مِرآةُ التَارِيخِ..
نايف بن حمد الحربي
1437/06/10 - 2016/03/19 07:03AM
(مِرآةُ التَارِيخِ..) جامع العزيزية: 03/11/1435هـ
الحمدُ للهِ أهلَ الإسلامِ نَصَر, والحمدُ للهِ يهودَ خَيَّبَ آمَالَهَا وطُمُوحَهَا كَسَر, والحمدُ للهِ لم يَأذنْ بنَصرِهِ إلا بعدما كُلُّ مُتَصهينٍ عن رأسِهِ حَسَر؛ فهذا لِبُغضٍ؛ وذاك لاستِمرَاءِ ذُلٍ؛ وثالثُ بعَدَوَتِهِم يَطِر, فالحمدُ لِمَنْ خَيَّبَ أمَالَهُم, فكُلُهُم بالسَهمِ الأخيَبِ قد ظَفِر, وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ, وتابعيهِم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد :
فعَلَيْكم بتقوى اللهِ عبادَ الله، تَجِدونَهَا نِعمَ الوصية, بها تُحَاذِرُ النَفْسُ الخَطِيةَ, ومعها مِن الإصرار على الذنبِ تبقَى عَصِيَّة, وحَرِيٌّ بنَفْسٍ هذا شأنُهَا, أنْ تَظفَرَ مِن مَولاهَا بالـمَنزِلَةِ العَلِيَّة.
معاشرَ المسلمين:
نَصرٌ يَسُرُّ اليومَ كُلَّ صَديقِ & ويَسوءُ كُلَّ مُنَافقٍ وصَفِيقِ.
نَصرٌ لِغَزَّةَ رُغمَ كُلِّ مُخَذِلٍ & إنَّ الطِبَاعَ تَبِينُ عندَ الضِيقِ.
يُدرِكُ كُلُّ مُراقبٍ للشأنِ الغَزاوي, أنَّ أهلَ غَزَّةَ قد باتُوا شَجًا في حَلْقِ يَهود..:
فهُمْ مَن قالَ لإسرائيلَ: لا, يَومَ أنْ قالَ لَها كُلِّ العَرَبِ: نَعَم.
وهُمْ مَن حَطَّمَ أُسطُورةَ الجيشِ الذي لا يُقهَر:
فمَنَعُوا المِلاحَةَ الجَويَةَ عن مطَارِ "ابن جوريون" إلا بإذنٍ مِن "محمدِ بنِ الضيف".
وأَذِنُوا لليهودِ في مُحِيطِ غَزَّةَ بالعَودةِ إلى مَنَازِلِهِم بعدَ أنْ أَجلَوهُم عنها, بقرارٍ مِن "حماس" وليس مِن "نتن ياهو".
وأعلَنُوا عَزمَهُم على إنشاءِ المِيناءِ والمطَار, والاعتداءِ على مَن يَعتَدِي عليهِما.
والـمُحَصَلَة: أنَّهُم كَشَفُوا للعَالَمِ كُلِّهِ أنَّ إسرائيل تَحتَلُّ جميعَ البلادِ العربيةِ إلا غَزَّة؛ ولذا فهُم مُحَارَبُونَ مِن قِبَلِهَا, وِمن قِبَلِ أذنَابِهَا مِن عَرَبِ المنطقةِ كذلك.
والعَجَبُ أنَّ الكُلَّ مُتَوَاطِئُونَ على أنَّ عَدَائَهُم مُنحَصِرٌ مع حَمَاسَ دُونَ غَيرَها مِن سَائِرِ الغَزاويين؛ رَجَاءَ أنْ يُحدِثُوا بهذا شَرخًا بينَ الروحِ والجسَدِ, مُتَذَرِعِينَ بِمَا اختَلَقُوهُ مِن كَذبَةِ أنَّ حماسًا قد غَمَطَت الغزَاويينَ حَقَهُم في اختيارِ مَن يُمَثِلُهُم, وعليه: فلا بُدَّ مِن إزَالَتِهَا, فَهِلِ الأمرُ كذلك؟
يَنطِقُ التاريخُ شاهِداً بأنَّ الفلسطينيينَ في الضِفَةِ والقِطَاع هُم مَن مَنَحُوا ثِقَتَهُم حَماسًا في انتخاباتِ عامِ ألفينِ وستة, ومع هذا فقد انقلَبَ العَالَمُ كُلُّ العالَمِ على خَيَارِ الفلسطينيين, فَارِضًا عليهم أذنَابَهُ مِن فَتح, ما حَدَا حَمَاساً في العامِ الذي يَليهِ إلى تَطهِيرِ غَزَّةَ مِن دَنَسِ العُملاءِ؛ لِتَتَمَكَنَ بذلكَ مِن القيامِ بالعبءِ الذي ألقى الشَعبُ بِثُقلِهِ عليها, فهل حَماسٌ غاصِبَةٌ للسُلطَة؟ أم أنَّهَا مُمَثِّلَةٌ للشَعب؟
سَأِلُوا التاريخَ فقط, حتى إذا ما بانَتْ لكُمُ الحقيقةُ خِلافَ ما يُرَوِّجُ لَهُ الإعلامُ الأجيرُ, فَلَكُم أنْ تَتَسَأَلُوا: لماذا كُلُّ هذا التضييقِ على حماسٍ إذاً؟
سَأُجِيبُكُم, ولكن مِن مِرآةِ التاريخِ؛ إذْ أنَّها تَعكِسُ للحَاضِرِ صُوراً مِن الـمَاضي ضَارِبَةً في أعمَاقِ التاريخ, صَحيحٌ أنَّها قَدِيمة, لكنَّ دَلالَتِها ثابِتَةٌ ما تعَاقبَ الجَدِيدَان, فَهَلِمُّوا سَويًا لاستعراضِ شَيئًا مِن هذهِ الصُور..
