مختارات عيدية
صالح العويد
المشاهدات 1468 | التعليقات 8
( الابتلاءات والمحن والفتن والمخرج والاستبشار والتفاؤل )
تأملت أحوال الناس من حولي فامتلأ قلبي حزنا و أسى ، كآبة غزت القلوب ... أشخاص ضاقت بهم الدنيا و اشتدت عليهم الكروب ، قلق مستمر و حزن و يأس تغلغل في الصدور ...
أيها المسلمون إن فلسفة الألم في الإسلام سنة كونية من سنن الله تعالى، يراد بها تذكير الناس بالله، إن الله إذا أوجع الأمم أو الشعوب إنما يريد بذلك أن يفر الناس إليه و أن يقبلوا عليه ويقولوا: " ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون " ( سورة الدخان، الآية 12)، فهلا تضرع الناس عندما يتألمون، هلا علموا بأن لهم ربا يعطي و يمنع و يخفض ويرفع، مهما حصل لا تستسلم للظروف فان لك ربا أكبر من كل شيء ، و ردد دوما : ( إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .
إن الآلام تنزل بالأمة سيلا منهمرا و حال العباد في قلق مستمر، مع ذلك نتساءل : أين أصوات الضارعين ؟ أين أصوات المستغيثين برب العالمين ؟ لا تجد، وفي المقابل لا ترى إلا مجونا و فسوقا و تبرجا يندى له جبين الكرامة ، كل ذلك يحدث جهارا نهارا أمام أعين الناس و لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هل هذه الآلام تنزل بالبشر أم تنزل بجماد؟ ألا نعرف ربنا حتى نتضرع له و نستغيث به ؟ قال الله تعالى : " و لو رحمناهم و كشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون، ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " ( سورة المؤمنون، الآية 75 – 76 ).
أيها المسلمون إن أحوج ما نحتاج إليه اليوم هو أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر، نحتاج إلى عودة صادقة إلى كتاب الله - عز وجل – فو ينظم للإنسانية طريقها و يضبط غرائزها،
قال تعالى : " و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء و هدى ورحمة و بشرى للمسلمين " ( سورة النحل ، الآية 89 ).
مع هذا كله أتسائل : أين أصوات الضارعين ؟؟؟ أين أصوات المستغيثين برب العالمين ؟؟؟ لماذا ينسى الناس أن لهم ربا يقول للشيء كن فيكون؟؟؟
( الاسراف )
إن من الملفت استِرسالَ الناس في الإسراف، فترَى الواجِدَ يُسرِف، والذي لا يجِدُ يقترِضُ من أجل أن يُسرِف، ويصرِف على ما لا يحتاجُه .
البعض يشتكي من زيادة عشرة ريالات في الوقود أو الكهرباء أو الماء وهو يشتري وجبة عشاء بثلاثين ريـالا يأكل ربعها ويرمي الباقي .
عباد الله .. إن من جالِبات الهُموم والغُموم للبيوت: التفاخُرَ في الإنفاق، والمُباهاة في الصَّرف، في تنافُسٍ مُشين، وإسرافٍ ظاهرٍ، مما يقودُ إلى تراكُم الديون، وإثقال الكواهِل، وفساد الأمزِجة؛ بل قد يقودُ إلى أكل الحرام، وفساد الذِّمَم، والتقصير في جنبِ الله. يستَدينُ ليُسافِر، ويقترِض ليُقيمَ حفلاتٍ باذِخة، ما قادَه إلى ذلك إلا المُباهاة أو سيء العاداتُ ، مما أثقَلَ كواهِلَ أرباب الأُسَر ونغَّصَ عيشَهم لسنواتٍ وسنواتٍ؛ بل إن لم يكن مدَى الحياة. وما كان ذلك إلا بسبب الإسراف والتبذير وعدم الترشِيد.
، وصدق الله: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [يونس:12].
أيها المسلمون: وفي هذا المجال أيضًا ترى الإنفاق الضخم على الحفلات والمناسبات والأعراف والدرجات سرف عظيم وإنفاق ليس له مردود يكفي لإعاشة المحتفلين دهرًا طويلاً.
عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت فهو لك، وما أنفقت رياءً وسمعة فذلك حظ الشيطان"، ولقد كان العرب في الجاهلية ينفقون أموالهم ويطعمون الطعام ويقيمون الولائم للتفاخر والسمعة، ويذكرون ذلك في أشعارهم؛ فنهى الله عن ذلك الصنيع، فهل عادت تلك الخصلة الجاهلية بالمباهاة والتكلف في المناسبات، ليقال: ما صنع آل فلان؟!!
أيها المسلمون: إن وفرة المال ليست عذرًا ولا مسوغًا لإسراف، حتى وإن كان المنفق مقتدرًا، وقد علمتم ما جاء في السرف، فإن صاحب المال مسؤول عنه يوم القيامة"عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟!. رواه الترمذي بإسناد صحيح، قال الله -عز وجل-: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر:8]، أي ما تنعمتم به في الدنيا، فهل أعددنا للسؤال جوابًا؟! وهل أعددنا للجواب صوابًا؟!!
( الفتن والابتلاءات والمخرج منها )
عباد الله: ولما كان دينُ الله عزيزاً وشريعته غالية؛ فإنه لا يستحق حملَها إلا خيارٌ من خيار، فكانت الابتلاءاتُ والمحن تعرض للمؤمنين والأذيةُ والفتن تحيط بالمصدقين حتى لا يبقى على الدين إلا من يستحقه وليعلم الله الذين صدقوا.
الفتنة والابتلاء سنة جارية في الأولين والآخرين.
بسم الله الرحمن الرحيم: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1- 3].
إن الإيمان ليس مجرد كلمة تقال، بل هو حقيقة ذات تكاليفَ وأمانةٌ ذات أعباء وجهادٌ يحتاج إلى صبر،
والفتن والابتلاءات أنواعٌ وصور: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء:35 ]؛ فمنها السراء والضراء، ومنها الفتنة بانتشار المنكرات وغلبة الأهواء، وكثرة الدعاة على أبواب جهنم وكثرة الاختلاف، وخلط الحق والباطل.ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ثم لا يملك النصر لنفسه ولا المنعة.ومن الفتنة أن يعيش المؤمن بدينه كالغريب بين الناس؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بَدَأَ الإسْلامُ غرِيبًا، وسَيَعُودُ غرِيباً كَمَا بَدَأ؛ فَطُوْبَى لِلْغُربَاء" رواه مسلم.
أيها المسلمون: الحديث عن الثبات وقت المحن والصبر في البلاء والفتن حديثٌ موجه إلى عموم المؤمنين من الأخيار والصالحين والدعاة وطلبة العلم والمحتسبين حين يتسرب الوهن والإحباط إلى بعض المسلمين، ويرون تسلط الأعداء والمرجفين، ومن يُشعل فتيل الخلافات ويثير النزاعات ويطرحون الأفكار الغريبة المشتتة.
أيها المسلمون: أيها الأخيار والصالحون: لقد قص الله علينا في كتابه، وروى لنا رسوله في سنته من سِيَر الأمم السابقة وأتباع الديانات السالفة، وقوة اطمئنان القلب لما جاء عن المرسلين -على كثرة الصوارف وشدة بأس المخالف- ما يبين معه أن إيمانهم لو وُزِنَ بالجبال لرجح بها؛ فهذا يُنشَرُ بالِمنشار من رأسه إلى قدميه ما يتزحزح عن دينه، وأولئك تُخدَّد لهم الأخاديدُ فتُسجَر بالنار ثم يقذفون فيها.كما ضرب لنا نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وصحابتُه الكرام أروعَ الأمثلة في الثبات على الدين؛ مما أوصل لنا الدين كاملا والعقيدة نقية صافية حتى اعتنقها ملايين البشر وعمَّتِ السهلَ والوعر.
وفي كل زمان فتنٌ وابتلاءات؛ ومع ذلك يبقى الدينُ ويبقى الخير، وفي زماننا هذا -ويالزماننا!!- زمنِ زلزلة المفاهيم وخلخلةِ الثوابت وتقلبِ الآراء وانتكاس المبادئ.. زمنِ إعادة النظر في كل شيء دينيٍّ وإِرْثٍ عقديٍّ .. زمنِ السخرية من الدين وأهله وانتقاص الشريعة وحَملتِها، حتى كثر المتساقطون على الطريق واستحكم اليأس في بعض النفوس.
فصار الباعثُ على إعادة النظر في بعض أحكام الشريعة المستقرة ليس دليلا راجحا أو مأخذاً واضحاً، إنما الباعث ضغط الواقع أو اتباع الهوى ومسايرةُ الناس.
