محمد رسول الله

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الحق المتين الذي هدانا إلى خير دين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أكرمنا ببعثة رسوله الأمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكرم الداعين إلى النور المبين -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله الطيبين وصحابته المباركين؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:

 

أيها المسلمون: لقد كانت البشرية تتخبط في ظلمات الجاهلية الجهلاء؛ فكانت تحيا حياة تعيسة؛ حياة قائمة على العبودية لغير الله؛ حياة يسودها الطبقية والبطش والظلم والقهر، تتفشى فيها المنكرات وسيء الأخلاق؛ فالقوي يتسلط على الضعيف والغني يتعالى بمال الله على الفقير؛ فلا رحمة تدفع ولا مروءة تمنع؛ حتى بُعِثَ أعظم الخلق قدرا وأحسنهم خلقا وأعدلهم حكما وأصدقهم حديثا؛ وكانت بعثته رحمة للعالمين؛ حيث حاز أتباعه ببعثته أسمى المراتب ونالوا بالتأسي به أجمل المناقب وعاشوا باتباعه حياة السعد بعد المتاعب؛ فكان أرحم بالناس من أنفسهم؛ قال -سبحانه-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107] وقال -تعالى-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128]؛ وكم في القرآن من ثناء على خير البرية وأزكى البشرية -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك قوله -سبحانه-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4].

فليس بعد ثناء القرآن ثناء ولا بعد مدح الله له مدح.

 

وما أجمل قول الشاعر:

 مَدَحَتْك آياتُ الكتاب فما عسى *** يُثني على عُلياك نَظْمُ مديحي

وإذا كتابُ الله أثنى مُفْصِحاً ***  كان القُصور قُصَارَ كلِ مديحِ

 

وقال آخر:

أرى كلَّ مدحٍ في النبيِ مقصِّراً *** وإنْ بالغَ المُثْني عليه وأَكْثَرا

إذا اللهُ أثنى بالذي هو أهلُـه *** عليه، فما مقدارُ ما تَمْدَحُ الورى

 

أيها المؤمنون: الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تكفيه الكتب ولا توفيه المقالات والخطب، وحسبنا في هذا المقام أن نتعرف على صفاته الخَلقِية ونتأمل في جانب يسير من بحر صفاته الخُلقية -عليه الصلاة والسلام-؛ فأما صفاته الخَلقِية؛ فكما جاء عن  علي -رضي الله عنه وأرضاه-؛ حيث قال: "ﻟﻢ ﺃﺭ ﻗﺒﻠﻪ ﻭﻻ ﺑﻌﺪﻩ ﻣﺜﻠﻪ -صلى الله عليه وسلم-؛ ﻛﺎﻥ ﻭﺟﻬﻪ ﻣﺜﻞ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺍﻟﻘﻤﺮ وﻛﺎﻥ ﻣﺴﺘﺪﻳﺮﺍً"(ﺭﻭﺍﻩ ﻣﺴﻠﻢ)، وكان -صلى الله عليه وسلم-؛ "ﺃﺷﻜﻞ ﺍﻟﻌﻴﻨﻴﻦ ﻓﻲ ﺑﻴﺎﺽ ﻋﻴﻨﻴﻪ ﺣﻤﺮﺓ"(ﺭﻭﺍﻩ ﻣﺴﻠﻢ)، وﻛﺎﻥ -صلى الله عليه وسلم-؛ "ﺷﺪﻳﺪ ﺳﻮﺍﺩ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﺃﻛﺤﻞ ﺍﻟﻌﻴﻨﻴﻦ ﺇﺫﺍ ﻭﺿﻊ ﺭﺩﺍﺀﻩ  ﻋﻦ  ﻣﻨﻜﺒﻴﻪ ﻓﻜﺄﻧﻪ ﺳﺒﻴﻜﺔ ﻓﻀﺔ"(ﺻﺤﺤﻪ ﺍﻷﻟﺒﺎﻧﻲ).