ففي الأولى مِنها: لا أظُنُّ أحداً يَجهَلُ حيثِياتِ نُشُوءِ الدُولِ العربيةِ الـمُعَاصِرَة؛ ولذا, لا غَروَ أنْ تُدِينُ بالولاءِ لِمَن أَنشأهَا, حتى ولو كانَ هذا بحرب بعضِ أبنائِهَا, حيثُ يَظهَرُ في المِرآةِ عبدُاللهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلولٍ قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وثلاثٍ وثلاثينَ سَنَةٍ, وهو يُجَادِلُ النبيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- عن يهودِ بَنِي قينُقَاع, وقد أَرَادَ قَتلَهُم بعدَ أنْ نَقَضُوا العهد: "وَاَللَّهِ لَا أُرْسِلْكَ حَتَّى تُحْسِنَ فِي مواليّ، أَربعمائَة حاسر, وَثَلَاثمائَة دَارِعٍ قَدْ مَنَعُونِي مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، إنِّي وَاَللَّهِ امْرُؤٌ أَخْشَى الدَّوَائِرَ", مِمَّا يُؤكِدُ لَكَ مِصدَاقِيَةَ الصُورَةِ الثانية وهي:
أنَّ الحربَ ليستْ مع يَهودَ وحدَهَا, وإنِّمَا هيَ مع تَحَالُفٍ قديم!! تَأسَسَ في السنَةِ الخامِسَةِ مِن الهِجرَة!! أقطَابُهُ: اليَهُودُ, والـمُشرِكُون, وثالِثُهُم الـمُنَافِقُون, وما إسرائيلُ في حَربِ اليومِ إلا وكيلاً عن هؤلاء, فليسَ اليهودُ هم عَدُوُنَا الوحيد!! وليستْ حَمَاسُ هي الـمُستَهدَفَةُ دُونَنَا!! وإنِّمَا جاءَ التَركيزُ عليها لأنَّهَا رَأسُ الحربَة!! ولذا يُريدُ التَحَالُفُ كَسرَهَا, تَمَامًا كَمَا تُظهِرُ المِرآةُ مِن أنَّ الأحزابَ قد تَكالَبُوا قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وثلاثينَ سَنَةٍ يُرِيدُونَ استِئصَالَ الفِئَةِ الـمُؤمِنَةِ في أَكنَافِ الـمَدِينَة, مع أنَّ ثَمَّةَ مُؤمنينَ آخَرِينَ في أحياءِ العرَب!! مَا يُفْضِي بِنَا إلى الصُورَةِ الثالِثَة:
وهيَ أنَّ يَهُود مَهما أُوتُوا مِن قُوة لا يَجرَؤونَ على حَربِنَا إلا بِمُؤازَرَةٍ مِن بعضِ مُنَافِقِينَا, حيثُ يَظهَرُ فيها قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وإحدى وثلاثينَ سَنَةٍ يَهودُ بَنِي النَضِير وقد أَذعَنُوا لأَمرِ الجَلاءِ –بعدَ كَشفِ مُؤامَرَتِهم في محاولَةِ الاغتيال- لَكِنَّهُم ما لَبِثُوا أنْ بَعَثُوا إلى النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولونَ: "إنَّا لا نَخرُجَ مِن دِيَارِنَا، فاصنعْ ما بَدَا لَك!!" وما ذَاك إلا لأنَّ ابنَ أُبَيٍّ بَعثَ إليهِم قائِلاً: "لَا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَأَقِيمُوا فِي حُصُونِكُمْ، فَإِنّ مَعِي أَلْفَيْنِ مِنْ قَوْمِي وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ فَيَمُوتُونَ مِنْ آخِرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَيْكُمْ..." فكَم مِن ابنِ أُبَيٍّ في زَمَانِنَا يَمُدُ يَهُودَ سَارِبًا, ومُستَخفِي؟؟
ومع هذا أهلَ الإسلام, لا يَهُولَنَّكُمْ أمرُ حِلفِهِم؛ فالصورةُ الرابِعَةُ تُبدِي: أنَّهُم مَهمَا أَبدَوا مِن اللُحمَة, إلا أنَّ قُلُوبَهُم شَتى, وخيرُ شَاهِدٍ على هذا: إذعَانُ إسرائيلَ للـمُهَادَنةِ مع رغبةِ عُملائِهَا الجَامِحَةِ في الـمُضِيِّ قُدُمًا في خَيَارِ الحَلِّ العسكَري, وما هذهِ الـمُنَاكَفَةُ مِنها لِرغبَةِ أذنَابِهَا إلا لأنَّها تُؤمِنُ بحقيقَتِهم التي حَكَاهَا القرآنُ: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} بِبَسَاطَة: فــــــ"نتن ياهو" يَعرِفُهُم تَمَامًا في حَرب ثَمَانٍ ,أربعين, ويَذكُرُهُم في نَكبَةِ سَبعٍ وستين, ولم يَغِبْ عنهُ خُذلانُهُم لَهُ في مَعرَكَةِ ثَلاثٍ وسبعين, تمامًا كما تَعكسُ المِرآةُ قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وثلاثينَ سَنَة: فَرُغمَ كُلِّ الـمَواثِيقِ بينَ الأحزابِ إلا أنَّ قُريشًا صَدَّقَتْ كَلامَ نُعَيمٍ في بَنِي قُرَيظَة, وبَنُوا قُرَيظَةَ طَلَبُوا الاستيثاقَ على صِدقِ النوايا مِن قُريشٍ برهائن, فَفَرَّقَ اللهُ جَمعَهُم, وهكذا هُم دائماً {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} وإنِّمَّا أُمضُوا قُدُماً مُتَأمِّلِينَ الصورةَ الخامِسَةَ حيثُ تَحكِي:
أنَّهُ مَهمَا حَاولَ اليهودُ وأَذنابُهُم إغلاقَ الـمَعَابِر, أو رَدمَ الأنفَاق, وأَظهَرُوا إصرَارَهُم على هذا, فلَنْ يَتِمَّ لَهُمْ مَا أَرَدُوا -بإذن الله- حيثُ يَظهَرُ في الصورَةِ طُمُوحٌ لِبَنِي النَضِير قَريباً مِن هذا {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} فكانتْ الـمُفَاجَأةُ التي أَجبَرَتهُم على فَتحِ الحُصُونِ {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}.
وإيَّاكُم إيَّاكُم أهلَ الإسلامِ أنْ يَدُرْ في خَلَدِكُم جَدوَى الحُلُولِ السِلمِيَة, فهي لَم تُرجِعْ حَقًّا مَسلُوباً مُنذُ سِتٍ وسِتِينَ سَنة, وهذا ما تُؤَكِدُهُ الصورَةُ السادسةُ: إذْ أنَّ استراتيجياتُ الأعداءِ وتحالُفَاتِهِم واحِدَة, يستوي في هذا: "حُيَيُّ بنُ أخطب" و "جون كيري" كما يَستَوي فيه: " كعبُ بنُ أسد" و "جلعاد" وكذلك: "أبو سُفيانَ" و "السيسي" وإن شِئت: "فابنُ أُبَيٍّ" و "وعَزَّام" فهُم وإنْ كانوا أقوياءَ بِعَلاقَاتِهُم الدولية, إلا أنَّهُم لا يَملِكُونَ أَيَّ حَلٍّ تُجَاهَ نُقطَةِ الضَعفِ التي في دَواخِلِهِم!! ألا وهيَ: الرُعبُ والهَلَع مِن كَابُوسِ الانهيَارِ الحَتمِي للمُعسكَرِ اليهودي المُمَوَلِ عربياً ودولياً, لِيتُلوا عندها عِبَادُ الرحمنِ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ...} تمامًا كما تَعكسُ المِرآةُ قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وإحدى وثلاثينَ سَنَة: حيثُ بالرُعبِ هَرَبَ بَنُو النضير, وبالرُعِب استَسلَمَتْ بَنُوا قُرَيظَةَ دُونَ مُقَاوَمَة, لِيَبدُو فِيهم جَلِيًّا قولُ الله: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}.
