عند طلبها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ»، وذكر منها: «وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ». [رواه مسلم].
والناصحُ الحقُّ مَنْ قَصَدَ بنصيحتِه وجهَ اللهِ تَعالى، لا فضحَ المنصوحِ، أو إهانتَه، واستشعر أن النصيحةَ أمانةٌ، فلم ينصح إلا بما يراه خيرًا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ». [رواه أبو داود وصححه الألباني].
ومن العقلِ والحكمة اختيار الوقت المناسب للنصيحةِ، قَالَ ابْنُ مَسْعودٍ رضي الله عنه: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا». [رواه البخاري ومسلم].
وينبغي للناصح أن يكون رفيقًا لينًا، فمهما بلغ بأخيه السوء فلن يكون أسوأ من فرعون، قال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ». [رواه مسلم].
ولا تحقرنَّ يا عبد الله من المعروف شيئًا، فقد يفتح الله بكلمةٍ مغاليقَ القلوبِ، يقول أحد الإخوة: مررتُ ببعض الأسواق فرأيت شابًا يرتكب محرمًا، فقررتُ نصحه لوجه الله تعالى، فلما اقتربتُ منه فرَّ ظنًا أنني أمثل بعض الجهات الرسمية، فطمأنته فاطمأن، فذكرتُه بالله تعالى، حتى تأثر ورقَّ قلبه، ثم افترقنا على وعدٍ بالتلاقي، وبعد أسبوعين اتصلت به، واتفقنا على اللقاء في منزله بعد العصر، لكنني انشغلت بضيوف غير متوقعين، فلم أفرغ إلا بعد الموعد بفترة، فذهبت لمنزله، وطرقتُ الباب، فخرج لي رجلٌ عليه آثار تراب ووحل، فسألته عن الرجل فقال: أنا أبوه، والتراب الذي عليَّ تراب قبره، فقد توفي رحمه الله بعد صلاة الظهر اليوم، كما لاحظتُ تغيره في شؤون حياته الأسبوعين الماضيين.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.

الخطبة الثانية:
الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فإن النصيحةَ ضدُّ الفضيحةِ، وليس على الناصح إعلانُ النصح أمامَ الخلق، قال ابن رجبٍ رحمه الله: " كَانَ السَّلَفُ إِذَا أَرَادُوا نَصِيحَةَ أَحَدٍ، وَعَظُوهُ سِرًّا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَهِيَ نَصِيحَةٌ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ فَإِنَّمَا وَبَّخَهُ". [جامع العلوم والحكم 1/225].
وينبغي للناصح إنزالُ الناس منازلهم، فصاحب المنصب ليس كعامة الناس، والابن ليس كالجار، والذكر ليس كالأنثى، وإذا نصحتَ فابتعد عن الظن، ولا تأخذْ بالشبهة، واصبر على ما قد يلحقك من أذى النصيحة، فالناس يختلفون، وخير البشر عليهم السلام لم يسلموا من أذى أقوامهم على النصيحة.
تعمدني بنصحك في انفرادي *** وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوعٌ *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي *** فلا تجزع إذا لم تُعطَ طاعة
أيها المسلم الكريم:
إذا بحثتَ عن نصيحة، فاسأل الموثوقَ في علمه ودينه، الكاتمَ للسرِّ، الذي تعرف حرصه على الخير لك، وبعده عن أذاك، وإذا نصحك أحدٌ فاقبل نصيحته، واشكره على هديته، فلو أنه أخبرك بوجود عقرب في فراشك أو منزلك لحسبتها له من المحامد، فكيف به وهو يريد دلالتك على طريق الجنة، وإبعادك عن طريق النار، واحذر أن تكون ممن قال الله تعالى عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}، وكان بعض السلف يقول: رحم الله رجلاً أهدى إليَّ عيوبي، وقد قيل: من اصفر وجهه من النصيحة، اسودَّ وجهه من الفضيحة.
فكونوا يا عباد الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واتقوا الله -رحمكم الله-، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة؛ فإن الشقيَّ من حُرِمَ رَحْمَةَ الله -عياذًا بالله-، ثم صلوا وسلموا على خير البرايا، فقد أمركم الله تعالى بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اللهم اجعلنا من الناصحين المصلحين، واغفر لنا خطايانا في يوم الدين.[/align]
المشاهدات 1088 | التعليقات 0