محمد الفاتح بين العلم والعلماء د. عمر بن صالح بن سليمان العمري

محمد الفاتح بين العلم والعلماء
د. عمر بن صالح بن سليمان العمري

الحمد لله وحدَه، القائل في مُحْكَم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمَّد بن عبدالله القائل: ((إنَّ من إجلال الله - تعالى - إكرامَ ذِي الشَّيْبة المسلِم، وحاملِ القرآن غيرِ الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرامَ ذي السلطان المقسِط ))[1]، وعلى آله وصحبه الطيِّبين الكرام، وعلى زوجاته أمَّهات المؤمنين، وعنَّا معهم إلى يوم الدين.

وبعد:
فما يلي دراسة تاريخية بعنوان: "محمد الفاتح بين العلم والعلماء"، ومن خلال عنوان الدِّراسة تتضَّح الأهمية العلمية لهذه الدِّراسة التاريخية، سواء من حيث الشخصية التي تتحدَّث عنها، أو مِن حيث موضوعُ الدراسة.

أما عن أهميَّة الدراسة، فتأتي من كونها تتحدَّث عن شخصية إسلامية تاريخية مهمَّة، هي شخصية القائد العثماني المسلِم فاتح القُسْطنطينية محمَّد الفاتح، الذي نال شرفَ المديح والثناء النبويِّ الكريم والمبكِّر، وذلك حين بشَّر الرسولُ - عليه أفضل الصلاة والسلام - حين كان هو وصَحْبُه الكرام يُعايشون المِحَن من المشركين وغيرهم في أثناء غزوة الخندق، وقبل أكثر من ثمانية قرون من ذلك - بفتح المسلمين للقُسْطنطينيَّة، وامتدح فاتحَها، حين قال - عليه أفضل الصلاة والسلام -: ((لُتفتحنَّ القسطنطينية، فلنِعمَ الأمير أميرُها، ولنِعمَ الجيش ذلك الجيش))؛ رواه أحمد في مسنده [2].

ومن خلال هذا الحديث النبويِّ الشريف المشتهر، وغيرِه من الأحاديث النبويَّة الأخرى، التي كانتْ تبشِّر بالفتح، وتمتدح الفاتحين، والتي تفوق العِشرين حديثًا - كما أوردها الدكتور نظام يعقوبي في دراسة علمية عن ذلك[3] - تتضح أهميةُ الفَتْح، ومنها أهميةُ الدِّراسات التاريخية المتعلِّقة بالفَتْح، وبحياة الفاتح، ودِراسة بعض جوانب شخصيته في مختلف مراحل حياته.

أمَّا عن أهمية الدراسة من حيث الموضوعُ الذي تتناوله، فتأتي مِن كونها تهتمُّ بإلْقاء الضَّوْء على جانب مهمٍّ من حياة الفاتح وشخصيته، وهو جانب رعايته للعِلْم، وعلاقاته بالعلماء، وهذا الجانب على الرغم مِن أهميته البالغة إلاَّ أنَّه لم يَنَلْ - في نظري - العنايةَ الكافية والمستحقة من المؤرِّخين، وذلك مقارنةً بما كُتِب من دراسات تاريخية عديدة عن بعض الجوانب الأخرى المهمَّة عن هذه الشخصية الإسلامية الفَذَّة، وبخاصَّة ما كُتِب عن الجانبين العسكريِّ والسياسيِّ منها، حيث اشتهر بهما الفاتح - رحمه الله.

ولعلَّ مما يَزيد هذه الدراسةَ أهميةً: أنها ستوضِّح - بإذن الله - من خلال محاورها المتعدِّدة أهميةَ ارتباط القَادة بالعلماء، وأهميةَ مؤازرة العلماء للقَادة، فالرِّباط بين الجميع واضحٌ، وهو رِباط تشترك فيه المصلحة، ويتوحَّد فيه الهدف، وتَطِيب فيه الثمرة؛ حيث يسعى الجميع - قادة وعلماء - لخِدمة الإسلام والمسلمين، والدعوة إليه، ونُصْرة قضاياه في السِّلْم، وفي الحَرْب.