فَقِرُوا عَيناً بوعدِ اللهِ, وثِقُوا بنَصرِهِ, والعملَ العملَ, ولا تَأبَهُوا بِشَائِعَاتِ الأعداءِ؛ فإنَّمَّا هي جُزءٌ مِن سِلاَحِهِ للفَتِّ في عزائِمِكُم, كما تُظهِرُ الصورَةُ السَابِعَةُ, حيثُ تَعكِسُ عن كبيرِهِم قَبلَ ألفٍ وأربعمائة وستٍ وعشرينَ سَنَةٍ قَولَهُ -إِبَّانَ غَزوَةِ تَبوك-: "يَغْزُو مُحَمّدٌ بَنِي الْأَصْفَرِ، مَعَ جَهْدِ الْحَالِ وَالْحَرِّ وَالْبَلَدِ الْبَعِيدِ، إلَى مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ! يَحْسِبُ مُحَمّدٌ أَنّ قِتَالَ بَنِي الْأَصْفَرِ اللّعِبُ؟ وَاَللهِ لَكَأَنّي انْظُرُ إلَى أَصْحَابِهِ غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ!!" وكما تَعكسُ قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وثلاثينَ سَنَة إِبَّانَ غَزوةِ الأحزابِ عن مُعَتِّبٍ بْنِ قُشَيْرٍ قَولَهُ: "يَعِدُنَا مُحَمّدٌ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لا يَأْمَنُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى حَاجَتِهِ"
أقولُ هذا القول, واستغفرُ اللهَ لي ولكم...
الحمدُ للهِ عَظِيمِ الـمَواهِب, مُتَفَضِلٌ على خَلقِهِ وللمَحَامِدِ واهِب, ما نَستَقبِلُ مِنها, وما مَضَى مع الأيامِ ذاهِب, و صلى اللهُ وسَلَّمَ على عَبدِهِ ورسولِهِ محمد, وعلى آلهِ وصحبِهِ والتابعين, ما تَنَفَسَّ نَسِيمُ الصَبَا, وما استَحَالَتْ إلى الجنوبِ لاَهِب..
أما بعد :
أهلَ الإسلام, كُلُّ مَا أسلَفْنَا مِن حديثٍ حولَ كَشفِ قِدَمِ مَكرِ القومِ, قد أجملَهُ اللهُ في سِتِ آياتٍ مُتوالياتٍ مِن سُورةِ المائدةِ, حيثُ قالَ سُبحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهذا النِدَاءُ وإنْ نزلَ على العُصبَةِ الـمُؤمِنَةِ في أكنَافِ المدينةِ, إلا أنَّهُ مُوَجَّهٌ إلى كُلِّ مَن يَنطَبقُ عليهِ ذَاتُ الوصفِ إلى يَومِ القيامة.
{لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} والولاَيَةُ الـمَنهِيُّ عنها هُنا هي: وَلاَيَةُ التَحَالُفِ والتَنَاصُر, لا الوَلاَيَةُ بمعنَى الإتِبَاعِ على الدين, وإنْ كانتْ هذهِ في الجُرمِ أعظَم.
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إنَّهَا الحقيقةُ التي لا عَلاَقَةَ لها بالزمَن؛؛ لأنَّهَا حقيقَةٌ نَابِعَةٌ مِن طبيعةِ الأشياء؛ ولذا عَبَّرَ اللهُ عنها بالجُملَةِ الاسميةِ الدَّالَةِ على الاستمرار {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فأهلُ الكُفرِ أَولياءُ لبعضِهِم أبَدَ الدهر, ولذا, لَنْ يَتَأتَّى يومٌ يكونونَ فيهِ ظُهَرَاءُ على بعضِهِم لأهلِ الإيمانِ حقيقةً, وإنْ أَبدَوا خِلافَ ذلِكَ في ظَاهِرِ الحَال.
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} لأنَّ التَولي التَامَّ يُوجِبُ الانتقالَ إلى دِينهم, والتَولِي القليلُ يَدعُو إلى الكثير، ثُمَّ يَتَدَرَّجُ شَيئًا فَشَيئًا، حتى يَكونَ العبدُ مِنْهُم. قالَ ابنُ جرير: "... وأخبرَ أنَّهُ مَن اتَخَذَهُم نَصِيرًا وحليفًا ووليًّا مِن دُونِ اللهِ ورسولِهِ والمؤمنين، فإنَّهُ مِنْهُم في التَحَزُّبِ على اللهِ وعلى رسولِهِ والمؤمنين، وأنَّ اللهَ ورسولَهُ مِنْهُ بَرِيئَان" ا.هـ.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وأيُّ ظُلم؟! إنَّهُ ظُلْمِ الـمَرءِ نَفسَهُ في السَعيِّ في إدَالَةِ أعداءِ اللهِ على أوليائِه!! أمَّا لِمَاذا؟ فَيُجِيبكَ القرآن:
{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} مَرضُ شَهوَةٍ في نيلِ مَطمَعٍ مِن مَطَامِعِ الدُنيا, أو شُبهَةٍ في الشَكِّ في تَحَقُقِ وعدِ اللهِ بإظهَارِ دِينِه {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي: في مُنَاصَرَتِهِم, وإعانَتِهِم على أهلِ الإسلامِ!! لماذا؟ {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي: نَخَافُ أنْ تَكَونَ الغَلَبَةُ لأهلِ الكُفرِ, أو أنْ تَنْزِلَ بِنَا فَاجِعَةٌ مِن فَواجِع الدهر, فإذا حَدَثَ شَئٌ مِن ذلك, فإذا لَنَا يَدٌ عِندَهُم يُكَافِؤونَنَا عليها.