أيها المسلمون.. أيها المؤمنون.. أيها الأخيار والصالحون: المؤمن لا يهن ولا يحبط ولا يستكين ولا ييأس ولا يستوحش من الطريق لقلة السالكين، ولا ينظر إلى الهالك كيف هلك، بل ينظر إلى الناجي كيف نجا.
إننا اليوم أحوجُ ما نكون إلى الفأل والعمل والبشارة وتحفيز الهمم ومعرفة السنن؛ سنن الله في أوليائه وأعدائه، سنن الإدالة والنصر والمد والجزر؛ حتى يطمئن مؤمن ولا يغتر فاجر، ولئلا يكون كثرة الباطل مدعاةً لليأس والقنوط، وقد قال الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103]، وقال -سبحانه-: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) [الأنعام:116]
لا يجوز أن يضعف صاحب الحق أو يهين؛ فإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا، وامتداداً وانحسارا.. ضعفٌ وقوة، وفرقة واجتماع وغربة، وظهور وابتلاء، وتمكين ينطق بذلك وحي السماء، ويؤيده تاريخُ البشر. وفي الخبر المتفق عليه قال هرقل لأبي سفيان: "هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف الحرب بينكم؟ قال: سجال، يُدال علينا مرةً ونُدَالُ عليهِ أخرى، قال: كذلك الرسلُ تُبتَلَى ثم تكونُ لهمُ العاقِبة".حكمةٌ بالغة وسنةٌ ماضية
أخرج الترمذي بإسناد صحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يأتي على النَّاسِ زمَانٌ الصَّابرُ فيهِم عَلى دِينِه كالقَابِضِ على الجَمْر"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: "ويلٌ للعرَبِ منْ شرٍّ قد اقترَب؛ فِتنًا كقِطعِ الليل المظْلمِ يُصبحُ الرَّجلُ مؤمِنًا ويمسي كافرا؛ يبيعُ قومٌ دينَهُم بعَرَضٍ منَ الدُّنيا قليل، المتمسِكُ يومئذٍ بدينِهِ كالقَابِضِ على الجمر" أو قال: "على الشَّوك" حديث صحيح رواه الإمام أحمد.
إنها ابتلاءاتٌ وإدالات، والشدائد كاشفات لأصحاب النفوس الكبيرة والذين لا تزيدهم إلا صبراً ويقيناً وحزماً وعزماً.
إخوة الإسلام.. إخوة الإيمان: إننا بحاجة إلى تجديد الإيمان في قلوبنا وفي أعمالنا؛ سيَّما في وقت الشدائد والفتن: معاني الإيمان واليقين وحسن الظن بالله والتسليم، والصبر، وصدق الولاء، والتضرع لله والدعاء، وحسن المجاهدة وتهذيب النفوس وإصلاحها، والعبودية لله والاستعانة به وحسن التوكل عليه، والعمل بجدٍّ وفأل، وتوحيد الصف وجمع الكلمة، ومدافعة الباطل بلا يأس.
وكل هذه المعاني حققها المؤمنون السابقون في مُثُلٍ تُقوِّي العزائم وتشحذ الهمم، واقرأوا ما قص الله في القرآن من سيرة الرسل الكرام حتى قال الله -تعالى- في الختام: (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].
واقرأ في سيرة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وكيف كان الفأل والعمل في أحلك الظروف والمواقف: فيبشر بظهور الدين وهو طريدٌ بين مكة والطائف -كما أخرجه ابن سعد في (الطبقات)- ويعِد سُراقةَ بسواريْ كِسرى وهو مُطاردٌ في الهجرة، وتحاصر المدينة بعشرة آلاف مقاتل وتنقض اليهود عهدها؛ فيبشر ببشارته الثلاث عند ضربه الصخرة التي عرضت -كما في صحيح البخاري-.
أيها المؤمنون: وللدعاء أثرٌ عظيم في الثبات والنصر، والاستعاذة من الفتن واردة في الصحيحين، وفي الحديث المتفق عليه: "وأعُوذُ بِكَ مِنْ فتنةِ المحيَا والممَات".
وما انتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدر حتى سقط رداؤه من على منكبه دعاءً وتضرعا.