وستحاول الدِّراسة أن تسيرَ في مباحثها وَفقَ التسلسل التاريخي في عَلاقة الفاتح بالعلم والعلماء عبرَ مراحل حياته، التي تتمثَّل في ثلاث مراحل رئيسة:
المرحلة الأولى: علاقة الفاتح بالعِلم والعلماء منذ نشأته إلى فتْح القسطنطينية.
والمرحلة الثانية: علاقته بالعلم والعلماء عندَ فتْح القسطنطينية؛ الحَدَث الأبرز والأهم في حياته.
والمرحلة الثالثة: علاقته بالعلم والعلماء في أعْقاب الفتْح إلى وفاته - رحمه الله.

ولذلك فستكون أبرزُ المحاور التي ستتناولها الدِّراسة هي الآتي:
أولاً: محور تاريخي يُوضِّح حياةَ القائد محمد الفاتح قبل الفتْح، ومدى ارتباطه بالعلم والعلماء في هذه المرحلة، والهدفُ من ذلك بيانُ تلك المرحلة من مراحل حياته، وأثر العلم، والرِّباط بينه وبين العلماء في تكوين شخصيته، ومِن ثَمَّ أثر ذلك في بروز هذه الشخصية في الساحة العالمية.
ثانيًا: محور تاريخي يوضِّح أهميةَ الفَتْح، وجهود الفاتح فيه، ودَوْر العلماء في مسيرة الفتح، وعلاقاتهم بالفاتح في تلك المرحلة المهمَّة من التاريخ الإسلامي العام، وتاريخ الفاتح الخاص، وانعكاسات تلك العَلاقات والروابط بيْنه وبيْن العلماء في مسارِ الأحداث عندَ الفتْح.
ثالثًا: محور تاريخي يُوضِّح حياةَ الفاتح، وعلاقاته بالعلم والعلماء في أعقاب الفتْح إلى نهاية عهده - رحمه الله - ويوضِّح مدى الارتباط بيْنه وبيْن العلم والعلماء في تلك المرحلة، وأثر تلك العلاقة في سَيْر الأحداث العامة والخاصَّة في تاريخ الفاتح.

فالدِّراسة بشكل مُجْمَل محاولةٌ تاريخية لإبراز العلاقة والارتباط بين الفاتح بالعِلم والعلماء منذُ مولده إلى وفاته، وبيان أَثَر تلك الرابطة في مختلف مراحل حياته، وفي تكوين شخصيته التي برزتْ في عدد من الميادين والجوانب، من خلال الشَّرَف الذي ناله بفتح القسطنطينية؛ ليتحققَ بذلك الإعجازُ النبويُّ الكريم، وليصدق عليه المديحُ الذي ناله فاتحُ القسطنطينية من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم .

المرحلة الأولى
علاقة الفاتح بالعلم والعلماء قبل الفتح



مولد الفاتح ونشأته:
وُلِد السلطان محمَّدٌ الفاتح ابن السلطان مراد الثاني في أدرنه في رجب من عام 833هـ/ أبريل 1429م [4]، وهو سابعُ السلاطين العثمانيِّين، ونجل السلطان مراد الثاني؛ أحد أعظم السلاطين العثمانيِّين، وحفيد السلطان محمَّد جلبي الأول؛ مجدِّد بُنيان الدولة العثمانية.


ووالدتُه على أرْجح الروايات التاريخية: هي السلطانةُ المسلِمة خديجةُ عليمة، وهي كريمة إسفنديار بك، من إحدى الأسر الإسفنديارية المسلِمة [5].

وفي أدرنه نشأ الفاتحُ تحت العناية المباشِرة مِن والده السلطان مراد الثاني في بيئة تمتاز بالخُلُق، وبين جيل يمتاز بصفاء السريرة، ولَقِي الفاتحُ من والده عنايةً تامَّة، واهتمامًا بالغًا بتربيته وتعليمه في الناحيتَيْن - البدنية والعقلية.

فأمَّا في مجال التربية الجُسمانية:
فقد مرَّنه والده على خِصال النشءِ المسلِم من ركوب الخَيْل، ورمْي القوس، والضرْب بالسَّيْف، وكان يحرص على أن يصحبَه في معاركه بين حين وآخَر؛ ليكتسبَ الخبرة، ويشتدَّ عُودُه على فنون الحرْب والقِتال[6].