{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} الذي يُعِزُّ بِهِ الإسلامَ على أُمَمِ الكُفرِ {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِندِهِ} يَيْأسُ بِهِ المنافقونَ مِن ظَفَرِ الكافرينَ مِن يَهُودَ وغَيرِهِم {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا} مِن مُخَالَّةِ اليهودَ والنصارى ومودَّتِهِم، وبَغْضَةِ المؤمنينَ ومُحَادَّتِهِم {نَادِمِينَ}.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} مُتَعَجِبِينَ مِن حَالِ هؤلاءِ الذين في قلوبِهِم مَرَضٌ: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي: حَلَفُوا وأَكَدُوا حَلِفَهُم، وغَلَّظُوهُ بأنواعِ التَأكيداتِ: إنَّهُم لمَعَكُم في الإيمانِ، وما يَلْزَمُهُ مِن النُصرَةِ والمحبَةِ والمُوالاةِ، ظَهَرَ مَا أَضمَرُوهُ، وتَبَيَّنَ مَا أَسَرُوهُ، وصَارَ كَيدُهُم الذي كَادُوهُ، وظَنُّهُم الذي ظَنَّوهُ بالإسلامِ وأهلِهِ بَاطِلا فَبَطَلَ كَيدُهُم, وبَطَلَتْ {أَعْمَالُهُمْ} في الدنيا {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} حيثُ فَاتَهم مَقصُودُهُم، وحَضَرَهُم الشَقاءُ والعذابُ.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} إنَّ تَهدِيدَ مَن يَرتَّدَ عن دِينِهِ مِن الذينَ آمنوا -على هذهِ الصورةِ, وفي هذا المَقَام- يَنصَرَفُ -ابتداءً- إلى الرَبطِ بينَ مُوالاةِ اليهودِ والنصارى وبينَ الارتدادِ عن الإسلامِ, وبخَاصَةٍ بعدَ مَا سَبَقَ مَن اعتبارِ مَن يَتَولاَهُم واحدًا مَنْهُم {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} مِن المُؤمنينَ لَم يُبَدِّلُوا, ولَم يُغَيِّرُوا, ولَم يَرتَدُّوا, مِن صِفَاتِهِم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وليسَ الشَأنُ أنْ تُحِبَّ, وإنِّمَا الشأنُ كُلُ الشَأنِ أنْ تُحَبَّ, وهُم إنِّمَا نَالُوا مَحَبَةَ اللهِ, لِثَبَاتِهِم على حَرِّ الحَقِّ وقَرِّهِ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أَرِقَّاءَ عليهم، رُحَمَاءَ بهم, وما ذاكَ إلا لِمَحبَتِهِم ونصحِهِم لَهُم {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ} أَشِدَاءُ عليهم، غُلَظَاءُ بِهِم, قد اجتَمَعَتْ هِمَمُهُم على مُعَادَاتِهِم، وتحصيلِ كُلِّ سَبَبٍ يَكُونُ بِهِ الانتصارُ عليهِم {يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بأموالِهِم وأَنفُسِهِم، بأقوالِهِم وأفعَالِهِم {وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} وفَيِّمَ الخوفُ مِن لَومِ الناسِ، وهُم قد ضَمِنُوا حُبَّ رَبِّ الناس؟ وفَيِّمَ الوقوفُ عندَ مَألوفِ الناسِ، وعُرْفِ الجِيل، وهُم يَعرِضُونَ مَنهَجَ اللهِ للحياة؟ إنِّمَا يَخشَى لَومَ الناسِ مَن يَستَمِدُ مَقَايِّيسَهُ وأحكَامَهُ مِن أهواءِ الناسِ, ومَن يَستَمِدُ عَونَهُ مِنهُم, أمَّا مَن يَرجِعُ إلى مَوازِينِ اللهِ ومَقَايِّيسِهِ ليَجعَلَهَا حَكَماً على أهواءِ الناسِ وقِيَّمَهُم, ويَركَنُ في استِمدَادِ قوَتِهِ إلى قوةِ اللهِ وعِزَّتِهِ، فلَن يُبَالي ما يَقولُ الناسُ وما يَفعلُون,كائناً هؤلاءِ الناسِ ما كانوا.
إنَّنَا نَحسِبُ حِسَاباً لِمَا يَقولُ الناسُ, ولِمَا يَفعَلُ الناسُ, ولِمَا يَملِكُ الناسُ, ولِمَا يَصطَلِحُ عليه الناسُ في واقِعِ حَيَاتِهِم مِن قِيَّمٍ واعتباراتٍ وموازين؛ لأنَّنَا نَغْفَلُ أو نَتَغَافَلُ عنِ الأصلِ الذي يَجِبُ أنْ نَرجِعَ إليه في الحُكمِ على الأشياءَ, إنَّهُ مَنهَجُ اللهِ وشريعَتُهُ, فهو وحدَّهُ الحَقُّ, وكُلُّ مَا خَالَفَهُ فهو بَاطِل, ولو كانَ عُرِفُ الملايين، ولو أَقَرَّتْهُ الأجيالُ عَشَرَاتِ القُرُون!!
إنَّ قِيِّمَةَ أيُّ وَضعٍ، أو عُرْفٍ، لا أنَّهُ مَوجُودٌ, وإنَّمَا قِيِّمَتُهُ أنْ يَكونَ لَهُ أَصلٌ في مَنهَجِ اللهِ، الذي مِنهُ -وحدَّهُ- تُستَمَّدُ القِيَّمُ والمَوازِين.
{ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} لِئَّلا يُعجَبُوا بأنفُسِهِم, وإنَّمَا لِيَنكَسِرُوا لِمَن مَنَّ عليهم بهذهِ النِعمةِ, في حينِ ضَلَّ عنها آخَرُون.
{وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} واسعُ الفضلِ والإحسان, ومع ذلكَ فهو عَليمٌ بمَن يَستَحِقُّ أنْ يَكونَ محلاً لفضلِهِ وإحسانِهِ.
{إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ} {إِنَّما} أَدَاةُ حَصرٍ تَدُلُّ على أنَّهُ يَجِبُ قَصرُ الوَلاَيَةِ على المَذكُورِينَ، والتَبَرِّي مِن وَلاَيَةِ مَن عَدَاهُم.
{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ} هذا وعدُ اللهِ للفئةِ المُؤمَنَةِ التي آثَرَتْ رِضَا اللهِ, برَفضِهَا مُوَلاَةِ أعدائِهِ { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ} ولو اجتَمَعَ عليهِم مَن بِأقطَارِهَا, فَمَا وَقْعُ هذا الوعدَ في نَفْسِكَ؟ ومَا أثَرُهُ على عَمَلِكَ؟
أصلحَ اللهُ الحال, ونفعَ بالمقال, وأجارنا مِن غَلَبَاتِ الهوى, وميلِهِ إذا مَال..