والعلم النافع يميِّز به المسلمُ بين الحق والباطل حين تلتبس الأهواء، والسير في ركاب جماعة المسلمين أمنٌ من الفتنة، كما في حديث حذيفة المُخرَّج في الصحيحين.
ومن سيماء المؤمنين: التثبتُ من الأخبار خاصة فيما يتعلق بالدين وحملته؛ أما التَّخوُّض في الباطل واعتماد أخبار الفساق والاتكاء على الحكايات والقصص الغريبة - فذلك شأن الجهلة والغوغاء.
والعبادة وقت الفتن هي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته حيث قال: "بادِرُوا بالأعمالِ الصالحةِ فتناً كقِطعِ الليلِ المظْلِم يصبحُ الرجلُ مؤمِناً ويُمسِي كافِرا" رواه مسلم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "العبادةُ في الهَرْج كهجرة ٍإليَّ" رواه مسلم.
والمسلم يلزم نفسه بمجالس الصلاح ويهرب من مواطن الريَب والفساد: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف:28].
والصدع بالحق لا يعني الغلظة المنفرة ولا الخشونة والتعالي، كما أن الدعوة بالحسنى لا تعني إخفاء الحق وكتمانه؛ إنه البيان الكامل في حكمةٍ ولطف، ولينٍ ويسر: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:88].
والصبر وصية الله للرسل والأنبياء والصلحاء والأولياء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153]
الصبر رفيق الدرب حين تظلم الدنيا، والصبر منحةٌ من الله للثبات على الحق، وحين يغتر الدهماء بالباطل إذا تكاثر واستشرفت له النفوس وتطاولت له الأعناق: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90]، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]
الصبر هو الواحة الخضراء لمن فقد الظل في الصحراء، وفي خطاب الله لرسوله الكريم: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام:34]
وبعد أن ذكر الله قصة نوحٍ -عليه السلام- والذي دعا قومه عشرة قرون حتى نصره الله قال الله -تعالى- لنبيه: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:49].
وبعد المعارك الطاحنة في سورة (آل عمران) ونزال المشركين وجدال الكتابيين وذكر أحوال المنافقين؛ ختم الله السورة بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]
وإذا علم الله صدق النوايا، وتميز الصابرون الصادقون، وانقطعت العلائق بأسباب الأرض، وتعلقت بالله القلوب - تحققت سنة الله: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا) [يوسف:110]
وأخيراً: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الزخرف:43]
( الفتن والابتلاءات وموقف المسلم منها )
عباد الله: ولما كان دينُ الله عزيزاً وشريعته غالية؛ فإنه لا يستحق حملَها إلا خيارٌ من خيار، فكانت الابتلاءاتُ والمحن تعرض للمؤمنين والأذيةُ والفتن تحيط بالمصدقين حتى لا يبقى على الدين إلا من يستحقه وليعلم الله الذين صدقوا.
الفتنة والابتلاء سنة جارية في الأولين والآخرين.
بسم الله الرحمن الرحيم: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1- 3].
إن الإيمان ليس مجرد كلمة تقال، بل هو حقيقة ذات تكاليفَ وأمانةٌ ذات أعباء وجهادٌ يحتاج إلى صبر،
والفتن والابتلاءات أنواعٌ وصور: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء:35 ]؛ فمنها السراء والضراء، ومنها الفتنة بانتشار المنكرات وغلبة الأهواء، وكثرة الدعاة على أبواب جهنم وكثرة الاختلاف، وخلط الحق والباطل.
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ثم لا يملك النصر لنفسه ولا المنعة.
ومن الفتنة أن يعيش المؤمن بدينه كالغريب بين الناس؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بَدَأَ الإسْلامُ غرِيبًا، وسَيَعُودُ غرِيباً كَمَا بَدَأ؛ فَطُوْبَى لِلْغُربَاء" رواه مسلم.
أيها المسلمون: الحديث عن الثبات وقت المحن والصبر في البلاء والفتن حديثٌ موجه إلى عموم المؤمنين من الأخيار والصالحين والدعاة وطلبة العلم والمحتسبين حين يتسرب الوهن والإحباط إلى بعض المسلمين، ويرون تسلط الأعداء والمرجفين، ومن يُشعل فتيل الخلافات ويثير النزاعات ويطرحون الأفكار الغريبة المشتتة.