وأما عن التعليم:
فتُشير المصادر التاريخية أنَّ الفاتح في بداية عُمره قدِ استعْصى على المربِّين، وعن العلم والتعليم، وحينئذٍ سأل والدُه السلطان مراد عن رجل ذي جَلالة ومهابة وشدَّة؛ ليكونَ معلمًا ومربِّيًا للفاتح، فدُلَّ على عالِم ومربٍّ فاضل، هو الشيخ أحمد بن إسماعيل الكوراني[7].

واستطاع الشيخ الكوراني من أوَّل جلسة له مع تلميذه الجديد أن يفرضَ نفسَه وأسلوبه، واحترامَه على الفاتح، وأن يُغيِّر من طباعه بعد أن دخل عليه بقضيب مِن حديد، وبادَرَه "بضربة قويَّة ارتاع لها الفتى الشموس، ثم استخذى لها، وأدرك أنَّه أمامَ معلِّم جديد يختلف عمَّن سبقه كلَّ الاختلاف... وأقبل الفتى على التعليم بنَهَم، وجِدٍّ ونشاط، فما مضى غيرُ قليل من الوقت حتى ختَمَ القرآن، واستبشر والدُه بذلك واغتبط، وغمر المولى الكورانيَّ بالعطايا، والأموال الوفيرة"[8].

ومنذ ذلك الحين انطلق الفاتحُ في مسار وطيد بالعلم والعلماء، بدأ بتلقِّيه مختلفَ العلوم تحت إشراف أساتذة على مستوى رفيع من العِلم والخُلُق.

ويقول سالم الرشيدي عن ذلك:
"وما سمع السلطان (مراد) بعدَ ذلك برجل قد بَرَع في عِلم من العلوم، أو مَهَر في فنٍّ من الفنون، أو اشتهر بخَصْلة من خِصال الفضيلة والخير، إلاَّ بعث به إلى ابنِه محمَّد؛ لتعليمه وتأديبه"[9].

وكان الشيخ محمَّد بن حمزه الدِّمشقي[10] - المشهور بآق شمس الدين - من العِلماء الكِبار، الذين طلب الفاتحُ العِلمَ على أيديهم، وكان له أثرٌ كبير في مسار حياته، وفي إعداده إعدادًا معنويًّا لخَوْض غمار الحياة، وحُبِّ الجهاد، كما كان للشيخ آق شمس الدين أثرٌ في حثِّ الفاتح على المُضي قُدمًا في معركة فتْح القسطنطينية، ورفْع الرُّوح المعنويَّة للفاتح، وللجيش الإسلامي - كما سيأتي بيانه في موقعه من الدِّراسة.

وبالإضافة إلى هذين العَلَمين البارزين - الشيخ الكوراني، والشيخ آق شمس الدين - فقد تلقَّى الفاتح في هذه المرحلة مِن صباه إلى أن تولَّى الحكم العلومَ الإسلامية على يَدِ عدد من كِبار الأساتذة، والعلماء الآخرين، من أمثال الشيخ خواجه زاده، والشيخ ولي الدين زاده أحمد، والشيخ خطيب زاده، والشيخ محمد خسرو، والشيخ سراج الدين الحلبي، وغيرهم من كِبار المعلِّمين، والأساتذة البارزين يومئذ[11].

واطَّلع الفاتح من خلال بعض أولئك العلماء، وغيرهم من أهْل الخبرة والدراية كذلك على سائر العلوم والمعارف، التي كانتْ إدارة الدولة تتطلَّبها، وعَرف الفاتح خلال هذه المرحلة من حياته كيف يتحمَّل تبعاتِ الحُكم، وينهض بأعباء المُلك، بعد أن دَرَس سياسة الدولة الداخلية والخارجية، كما كان الفاتح يُعْنى بمطالعة كُتب التاريخ، ويدرس حياة كِبار الملوك والأبطال وفتوحاتهم، وعلاوةً على ذلك فقد كوَّن الفاتح مكتبةً خاصَّة له، تحتوي قدرًا جيِّدًا من الكتب القيِّمة التي جَمَعها وانتقاها باهتمام[12].