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين, ...
وكتب/ نايف بن حمد الحربي.
الحمدُ للهِ أهلَ الإسلامِ نَصَر, والحمدُ للهِ يهودَ خَيَّبَ آمَالَهَا وطُمُوحَهَا كَسَر, والحمدُ للهِ لم يَأذنْ بنَصرِهِ إلا بعدما كُلُّ مُتَصهينٍ عن رأسِهِ حَسَر؛ فهذا لِبُغضٍ؛ وذاك لاستِمرَاءِ ذُلٍ؛ وثالثُ بعَدَوَتِهِم يَطِر, فالحمدُ لِمَنْ خَيَّبَ أمَالَهُم, فكُلُهُم بالسَهمِ الأخيَبِ قد ظَفِر, وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ, وتابعيهِم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد :
فعَلَيْكم بتقوى اللهِ عبادَ الله، تَجِدونَهَا نِعمَ الوصية, بها تُحَاذِرُ النَفْسُ الخَطِيةَ, ومعها مِن الإصرار على الذنبِ تبقَى عَصِيَّة, وحَرِيٌّ بنَفْسٍ هذا شأنُهَا, أنْ تَظفَرَ مِن مَولاهَا بالـمَنزِلَةِ العَلِيَّة.
معاشرَ المسلمين:
نَصرٌ يَسُرُّ اليومَ كُلَّ صَديقِ & ويَسوءُ كُلَّ مُنَافقٍ وصَفِيقِ.
نَصرٌ لِغَزَّةَ رُغمَ كُلِّ مُخَذِلٍ & إنَّ الطِبَاعَ تَبِينُ عندَ الضِيقِ.
يُدرِكُ كُلُّ مُراقبٍ للشأنِ الغَزاوي, أنَّ أهلَ غَزَّةَ قد باتُوا شَجًا في حَلْقِ يَهود..:
فهُمْ مَن قالَ لإسرائيلَ: لا, يَومَ أنْ قالَ لَها كُلِّ العَرَبِ: نَعَم.
وهُمْ مَن حَطَّمَ أُسطُورةَ الجيشِ الذي لا يُقهَر:
فمَنَعُوا المِلاحَةَ الجَويَةَ عن مطَارِ "ابن جوريون" إلا بإذنٍ مِن "محمدِ بنِ الضيف".
وأَذِنُوا لليهودِ في مُحِيطِ غَزَّةَ بالعَودةِ إلى مَنَازِلِهِم بعدَ أنْ أَجلَوهُم عنها, بقرارٍ مِن "حماس" وليس مِن "نتن ياهو".
وأعلَنُوا عَزمَهُم على إنشاءِ المِيناءِ والمطَار, والاعتداءِ على مَن يَعتَدِي عليهِما.
والـمُحَصَلَة: أنَّهُم كَشَفُوا للعَالَمِ كُلِّهِ أنَّ إسرائيل تَحتَلُّ جميعَ البلادِ العربيةِ إلا غَزَّة؛ ولذا فهُم مُحَارَبُونَ مِن قِبَلِهَا, وِمن قِبَلِ أذنَابِهَا مِن عَرَبِ المنطقةِ كذلك.
والعَجَبُ أنَّ الكُلَّ مُتَوَاطِئُونَ على أنَّ عَدَائَهُم مُنحَصِرٌ مع حَمَاسَ دُونَ غَيرَها مِن سَائِرِ الغَزاويين؛ رَجَاءَ أنْ يُحدِثُوا بهذا شَرخًا بينَ الروحِ والجسَدِ, مُتَذَرِعِينَ بِمَا اختَلَقُوهُ مِن كَذبَةِ أنَّ حماسًا قد غَمَطَت الغزَاويينَ حَقَهُم في اختيارِ مَن يُمَثِلُهُم, وعليه: فلا بُدَّ مِن إزَالَتِهَا, فَهِلِ الأمرُ كذلك؟
يَنطِقُ التاريخُ شاهِداً بأنَّ الفلسطينيينَ في الضِفَةِ والقِطَاع هُم مَن مَنَحُوا ثِقَتَهُم حَماسًا في انتخاباتِ عامِ ألفينِ وستة, ومع هذا فقد انقلَبَ العَالَمُ كُلُّ العالَمِ على خَيَارِ الفلسطينيين, فَارِضًا عليهم أذنَابَهُ مِن فَتح, ما حَدَا حَمَاساً في العامِ الذي يَليهِ إلى تَطهِيرِ غَزَّةَ مِن دَنَسِ العُملاءِ؛ لِتَتَمَكَنَ بذلكَ مِن القيامِ بالعبءِ الذي ألقى الشَعبُ بِثُقلِهِ عليها, فهل حَماسٌ غاصِبَةٌ للسُلطَة؟ أم أنَّهَا مُمَثِّلَةٌ للشَعب؟
سَأِلُوا التاريخَ فقط, حتى إذا ما بانَتْ لكُمُ الحقيقةُ خِلافَ ما يُرَوِّجُ لَهُ الإعلامُ الأجيرُ, فَلَكُم أنْ تَتَسَأَلُوا: لماذا كُلُّ هذا التضييقِ على حماسٍ إذاً؟
سَأُجِيبُكُم, ولكن مِن مِرآةِ التاريخِ؛ إذْ أنَّها تَعكِسُ للحَاضِرِ صُوراً مِن الـمَاضي ضَارِبَةً في أعمَاقِ التاريخ, صَحيحٌ أنَّها قَدِيمة, لكنَّ دَلالَتِها ثابِتَةٌ ما تعَاقبَ الجَدِيدَان, فَهَلِمُّوا سَويًا لاستعراضِ شَيئًا مِن هذهِ الصُور..
