مدارس الصيام
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ للهِ ذِي الْفَضْلِ وَالإِنْعَامِ، أَوْجَبَ الصِّيَامَ عَلَى أُمَّةِ الإِسْلاَمِ، وَجَعَلَهُ أَحَدَ أَرْكَانِ الدِّينِ الْعِظَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَفْضَلُ مَنْ صَلَّى وَصَامَ، وَخَيْرُ مَنْ أَطَاعَ أَمْرَ رَبِّهِ وَاسْتَقَامَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ البَرَرَةِ الْكِرَامِ، وَسَلَّمَ تَسْليِمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: شَهْرُ الصِّيَامِ مَدْرَسَةٌ رَبَّانِيَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَحْقِيقِ التَّقْوَى، وَتَجْرِيدِ الإِخْلاَصِ للهِ فِي الْعَمَلِ، وَتَهْذِيبِ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَتَعْوِيدِ الْعَبْدِ عَلَى الإِحْسَانِ وَالْجُودِ؛ وَقَدِ افْتَتَحَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ آيَاتِ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، وَخَتَمَهَا -سُبْحَانَهُ– بِقَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 187].
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الصَّوْمِ وَمَدَارِسِهِ الْعَظِيمَةِ هُوَ تَحْقِيقُ التَّقْوَى؛ بَلْ كُلُّ الْعِبَادَاتِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَأَشْكَالِهَا سَبَبٌ لِحُصُولِ التَّقْوَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21].
وَبِالتَّقْوَى يَتَحَقَّقُ لِلصَّائِمِ امْتِثَالُ الأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي، وَتَكْفِيرُ الذُّنُوبِ، وَتَعْظِيمُ الأَجْرِ، وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ.
وَفِي الصِّيَامِ تَبْرُزُ مَسْأَلَةُ الإِخْلاَصِ للهِ فِي أَجَلِّ عَمَلٍ، وَأَعْظَمِ قُرْبَةٍ، وَأَطْيَبِ جَزَاءٍ، وَأَفْضَلِ فَوْزٍ؛ وَذَلِكَ لأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ خَفِيَّةٌ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلاَّ اللهُ تَعَالَى؛ فَالصَّائِمُ يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ امْتِثَالاً لأَمْرِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، فَلاَ رِيَاءَ فِي الصَّوْمِ وَلاَ سُمْعَةَ؛ وَلِذَلِكَ أَضَافَ اللهُ تَعَالَى الصَّوْمَ إِلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ؛ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» [رواه البخاري، ومسلم واللفظ له].
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [متفق عليه].
وَمِنْ مَدَارِسِ الصِّيَامِ: أَنَّهُ يُنَمِّي فِي نَفْسِ الصَّائِمِ الصَّبْرَ وَالاِحْتِمَالَ وَقُوَّةَ الإِرَادَةِ؛ صَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَصَبْرٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِهَا؛ وَلِذَلِكَ وَصَفَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَهْرَ رَمَضَانَ بِشَهْرِ الصَّبْرِ فِي أَكْثَرَ مِنْ حَدِيثٍ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ» [رواه النسائي والحديث صحيح].
اللَّهُمَّ كَمَا بَلَّغْتَنَا أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ بَلِّغْنَا آخِرَهُ، وَأَعِنَّا فِيهِ عَلَى الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، وَاجْعَلْنَا وَوَالِدِينَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَقْبُولِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ مَدَارِسِ الصِّيَامِ:
بِنَاءَ الْفَرْدِ الْمُسْلِمِ بِنَاءً تَتَجَلَّى مِنْ خِلاَلِهِ شَخْصِيَّةُ الْمُسْلِمِ، وَهِيَ تَتَحَلَّى بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَجَمِيلِ الصِّفَاتِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِمَبَادِئِ الإِسْلاَمِ الْعَظِيمَةِ؛ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّوْمِ فِي الإِسْلاَمِ مُجَرَّدَ الإِمْسَاكِ عَنْ شَهَوَاتِ الْفَرْجِ، وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ وَلَكِنْ صَوْمُ اللِّسَانِ عَنِ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَغَيْرِهَا؛ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْل فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
وَمِنْ مَدَارِسِ الصِّيَامِ: الأَثَرُ الاِجْتِمَاعِيُّ الْمُبَارَكُ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَالَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ، وَالإِحْسَانِ وَالْجُودِ وَالرَّحْمَةِ، وَتَحْقِيقِ مَبْدَأِ الأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ. [رواه البخاري].
وَمِنْ مَدَارِسِ الصِّيَامِ: حُصُولُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَالأَقْوِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ؛ حَيْثُ يُفْطِرُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيُمْسِكُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ، وَمَشَاعِرُ الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَهُوَ أَمْرٌ يُرَبِّي الأُمَّةَ عَلَى الاِجْتِمَاعِ وَعَدَمِ الْفُرْقَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾
[آل عمران: 102-103].
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَاسْتَقْبِلُوا الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِمُوَاصَلَةِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَعَلَّ مِنْهَا مَا يَقَعُ عِنْدَ اللهِ بِمَكَانٍ فَتَحْصُلُ فِيهِ سَعَادَةُ الْعَبْدِ فِي الدَّارَيْنِ؛ وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا؛ فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا؛ فَإِنَّ الشَّقِيَ مَنْ حُرِمَ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ، هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
المشاهدات 1128 | التعليقات 2
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاك الله خيرا
محمد بن سليمان المهوس
تقبل الله صيامكم
تعديل التعليق