وزاد الفاتح على كل ذلك أن "جدَّ في طلب العلم، واكتـساب الفضائل، إلى سِنِّ الحادية والعشرين، فتفتَّحتْ مواهبه الفطرية، وتفتَّق ذهنُه، واتَّسع أفقُ تفكيره..."[13].

واستمرَّ الفاتح في طلب العلم، ومجالسة العلماء بمختلف الفُنون بعد تولِّيه السلطة "فما توسَّم في رجل نبوغًا، أو تضلعًا في علم من العلوم، إلاَّ اتخذه معلِّمًا لنفسه"[14].

فكان الفاتح حينما جلس على عرْش السلطنة، وكما صوَّره المؤرخ علي الآقسكي "عالِمًا وجامعًا في نفسه كلَّ ما يجب توافرُه فيمَن يتولَّى الحكم من الأوصاف والمزايا... وكان الفاتح عالِمًا كبيرًا في العلوم الشرعية، ومحبًّا لسائر العلوم والفنون..."[15].

وإلى جانب ذلك فقد تميَّز الفاتح بمعرفته بالعديد من اللغات، منها اللغة العربية والفارسية[16]، واليونانية والسلافية والصربية[17].

وبمعنى آخر: فحياةُ الفاتح يبدو أنَّها كانت بالفعل حياةَ علم وجهاد، فهي بإيجاز، وكما وصفها الآقسكي:
"كانت حياته بسيطة جدًّا، وكانتْ هوايته في قراءة الكُتب، والتدرُّب على فنِّ القتال، وإذا ما وجد متسعًا من الوقت خَرَج للصَّيْد والطراد، وكان عزوفًا عن الشهوات والملذَّات، ومتجنبًا عن المنكرات، وكانتْ مائدته تمتاز بالبساطة، والخلو من النُّدماء والمشروبات الرُّوحية بأنواعها، ويَكره الاختلاطَ المبتذل، ويعيش في عالَم نفسه، إما في جوٍّ علمي، أو في ميدان الجِهاد والقتال"[18].

ولذلك لم يكن غريبًا على الفاتح أن ينشغلَ بعد ذلك في استكمال مسيرة الفتوح، التي اشتهر من خلالها، أو في إكمال بناء الدولة، وبخاصَّة النواحي الحضارية منها.

وكما قيل في الأمثال: "والحق ما شَهِدتْ به الأعداء"، ولذلك فلعلَّ من المناسب أن نختمَ الحديث عن هذه المرحلة من حياة الفاتح بإيراد ما وُصِف به السلطان الفاتح من صفات وحديث عن شخصيته من قِبَل أحد الزُّوَّار البنادقة قُبَيل فتْح القسطنطينة؛ ليلخصَ لنا شيئًا من سِمات هذه الشخصية التي كانتْ بالفعل مؤهَّلة ومعدَّة لنَيْل شرف الفتح العظيم، حيث يقول لنغستو عن الفاتح:
"شابٌّ في السادسة والعشرين من العمر، حَسَن البشرة، عظيم الجُثَّة، وفوق المتوسِّط في الطول، يُثير مظهرُه الهيبةَ أكثر من الاحترام، قليل الضَّحِك، متتبِّع المعرفة، وموهوب بالأفكار الملكية الحُرَّة، مصمِّم في أهدافه، جريء في جميع الأمور، وحريص على الشُّهْرة كالإسكندر المقدوني، يسمع كلَّ يوم تواريخ الرومان وغيرهم... ومدونات البابوات والأباطرة، وملوك فرنسا، والأمراء اللومبارديين، إنه يتكلَّم ثلاثَ لغات: التركية، واليونانية، والسلافية، ويبحث بكلِّ دقَّة عن المعلومات عن أوضاع إيطاليا، وكرسي عاصمة البابا والإمبراطور، وكم الممالك هنا في أوربا، وعنده خريطةٌ لها، وتظـهر علـيه دُولُهـا وأقاليمها، لا يعجـب ولا يبتهج بأيِّ شيء كإعجابه وابتهاجه بدراسة أوضاع العالَم، وعلم الحرب، باحث، فَطِن للأمور، يلتهب رغبةً في الحُكم" [19].