ففي الأولى مِنها: لا أظُنُّ أحداً يَجهَلُ حيثِياتِ نُشُوءِ الدُولِ العربيةِ الـمُعَاصِرَة؛ ولذا, لا غَروَ أنْ تُدِينُ بالولاءِ لِمَن أَنشأهَا, حتى ولو كانَ هذا بحرب بعضِ أبنائِهَا, حيثُ يَظهَرُ في المِرآةِ عبدُاللهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلولٍ قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وثلاثٍ وثلاثينَ سَنَةٍ, وهو يُجَادِلُ النبيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- عن يهودِ بَنِي قينُقَاع, وقد أَرَادَ قَتلَهُم بعدَ أنْ نَقَضُوا العهد: "وَاَللَّهِ لَا أُرْسِلْكَ حَتَّى تُحْسِنَ فِي مواليّ، أَربعمائَة حاسر, وَثَلَاثمائَة دَارِعٍ قَدْ مَنَعُونِي مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، إنِّي وَاَللَّهِ امْرُؤٌ أَخْشَى الدَّوَائِرَ", مِمَّا يُؤكِدُ لَكَ مِصدَاقِيَةَ الصُورَةِ الثانية وهي:
أنَّ الحربَ ليستْ مع يَهودَ وحدَهَا, وإنِّمَا هيَ مع تَحَالُفٍ قديم!! تَأسَسَ في السنَةِ الخامِسَةِ مِن الهِجرَة!! أقطَابُهُ: اليَهُودُ, والـمُشرِكُون, وثالِثُهُم الـمُنَافِقُون, وما إسرائيلُ في حَربِ اليومِ إلا وكيلاً عن هؤلاء, فليسَ اليهودُ هم عَدُوُنَا الوحيد!! وليستْ حَمَاسُ هي الـمُستَهدَفَةُ دُونَنَا!! وإنِّمَا جاءَ التَركيزُ عليها لأنَّهَا رَأسُ الحربَة!! ولذا يُريدُ التَحَالُفُ كَسرَهَا, تَمَامًا كَمَا تُظهِرُ المِرآةُ مِن أنَّ الأحزابَ قد تَكالَبُوا قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وثلاثينَ سَنَةٍ يُرِيدُونَ استِئصَالَ الفِئَةِ الـمُؤمِنَةِ في أَكنَافِ الـمَدِينَة, مع أنَّ ثَمَّةَ مُؤمنينَ آخَرِينَ في أحياءِ العرَب!! مَا يُفْضِي بِنَا إلى الصُورَةِ الثالِثَة:
وهيَ أنَّ يَهُود مَهما أُوتُوا مِن قُوة لا يَجرَؤونَ على حَربِنَا إلا بِمُؤازَرَةٍ مِن بعضِ مُنَافِقِينَا, حيثُ يَظهَرُ فيها قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وإحدى وثلاثينَ سَنَةٍ يَهودُ بَنِي النَضِير وقد أَذعَنُوا لأَمرِ الجَلاءِ –بعدَ كَشفِ مُؤامَرَتِهم في محاولَةِ الاغتيال- لَكِنَّهُم ما لَبِثُوا أنْ بَعَثُوا إلى النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولونَ: "إنَّا لا نَخرُجَ مِن دِيَارِنَا، فاصنعْ ما بَدَا لَك!!" وما ذَاك إلا لأنَّ ابنَ أُبَيٍّ بَعثَ إليهِم قائِلاً: "لَا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَأَقِيمُوا فِي حُصُونِكُمْ، فَإِنّ مَعِي أَلْفَيْنِ مِنْ قَوْمِي وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ فَيَمُوتُونَ مِنْ آخِرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَيْكُمْ..." فكَم مِن ابنِ أُبَيٍّ في زَمَانِنَا يَمُدُ يَهُودَ سَارِبًا, ومُستَخفِي؟؟
ومع هذا أهلَ الإسلام, لا يَهُولَنَّكُمْ أمرُ حِلفِهِم؛ فالصورةُ الرابِعَةُ تُبدِي: أنَّهُم مَهمَا أَبدَوا مِن اللُحمَة, إلا أنَّ قُلُوبَهُم شَتى, وخيرُ شَاهِدٍ على هذا: إذعَانُ إسرائيلَ للـمُهَادَنةِ مع رغبةِ عُملائِهَا الجَامِحَةِ في الـمُضِيِّ قُدُمًا في خَيَارِ الحَلِّ العسكَري, وما هذهِ الـمُنَاكَفَةُ مِنها لِرغبَةِ أذنَابِهَا إلا لأنَّها تُؤمِنُ بحقيقَتِهم التي حَكَاهَا القرآنُ: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} بِبَسَاطَة: فــــــ"نتن ياهو" يَعرِفُهُم تَمَامًا في حَرب ثَمَانٍ ,أربعين, ويَذكُرُهُم في نَكبَةِ سَبعٍ وستين, ولم يَغِبْ عنهُ خُذلانُهُم لَهُ في مَعرَكَةِ ثَلاثٍ وسبعين, تمامًا كما تَعكسُ المِرآةُ قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وثلاثينَ سَنَة: فَرُغمَ كُلِّ الـمَواثِيقِ بينَ الأحزابِ إلا أنَّ قُريشًا صَدَّقَتْ كَلامَ نُعَيمٍ في بَنِي قُرَيظَة, وبَنُوا قُرَيظَةَ طَلَبُوا الاستيثاقَ على صِدقِ النوايا مِن قُريشٍ برهائن, فَفَرَّقَ اللهُ جَمعَهُم, وهكذا هُم دائماً {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} وإنِّمَّا أُمضُوا قُدُماً مُتَأمِّلِينَ الصورةَ الخامِسَةَ حيثُ تَحكِي:
أنَّهُ مَهمَا حَاولَ اليهودُ وأَذنابُهُم إغلاقَ الـمَعَابِر, أو رَدمَ الأنفَاق, وأَظهَرُوا إصرَارَهُم على هذا, فلَنْ يَتِمَّ لَهُمْ مَا أَرَدُوا -بإذن الله- حيثُ يَظهَرُ في الصورَةِ طُمُوحٌ لِبَنِي النَضِير قَريباً مِن هذا {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} فكانتْ الـمُفَاجَأةُ التي أَجبَرَتهُم على فَتحِ الحُصُونِ {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}.
وإيَّاكُم إيَّاكُم أهلَ الإسلامِ أنْ يَدُرْ في خَلَدِكُم جَدوَى الحُلُولِ السِلمِيَة, فهي لَم تُرجِعْ حَقًّا مَسلُوباً مُنذُ سِتٍ وسِتِينَ سَنة, وهذا ما تُؤَكِدُهُ الصورَةُ السادسةُ: إذْ أنَّ استراتيجياتُ الأعداءِ وتحالُفَاتِهِم واحِدَة, يستوي في هذا: "حُيَيُّ بنُ أخطب" و "جون كيري" كما يَستَوي فيه: " كعبُ بنُ أسد" و "جلعاد" وكذلك: "أبو سُفيانَ" و "السيسي" وإن شِئت: "فابنُ أُبَيٍّ" و "وعَزَّام" فهُم وإنْ كانوا أقوياءَ بِعَلاقَاتِهُم الدولية, إلا أنَّهُم لا يَملِكُونَ أَيَّ حَلٍّ تُجَاهَ نُقطَةِ الضَعفِ التي في دَواخِلِهِم!! ألا وهيَ: الرُعبُ والهَلَع مِن كَابُوسِ الانهيَارِ الحَتمِي للمُعسكَرِ اليهودي المُمَوَلِ عربياً ودولياً, لِيتُلوا عندها عِبَادُ الرحمنِ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ...} تمامًا كما تَعكسُ المِرآةُ قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وإحدى وثلاثينَ سَنَة: حيثُ بالرُعبِ هَرَبَ بَنُو النضير, وبالرُعِب استَسلَمَتْ بَنُوا قُرَيظَةَ دُونَ مُقَاوَمَة, لِيَبدُو فِيهم جَلِيًّا قولُ الله: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}.