أيها المسلمون: أيها الأخيار والصالحون: لقد قص الله علينا في كتابه، وروى لنا رسوله في سنته من سِيَر الأمم السابقة وأتباع الديانات السالفة، وقوة اطمئنان القلب لما جاء عن المرسلين -على كثرة الصوارف وشدة بأس المخالف- ما يبين معه أن إيمانهم لو وُزِنَ بالجبال لرجح بها؛ فهذا يُنشَرُ بالِمنشار من رأسه إلى قدميه ما يتزحزح عن دينه، وأولئك تُخدَّد لهم الأخاديدُ فتُسجَر بالنار ثم يقذفون فيها.
كما ضرب لنا نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وصحابتُه الكرام أروعَ الأمثلة في الثبات على الدين؛ مما أوصل لنا الدين كاملا والعقيدة نقية صافية حتى اعتنقها ملايين البشر وعمَّتِ السهلَ والوعر.
وفي كل زمان فتنٌ وابتلاءات؛ ومع ذلك يبقى الدينُ ويبقى الخير، وفي زماننا هذا -ويالزماننا!!- زمنِ زلزلة المفاهيم وخلخلةِ الثوابت وتقلبِ الآراء وانتكاس المبادئ.. زمنِ إعادة النظر في كل شيء دينيٍّ وإِرْثٍ عقديٍّ .. زمنِ السخرية من الدين وأهله وانتقاص الشريعة وحَملتِها، حتى كثر المتساقطون على الطريق واستحكم اليأس في بعض النفوس.
فصار الباعثُ على إعادة النظر في بعض أحكام الشريعة المستقرة ليس دليلا راجحا أو مأخذاً واضحاً، إنما الباعث ضغط الواقع أو اتباع الهوى ومسايرةُ الناس.
أيها المسلمون.. أيها المؤمنون.. أيها الأخيار والصالحون: المؤمن لا يهن ولا يحبط ولا يستكين ولا ييأس ولا يستوحش من الطريق لقلة السالكين، ولا ينظر إلى الهالك كيف هلك، بل ينظر إلى الناجي كيف نجا.
إننا اليوم أحوجُ ما نكون إلى الفأل والعمل والبشارة وتحفيز الهمم ومعرفة السنن؛ سنن الله في أوليائه وأعدائه، سنن الإدالة والنصر والمد والجزر؛ حتى يطمئن مؤمن ولا يغتر فاجر، ولئلا يكون كثرة الباطل مدعاةً لليأس والقنوط، وقد قال الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103]، وقال -سبحانه-: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) [الأنعام:116]
لا يجوز أن يضعف صاحب الحق أو يهين؛ فإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا، وامتداداً وانحسارا.. ضعفٌ وقوة، وفرقة واجتماع وغربة، وظهور وابتلاء، وتمكين ينطق بذلك وحي السماء، ويؤيده تاريخُ البشر.
وفي الخبر المتفق عليه قال هرقل لأبي سفيان: "هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف الحرب بينكم؟ قال: سجال، يُدال علينا مرةً ونُدَالُ عليهِ أخرى، قال: كذلك الرسلُ تُبتَلَى ثم تكونُ لهمُ العاقِبة".
حكمةٌ بالغة وسنةٌ ماضية
أخرج الترمذي بإسناد صحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يأتي على النَّاسِ زمَانٌ الصَّابرُ فيهِم عَلى دِينِه كالقَابِضِ على الجَمْر"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: "ويلٌ للعرَبِ منْ شرٍّ قد اقترَب؛ فِتنًا كقِطعِ الليل المظْلمِ يُصبحُ الرَّجلُ مؤمِنًا ويمسي كافرا؛ يبيعُ قومٌ دينَهُم بعَرَضٍ منَ الدُّنيا قليل، المتمسِكُ يومئذٍ بدينِهِ كالقَابِضِ على الجمر" أو قال: "على الشَّوك" حديث صحيح رواه الإمام أحمد.
إنها ابتلاءاتٌ وإدالات، والشدائد كاشفات لأصحاب النفوس الكبيرة والذين لا تزيدهم إلا صبراً ويقيناً وحزماً وعزماً.
إخوة الإسلام.. إخوة الإيمان: إننا بحاجة إلى تجديد الإيمان في قلوبنا وفي أعمالنا؛ سيَّما في وقت الشدائد والفتن: معاني الإيمان واليقين وحسن الظن بالله والتسليم، والصبر، وصدق الولاء، والتضرع لله والدعاء، وحسن المجاهدة وتهذيب النفوس وإصلاحها، والعبودية لله والاستعانة به وحسن التوكل عليه، والعمل بجدٍّ وفأل، وتوحيد الصف وجمع الكلمة، ومدافعة الباطل بلا يأس.