ثم يختم لنغاستو حديثه بعبارات فيها شيءٌ من الخوْف والتحذير من خَطَر هذه الشخصية المسلِمة على أوربا النصرانية، حيث يقول عن الفاتح - رحمه الله:
"هذا هو الرجل الذي علينا - معشرَ المسيحيين - أن نواجِهَه، إنَّه شديدُ المراقبة والحذر، قادر على تحمُّل المشقَّة، والبرد والحرارة، والعطش والجوع... ويقول: إنَّ الزمن تغيَّر الآن، إذ يسير من الشَّرْق إلى الغرب، كما سار الغربيون (فيما سلف) إلى الشَّرْق، ويقول: إنَّ إمبراطورية العالَم يجب أن تكون واحدة، دين واحد، ودولة واحدة، ولتحقيق هذه الوحدة ليس هناك في العالَم مكانٌ ألْيَقُ من القسطنطينية"[20].


المرحلة الثانية
علاقة الفاتح بالعلم والعلماء عند فتح القسطنطينية، وأثر ذلك في الفتح


سبق الإشارة إلى أحاديثِ البشارة النبوية بفتح القسطنـطينية قبـل فتْحها بثمانية قرون، ومن ذلك ما ورد من بشارة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - للمسلمين الذين كانوا بصُحْبته في مِحْنة الخندق حين قال - عليه الصلاة والسلام - مبشِّرًا بفتح القسطنطينية: ((لتفتحنَّ القسطنطينية، فلنِعمَ الأميرُ أميرُها، ولنِعمَ الجيشُ ذلك الجيش))[21].

ومنذ ذلك الحين وقادةُ المسلمين على مرِّ العصور يُمنُّون أنفسهم بذلك الفتْح، ويحلم كلٌّ منهم بتحقيق تلك البشارة، ونيْل شَرَف المديح النبوي الكريم.

فما أن استقرَّ المسلمون في بلاد الشام التي أصبحتْ قاعدةً للدولة الإسلامية في العهد الأُموي، حتى بدأتْ طلائع الفتح توجِّه أنظارها صوبَ القسطنطينية، حيث انطلقتْ أكثر من محاولة إسلامية لفتْح القسطنطينية، أولها المحاولة التي جَرَت في زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - عام 44 هجرية، ولم يُقَدَّر لها النجاح [22].

وفي عام 98هـ كرَّر الأُمويُّون محاولاتهم، وذلك في زمن الخليفة سليمان بن عبدالملك، ولم يُكتب لها النجاح كذلك[23].

وفي العهد العباسي جرتْ أكثر من محاولة للفتْح، كان من أبرزها الحملة التي جَرَتْ في عهد هارون الرشيد عام 190 هـ، ولم يُكتب لها النجاح كغيرها في تحقيق الفتح المأمول[24].

وتواصلتْ حركة الفتوح الإسلامية بعد ذلك في مختلف الجبهات شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، وعلى الرغم من النجاحات الكبيرة والمتواصلة التي تحقَّقتْ في غالبية الجبهات الإسلامية، إلاَّ أنَّ القسطنطينية ظلَّتْ مستعصية عن الفتح الإسلامي، حيث لم يُكتب لها ذلك الشرف إلاَّ في العهد العثماني.

ففي هذا العهد، وعلى الرغم من تلك الإخفاقات المتعدِّدة للمحاولات السابقة لفتْح القسطنطينية، إلاَّ أنَّ العثمانيِّين وبعد استقرار أحوالهم السياسية، والإدارية، والعسكرية عادوا من جديد لطَّرْق أبواب القسطنطينية في محاولاتٍ إسلامية جديدة لفتْحها، وبشكل أكثر ضراوةً من ذي قبل[25].