فَقِرُوا عَيناً بوعدِ اللهِ, وثِقُوا بنَصرِهِ, والعملَ العملَ, ولا تَأبَهُوا بِشَائِعَاتِ الأعداءِ؛ فإنَّمَّا هي جُزءٌ مِن سِلاَحِهِ للفَتِّ في عزائِمِكُم, كما تُظهِرُ الصورَةُ السَابِعَةُ, حيثُ تَعكِسُ عن كبيرِهِم قَبلَ ألفٍ وأربعمائة وستٍ وعشرينَ سَنَةٍ قَولَهُ -إِبَّانَ غَزوَةِ تَبوك-: "يَغْزُو مُحَمّدٌ بَنِي الْأَصْفَرِ، مَعَ جَهْدِ الْحَالِ وَالْحَرِّ وَالْبَلَدِ الْبَعِيدِ، إلَى مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ! يَحْسِبُ مُحَمّدٌ أَنّ قِتَالَ بَنِي الْأَصْفَرِ اللّعِبُ؟ وَاَللهِ لَكَأَنّي انْظُرُ إلَى أَصْحَابِهِ غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ!!" وكما تَعكسُ قبلَ ألفٍ وأربعمائةٍ وثلاثينَ سَنَة إِبَّانَ غَزوةِ الأحزابِ عن مُعَتِّبٍ بْنِ قُشَيْرٍ قَولَهُ: "يَعِدُنَا مُحَمّدٌ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لا يَأْمَنُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى حَاجَتِهِ"
أقولُ هذا القول, واستغفرُ اللهَ لي ولكم...
الحمدُ للهِ عَظِيمِ الـمَواهِب, مُتَفَضِلٌ على خَلقِهِ وللمَحَامِدِ واهِب, ما نَستَقبِلُ مِنها, وما مَضَى مع الأيامِ ذاهِب, و صلى اللهُ وسَلَّمَ على عَبدِهِ ورسولِهِ محمد, وعلى آلهِ وصحبِهِ والتابعين, ما تَنَفَسَّ نَسِيمُ الصَبَا, وما استَحَالَتْ إلى الجنوبِ لاَهِب..
أما بعد :
أهلَ الإسلام, كُلُّ مَا أسلَفْنَا مِن حديثٍ حولَ كَشفِ قِدَمِ مَكرِ القومِ, قد أجملَهُ اللهُ في سِتِ آياتٍ مُتوالياتٍ مِن سُورةِ المائدةِ, حيثُ قالَ سُبحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهذا النِدَاءُ وإنْ نزلَ على العُصبَةِ الـمُؤمِنَةِ في أكنَافِ المدينةِ, إلا أنَّهُ مُوَجَّهٌ إلى كُلِّ مَن يَنطَبقُ عليهِ ذَاتُ الوصفِ إلى يَومِ القيامة.
{لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} والولاَيَةُ الـمَنهِيُّ عنها هُنا هي: وَلاَيَةُ التَحَالُفِ والتَنَاصُر, لا الوَلاَيَةُ بمعنَى الإتِبَاعِ على الدين, وإنْ كانتْ هذهِ في الجُرمِ أعظَم.
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إنَّهَا الحقيقةُ التي لا عَلاَقَةَ لها بالزمَن؛؛ لأنَّهَا حقيقَةٌ نَابِعَةٌ مِن طبيعةِ الأشياء؛ ولذا عَبَّرَ اللهُ عنها بالجُملَةِ الاسميةِ الدَّالَةِ على الاستمرار {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فأهلُ الكُفرِ أَولياءُ لبعضِهِم أبَدَ الدهر, ولذا, لَنْ يَتَأتَّى يومٌ يكونونَ فيهِ ظُهَرَاءُ على بعضِهِم لأهلِ الإيمانِ حقيقةً, وإنْ أَبدَوا خِلافَ ذلِكَ في ظَاهِرِ الحَال.
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} لأنَّ التَولي التَامَّ يُوجِبُ الانتقالَ إلى دِينهم, والتَولِي القليلُ يَدعُو إلى الكثير، ثُمَّ يَتَدَرَّجُ شَيئًا فَشَيئًا، حتى يَكونَ العبدُ مِنْهُم. قالَ ابنُ جرير: "... وأخبرَ أنَّهُ مَن اتَخَذَهُم نَصِيرًا وحليفًا ووليًّا مِن دُونِ اللهِ ورسولِهِ والمؤمنين، فإنَّهُ مِنْهُم في التَحَزُّبِ على اللهِ وعلى رسولِهِ والمؤمنين، وأنَّ اللهَ ورسولَهُ مِنْهُ بَرِيئَان" ا.هـ.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وأيُّ ظُلم؟! إنَّهُ ظُلْمِ الـمَرءِ نَفسَهُ في السَعيِّ في إدَالَةِ أعداءِ اللهِ على أوليائِه!! أمَّا لِمَاذا؟ فَيُجِيبكَ القرآن:
{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} مَرضُ شَهوَةٍ في نيلِ مَطمَعٍ مِن مَطَامِعِ الدُنيا, أو شُبهَةٍ في الشَكِّ في تَحَقُقِ وعدِ اللهِ بإظهَارِ دِينِه {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي: في مُنَاصَرَتِهِم, وإعانَتِهِم على أهلِ الإسلامِ!! لماذا؟ {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي: نَخَافُ أنْ تَكَونَ الغَلَبَةُ لأهلِ الكُفرِ, أو أنْ تَنْزِلَ بِنَا فَاجِعَةٌ مِن فَواجِع الدهر, فإذا حَدَثَ شَئٌ مِن ذلك, فإذا لَنَا يَدٌ عِندَهُم يُكَافِؤونَنَا عليها.