 

عباد الله: تلك هي صفات رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- الخَلقِية؛ أما صفاته الخُلُقية؛ فهي أكثر من أن تحصر؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعرف بريح الطيب، وﻻ ﻳﻀﺤﻚ ﺇﻻ ﺗﺒﺴﻤﺎً؛ يفهم حديثه كل من سمعه، ويمشي مشيا يعرف فيه أنه ليس بعاجز ولا كسلان؛ وإذا مشى لا يلتفت، وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه حتى كان قرآنا يمشي على الأرض؛ كما قالت عائشة -رضي الله عنها- عن أخلاقه؛ فقالت: "كان خلقه القرآن"(متفق عليه).

 وﻛﺎﻥ -صلى الله عليه وسلم- ﺃﺣﺴﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺧﻠﻘﺎً؛ يزور أصحابه ويسلم على صبيانهم ويمسح على رؤوسهم، ويجلس على الأرض ويأكل عليها؛ يعين الضعيف ويعطي البائس الفقير، وصدق الله حين وصف أخلاقه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4].

 

فما عرفت الدنيا أحدا يحوي أخلاقه ولا رأت من يتمثل سجاياه وأنى ترى الدنيا رجلا كـمحمد-صلى الله عليه وسلم-:

أعميت عيني عن الدنيا وزينتها ***  فأنت والروح شيء غير مفترق

إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق ***  من أول الليل حتى مطلع الفلق

وما تطابقت الأجفان عن سنةٍ ***  إلا وإنك بين الجفن والحدق

 

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، أما بعد:

 

عباد الله: ولعظيم أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد له أعداؤه وشانؤوه؛ فهذا المسور بن مخرمة لما سأله ابن اخته أبو جهل عن حقيقة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ قال: "يا خال، هل كنتم تتهمون محمدًا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

فقال: يا ابن أختي، والله لقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- فينا وهو شاب يدعى الأمين؛ فما جربنا عليه كذبًا قط. قال: يا خال؛ فما لكم لا تتبعونه؟

قال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب كنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي؛ فمتى ندرك مثل هذه؟!

 

وقال: الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد؛ أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا.

فقال أبو جهل: ويحك والله إنَّ محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة؛ فماذا يكون لسائر قريش؟ 

 

أيها المسلمون: هذا هو محمد -صلوات ربي وسلامه عليه- الذي لم تر الدنيا له مثيلا في عظمته وأخلاقه ومكارمه؛ فتمثلوا أخلاقه واسلكوا سبيله وامضوا على طريقه تهتدوا إلى نور الحق وتسعدوا بمرضاة ربكم في الدنيا والآخرة؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].

فهو الأسوة للبشرية كافة في كل جوانب الحياة؛ قدوة للراعي مع رعيته، وللقائد مع أتباعه، ولرب الأسرة في أهله، وللمعلم مع تلاميذه، وما أصدق ما قاله الشاعر في خير البشرية وأزكى البرية:

هـذا الـذي للهدى والديـن أرشدنـــا *** لملـة شرعهـا يسمو علـى المـلـل

هذا الذي انشـق إكرامـا لـه قمــــر *** لما أشـار إليـه فـي محفـل حفـل

هذا الذي جـاء بئـرا وهـي مالحـــة *** ومـجَّ فيهـا فعـاد المـاء كالعسـل

هذا الذي فـار مـاء مـن أصابعــــه *** مثل الزلال حكى الأنهار في السبـل

هذا الذي في مقام العـرض شافعنـا *** إذا استغثنا بـه مـن شـدة الوجـل

هذا الذي روضـة مـا بيـن منبـره *** وقبره من رياض الخلـد لـم تـزل

يا سيد الخلق يـا مـن حـاز مرتبـة *** عليا و قد جلّ عن شبه و عـن مثـل

يا درة الأنبياء يـا روضـة العلماء *** يا ملجـأ الغرباء يـا سيـد الرسـل

صلى عليـك إلـه العـرش خالقنـا *** في الليل و الصبح و الإبكار والأُصُل

 

اللهم ارزقنا التأسي بنبيك الكريم والاهتداء بسبيله القويم.

  

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.

 

اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والدين.

 

وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

المرفقات

1610450472_محمد رسول الله.doc

المشاهدات 608 | التعليقات 0