وكانتِ المحاولة التي تمَّت على يد السلطان با يزيد (الصاعقة) في عام 796 هـ/ 1393م، من الحملات المهمَّة في العهْد العثماني؛ حيث تمكَّن العثمانيُّون من فرْض حصار على المدينة، كما لاحتْ بوادر النصر للمسلمين، وكادت القسطنطينية أن تسقطَ بأيدي المسلمين سِلمًا[26]، لولا الغزْو المغولي لأطراف الدولة العثمانية شرقًا، مما اضطرَّ السلطان بايزيد أن يفكَّ الحِصار؛ ليواجه تيمور لنك، ولتنتهي حياتُه وعهدُه باستشهاده في أسْره، وهو في أيدي المغول عام 1402م[27].

وبعد أن خمدتْ لفترة قصيرة عادتِ المحاولات العثمانية لفتح القسطنطينية للنشاط من جديد لَمَّا استردَّ العثمانيون أنفاسَهم، واستعادوا قوتهم، خاصَّة بعد أن أعادوا تنظيمَ صفوفهم في عهْد السلطان العثماني مراد الثاني (824 - 863هـ/ 1421 - 1451م) الذي قام بأكثرَ من محاولة جادَّة لفتح القسطنطينية، ولكن تلك المحاولات كانتْ كسابقاتها، لم يُكتَب لها النجاح في تحقيق الهدف، ونيْل الشرف[28].

وفي عهد السلطان العثماني محمَّد الفاتح جدَّد العثمانيُّون محاولاتهم، وبذلوا في سبيل ذلك ما يستطيعونه من عِدَّة وعتاد.

فنظرًا للموقع الإستراتيجي المهمّ، ولتحقيق البشارة النبوية الواردة في عدد من الأحاديث النبوية، حَرَص الفاتح على المُضيِّ في سبيل تحقيق غايته التي كان يَرْمي إليها، وتحقيق أمنيته التي كان ينشدها، وهي فتح القسطنطينية.

وفي ربيع الأول من عام 857هـ/ 1453م؛ أي: بعد حوالي ثلاث سنوات فقط من تولِّيه الحُكم، كان الفاتح يدقُّ أبواب القسطنطينية فاتحًا، ومنقذًا لها ولأهلها، وظلَّ الفاتح ماضيًا في محاولته إلى أن تمكَّن من تحقيق النصر، ودخول القسطنطينية في يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى من العام نفسه[29].

وعلى العموم فقد أفاضتِ المصادرُ والدِّراسات التاريخية كثيرًا في ذِكْر قضية الإعداد العسكري للقوَّات العثمانية الإسلامية، حيث يعزو كثيرٌ من المؤرِّخين عواملَ النصر في فتح القسطنطينية إلى القُدرة العسكرية، والقيادة الفائقة التي استطاع الفاتحُ من خلالها تجهيزَ وإعداد قوات المسلمين ماديًّا ومعنويًّا.

وكان الاستعداد العسكري من أبرز جوانبِ التجهيز المادي أو الحربي، التي قام بها الفاتح؛ استعدادًا لخوْض غمار المعركة المرتقبة، وممَّا يُسجَّل للفاتح في هذا الجانب، ما حقَّقه من نجاح كبير في تسليح الجيش العثماني بأحْدث المستجدَّات العسكرية في هذا الميدان، وبخاصَّة حين نجح في تكريم واستمالة عددٍ من المخترِعين، والعلماء المبدعين من المسلمين، ومن غيرهم من العلماء اليونان والمَجر والإيطاليين؛ لينضمُّوا بعلومهم ومخترعاتهم الجديدة في تزويد الجيش العثمانيِّ بهذه الميادين، والوسائل العسكرية الجديدة[30].

ومن نماذج ذلك:
أنه استقبل وأكْرَم المختَرِعَ المجري أوربان، الذي عَرَض كثيرًا من مخترعاته الحربية على ملوك أوربا، فلم يَجدِ التشجيع الكافي، فعَرَض بعضَ مخترعاته على السلطان محمد الفاتح، الذي اشتهر بتقدير العلم وإكرام العلماء، فبالغ الفاتح - رحمه الله - في حفاوته وإكرامه، وكان سخيًّا معه بالعطايا[31].