وكل هذه المعاني حققها المؤمنون السابقون في مُثُلٍ تُقوِّي العزائم وتشحذ الهمم، واقرأوا ما قص الله في القرآن من سيرة الرسل الكرام حتى قال الله -تعالى- في الختام: (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].
واقرأ في سيرة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وكيف كان الفأل والعمل في أحلك الظروف والمواقف: فيبشر بظهور الدين وهو طريدٌ بين مكة والطائف -كما أخرجه ابن سعد في (الطبقات)- ويعِد سُراقةَ بسواريْ كِسرى وهو مُطاردٌ في الهجرة، وتحاصر المدينة بعشرة آلاف مقاتل وتنقض اليهود عهدها؛ فيبشر ببشارته الثلاث عند ضربه الصخرة التي عرضت -كما في صحيح البخاري-.
أيها المؤمنون: وللدعاء أثرٌ عظيم في الثبات والنصر، والاستعاذة من الفتن واردة في الصحيحين، وفي الحديث المتفق عليه: "وأعُوذُ بِكَ مِنْ فتنةِ المحيَا والممَات".
وما انتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدر حتى سقط رداؤه من على منكبه دعاءً وتضرعا.
والعلم النافع يميِّز به المسلمُ بين الحق والباطل حين تلتبس الأهواء، والسير في ركاب جماعة المسلمين أمنٌ من الفتنة، كما في حديث حذيفة المُخرَّج في الصحيحين.
ومن سيماء المؤمنين: التثبتُ من الأخبار خاصة فيما يتعلق بالدين وحملته؛ أما التَّخوُّض في الباطل واعتماد أخبار الفساق والاتكاء على الحكايات والقصص الغريبة - فذلك شأن الجهلة والغوغاء.
والعبادة وقت الفتن هي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته حيث قال: "بادِرُوا بالأعمالِ الصالحةِ فتناً كقِطعِ الليلِ المظْلِم يصبحُ الرجلُ مؤمِناً ويُمسِي كافِرا" رواه مسلم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "العبادةُ في الهَرْج كهجرة ٍإليَّ" رواه مسلم.
والمسلم يلزم نفسه بمجالس الصلاح ويهرب من مواطن الريَب والفساد: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف:28].
والصدع بالحق لا يعني الغلظة المنفرة ولا الخشونة والتعالي، كما أن الدعوة بالحسنى لا تعني إخفاء الحق وكتمانه؛ إنه البيان الكامل في حكمةٍ ولطف، ولينٍ ويسر: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:88].
والصبر وصية الله للرسل والأنبياء والصلحاء والأولياء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153]
الصبر رفيق الدرب حين تظلم الدنيا، والصبر منحةٌ من الله للثبات على الحق، وحين يغتر الدهماء بالباطل إذا تكاثر واستشرفت له النفوس وتطاولت له الأعناق: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90]، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]
الصبر هو الواحة الخضراء لمن فقد الظل في الصحراء، وفي خطاب الله لرسوله الكريم: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام:34]
وبعد أن ذكر الله قصة نوحٍ -عليه السلام- والذي دعا قومه عشرة قرون حتى نصره الله قال الله -تعالى- لنبيه: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:49].
وبعد المعارك الطاحنة في سورة (آل عمران) ونزال المشركين وجدال الكتابيين وذكر أحوال المنافقين؛ ختم الله السورة بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]
وإذا علم الله صدق النوايا، وتميز الصابرون الصادقون، وانقطعت العلائق بأسباب الأرض، وتعلقت بالله القلوب - تحققت سنة الله: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا) [يوسف:110]
وأخيراً: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الزخرف:43]
صالح العويد
( واقع الأمة )
( الفرار إلى الله )
معاشر المسلمين إن الناظر اليوم بعين البصر و البصيرة في واقع الأمة و ما حل بها من مصائب و ويلات، ليأخذ به الأسى و التوجع مأخذا بعيدا، حتى إن اليأس ليوشك أن يحيط به لولا عظيم الأمل في وعد الله - عز وجل - الذي قال: " فان مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا"( سورة الشرح، الآية 5، 6). ومما يذهب اليأس ويعزي النفوس معرفة المسلم بسنن الله - عز وجل - في عباده و إدارك أن ما أصابنا من المصائب إنما هو من عند أنفسنا و بسبب ذنوبنا، وبما طرأ على حياتنا من بعد عن الله - عز وجل - و نسيان للآخرة و انغماس في الملذات و إقبال على الدنيا.