{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} الذي يُعِزُّ بِهِ الإسلامَ على أُمَمِ الكُفرِ {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِندِهِ} يَيْأسُ بِهِ المنافقونَ مِن ظَفَرِ الكافرينَ مِن يَهُودَ وغَيرِهِم {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا} مِن مُخَالَّةِ اليهودَ والنصارى ومودَّتِهِم، وبَغْضَةِ المؤمنينَ ومُحَادَّتِهِم {نَادِمِينَ}.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} مُتَعَجِبِينَ مِن حَالِ هؤلاءِ الذين في قلوبِهِم مَرَضٌ: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي: حَلَفُوا وأَكَدُوا حَلِفَهُم، وغَلَّظُوهُ بأنواعِ التَأكيداتِ: إنَّهُم لمَعَكُم في الإيمانِ، وما يَلْزَمُهُ مِن النُصرَةِ والمحبَةِ والمُوالاةِ، ظَهَرَ مَا أَضمَرُوهُ، وتَبَيَّنَ مَا أَسَرُوهُ، وصَارَ كَيدُهُم الذي كَادُوهُ، وظَنُّهُم الذي ظَنَّوهُ بالإسلامِ وأهلِهِ بَاطِلا فَبَطَلَ كَيدُهُم, وبَطَلَتْ {أَعْمَالُهُمْ} في الدنيا {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} حيثُ فَاتَهم مَقصُودُهُم، وحَضَرَهُم الشَقاءُ والعذابُ.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} إنَّ تَهدِيدَ مَن يَرتَّدَ عن دِينِهِ مِن الذينَ آمنوا -على هذهِ الصورةِ, وفي هذا المَقَام- يَنصَرَفُ -ابتداءً- إلى الرَبطِ بينَ مُوالاةِ اليهودِ والنصارى وبينَ الارتدادِ عن الإسلامِ, وبخَاصَةٍ بعدَ مَا سَبَقَ مَن اعتبارِ مَن يَتَولاَهُم واحدًا مَنْهُم {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} مِن المُؤمنينَ لَم يُبَدِّلُوا, ولَم يُغَيِّرُوا, ولَم يَرتَدُّوا, مِن صِفَاتِهِم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وليسَ الشَأنُ أنْ تُحِبَّ, وإنِّمَا الشأنُ كُلُ الشَأنِ أنْ تُحَبَّ, وهُم إنِّمَا نَالُوا مَحَبَةَ اللهِ, لِثَبَاتِهِم على حَرِّ الحَقِّ وقَرِّهِ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أَرِقَّاءَ عليهم، رُحَمَاءَ بهم, وما ذاكَ إلا لِمَحبَتِهِم ونصحِهِم لَهُم {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ} أَشِدَاءُ عليهم، غُلَظَاءُ بِهِم, قد اجتَمَعَتْ هِمَمُهُم على مُعَادَاتِهِم، وتحصيلِ كُلِّ سَبَبٍ يَكُونُ بِهِ الانتصارُ عليهِم {يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بأموالِهِم وأَنفُسِهِم، بأقوالِهِم وأفعَالِهِم {وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} وفَيِّمَ الخوفُ مِن لَومِ الناسِ، وهُم قد ضَمِنُوا حُبَّ رَبِّ الناس؟ وفَيِّمَ الوقوفُ عندَ مَألوفِ الناسِ، وعُرْفِ الجِيل، وهُم يَعرِضُونَ مَنهَجَ اللهِ للحياة؟ إنِّمَا يَخشَى لَومَ الناسِ مَن يَستَمِدُ مَقَايِّيسَهُ وأحكَامَهُ مِن أهواءِ الناسِ, ومَن يَستَمِدُ عَونَهُ مِنهُم, أمَّا مَن يَرجِعُ إلى مَوازِينِ اللهِ ومَقَايِّيسِهِ ليَجعَلَهَا حَكَماً على أهواءِ الناسِ وقِيَّمَهُم, ويَركَنُ في استِمدَادِ قوَتِهِ إلى قوةِ اللهِ وعِزَّتِهِ، فلَن يُبَالي ما يَقولُ الناسُ وما يَفعلُون,كائناً هؤلاءِ الناسِ ما كانوا.
إنَّنَا نَحسِبُ حِسَاباً لِمَا يَقولُ الناسُ, ولِمَا يَفعَلُ الناسُ, ولِمَا يَملِكُ الناسُ, ولِمَا يَصطَلِحُ عليه الناسُ في واقِعِ حَيَاتِهِم مِن قِيَّمٍ واعتباراتٍ وموازين؛ لأنَّنَا نَغْفَلُ أو نَتَغَافَلُ عنِ الأصلِ الذي يَجِبُ أنْ نَرجِعَ إليه في الحُكمِ على الأشياءَ, إنَّهُ مَنهَجُ اللهِ وشريعَتُهُ, فهو وحدَّهُ الحَقُّ, وكُلُّ مَا خَالَفَهُ فهو بَاطِل, ولو كانَ عُرِفُ الملايين، ولو أَقَرَّتْهُ الأجيالُ عَشَرَاتِ القُرُون!!
إنَّ قِيِّمَةَ أيُّ وَضعٍ، أو عُرْفٍ، لا أنَّهُ مَوجُودٌ, وإنَّمَا قِيِّمَتُهُ أنْ يَكونَ لَهُ أَصلٌ في مَنهَجِ اللهِ، الذي مِنهُ -وحدَّهُ- تُستَمَّدُ القِيَّمُ والمَوازِين.
{ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} لِئَّلا يُعجَبُوا بأنفُسِهِم, وإنَّمَا لِيَنكَسِرُوا لِمَن مَنَّ عليهم بهذهِ النِعمةِ, في حينِ ضَلَّ عنها آخَرُون.
{وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} واسعُ الفضلِ والإحسان, ومع ذلكَ فهو عَليمٌ بمَن يَستَحِقُّ أنْ يَكونَ محلاً لفضلِهِ وإحسانِهِ.
{إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ} {إِنَّما} أَدَاةُ حَصرٍ تَدُلُّ على أنَّهُ يَجِبُ قَصرُ الوَلاَيَةِ على المَذكُورِينَ، والتَبَرِّي مِن وَلاَيَةِ مَن عَدَاهُم.
{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ} هذا وعدُ اللهِ للفئةِ المُؤمَنَةِ التي آثَرَتْ رِضَا اللهِ, برَفضِهَا مُوَلاَةِ أعدائِهِ { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ} ولو اجتَمَعَ عليهِم مَن بِأقطَارِهَا, فَمَا وَقْعُ هذا الوعدَ في نَفْسِكَ؟ ومَا أثَرُهُ على عَمَلِكَ؟
أصلحَ اللهُ الحال, ونفعَ بالمقال, وأجارنا مِن غَلَبَاتِ الهوى, وميلِهِ إذا مَال..
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين, ...
وكتب/ نايف بن حمد الحربي.