و ما دام الداء قد عرف و المرض قد شخص فلا يبقى أمام من ينشد النجاة لنفسه و لأمته إلا أن يقبل على العلاج و ذلك بالفرار إلى الله - عز وجل - والإنابة إليه و الاعتصام به سبحانه وتعالى كما أمر في كتابه العزيز بقوله: " ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين " ( سورة الذاريات، الآية 50 ).
و هذا الفرار يعني ترك أسباب سخطه إلى أسباب مرضاته، والفرار من عقوبته إلى معافاته، ومنه إليه، كما جاء ذلك في دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم) حين قال : " اللهم إني أعوذ بك برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك " أخرجه الترمذي.
على المسلم أن يفر إلى الله في زمن الانفتاح الشديد على الدنيا و تغلب الجانب المادي على حياة الناس أكثر، و ما ترتب عن ذلك من تكالب على حطامها دون تمييز بين حلال و حرام وطيب و خبيث، فحصل التنافس الشديد على حطامها و صار الحب والبغض من أجلها ، بل والقتال من أجلها والعياذ بالله.
على المسلم أن يفر إلى الله في زمن حصلت فيه الغفلة الشديدة عن الآخرة و الغاية التي من أجلها خلقنا، و تحولت هذه الدنيا الفانية من كونها خادمة إلى مخدومة ، قد ذلت كل عزيز و غدرت بكل طامع و أسكرت أقواما تعلقت قلوبهم بها ففقدوا وعيهم، و ضلوا طريقهم، فمن أجلها يظلمون ويبغون على بعضهم البعض و يعيشون كسباع الغابة يفترس القوي الضعيف، ويلتهم الكبير الصغير من أجل مال أو امرأة أو شهرة أو منصب أو غير ذلك من حب الجاه و المال و شهوة السيطرة و الاستعلاء، و قد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يحذر أصحابه فيقول: " و الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها و تهلككم كما أهلكتهم ". أخرجه البخاري ومسلم و الترمذي وابن ماجه في الفتن.
على المسلم أن يفر إلى الله في زمن ظهرت فيه الفتن المتلاطمة التي يوقظ بعضها بعضا، و تساقط فيها خلق كثير ما بين هالك فيها بقلبه أو بلسانه أو بيده...
معاشر المسلمين إن الفرار إلى الله يقتضي منا أن نقبل على كتاب الله - عز وجل – بالتلاوة والتدبر و النظر في معانيه و العمل بأحكامه، نفر إلى الله بالدعاء و قيام الليل و صيام التطوع و إخراج الصدقات، نفر إلى الله بفعل ما أمرنا به و اجتناب نواهيه... نفر إلى الله فرار السعداء لا فرار الأشقياء الذين يفرون منه لا إليه، فاللجوء إليه - سبحانه وتعالى – و الذهاب إليه و الهجرة إليه والمسارعة إلى مغفرته و جناته كلها من معاني الفرار إليه سبحانه، وذلك بتوحيده و السعي إلى مرضاته و جنته هربا من سخطه و عقوبته، و في ذلك يقول الإمام ابن قيم الجوزية :" وله في كل وقت هجرتان : هجرة إلى الله بالطلب و المحبة و العبودية والتوكل و التسليم والتفويض والخوف و الرجاء و الإقبال عليه وصدق اللجوء و الافتقار إليه، وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه ".
معاشر المسلمين إن الذي يفر إلى الله بصدق، فان الله يكشف عنه مصائبه و يتغمده برحمته الواسعة، و يجعل له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا:
إن مسنا الضر أو ضاقت بنا الحيل فلن يخيب لنا في ربنا أمل
و إن أناخت بنا البلى فان لنا ربا يحولها عنا فتنتقل
الله في كل خطب حسبنا، وكفى إليه نرفع شكوانا ونبتهل
فافزع إلى الله و اقرع باب رحمته فهو الرجاء لمن أعيت به السبل...
تعديل التعليق