وكان نتيجة ذلك أن سخَّر أوربان فكرَه في خدمة الجيش العثماني، حيث قام – مثلاً - بتصميم عدد من المدافع الضَّخْمة التي كان لها أثرٌ في موازين القُوى الحربية بين الطرفين، وكان من أبرز هذه المدافع ما يُعرف بالمِدفع العملاق "الذي يزن 700 طن، ووزن قذيفته 12 ألف رطل، ويجرُّه مائة ثور، يساعدهم مائة رجل شديد، وقد قَطَع الطريق بين أدرنه والقسطنطينية في شهرين، وكان دَويُّ انطلاقه يُسمع على بُعْد 13 ميلاً، كما أنَّ قذيفته تنطلق بعيدًا لمسافة ميل واحد، ثم تغوص في الأرْض ستةَ أقدام"[32].

وكان مما اهتدى الفاتح إليه بالتشاور مع القادة والعلماء، بالإضافة إلى ذلك وضْع خطَّة حربية لإحكام الحِصار على القسطنطينية، وكان من مستلزمات ذلك بناءُ قلعة (بوغازكسن)؛ أي: قاطعة الطريق، أو ما يُعرف بقلعة (روملي حصار) على الجانب الأوربي من البسفور في الجِهة المقابلة لقلعة (أناضولي حصار) في الجانب الآسيوي، وبذلك سدَّ الفاتح - رحمه الله - خليجَ القسطنطينية على المحاصَـرين الذين - كما صوَّرهم المـؤرخ أحمد جـودت باشا في تاريخه القَيِّم -: "اختبطتْ عقولُهم، واضطربتْ أفكارُهم، وعقدوا للمذاكرة في هذا الأمْر مجلسًا كبيرًا في أيا صوفيا، فأخذوا يتزاحمون في أوقات الاجتماع على التقدُّم في الجلوس، ولم يراعوا حقوقَهم بحسب مراتبهم، فأدَّى بهم ذلك الاختلافُ إلى التضارُب بالكراسي على الرؤوس، وفتْح الآستانة، وإن كان ممكنًا قبلَ هذا الأوان؛ نظرًا لارتباك أحوال أهلها، فإنَّ عوارضَ الزمان قد حالتْ دونه، ثم لَمَّا صار الأمر إلى حضرة أبي الفتْح محمَّد خان المشار إليه، تمكَّن من حلِّ هذه العُقْدة، وفاز بما كان يأمله"[33].

وهناك من المؤرِّخين مَن يرى أن تفوُّق العثمانيِّين في القوة البحرية، ومضاعفة التجهيزات البحرية بإعداد السُّفن الحربية الكبيرة، والطريقة المبتكَرة التي قام بها الفاتحُ بتحريك تلك السُّفن على اليابسة؛ ليتجاوزَ بها العوائقَ، مثل (السلاسل القوية) التي وُضِعت في المضيق؛ لأنَّ تلك الأمورَ كانتْ من العوامل الرئيسة في ترجيح كِفَّة موازين القوى لصالح المسلمين، إلى غير ذلك مِن الرُّؤى التاريخيَّة الأخرى التي تسهب كثيرًا في الحديث عن قضية التجهيزات العسكرية[34].

ومن مثال ذلك:
ما ذكره المؤرِّخ أحمد جودت عن بعض الجهود الحربية، التي قام بها الفاتحُ في التجهيز للفتح، حيث قال: "وذلك أنَّه في سنة 857 هجرية جهَّز المشار إليه؛ (أي السلطان الفاتح) عساكرَ جرَّارة، ومدافعَ عظيمة، وزحف إليها من جهة أدرنة وفتحها، فاهتدت الدولة العَلِية بذلك إلى مركزها الحقيقي، وأصبح حضرةُ الفاتح بعد أن تمَّت له لوازم السلطنة بهذا الفتح جديرًا بلَقب ملك الملوك"[35].

ومع إيماننا التام بأهميَّة التجهيزات الحربية المادية في سَيْر المعركة، وفي ترجيح موازين القُوى بيْن الطرفَين المتحاربَيْن؛ إيمانًا بقول الله - تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، وكذلك إيمانًا بهذه الآية وغيرِها من الآيات القرآنية، والأحاديث النبويَّة الشريفة، التي تدعو إلى الإعداد المعنوي - يمكن القولُ كذلك بأنَّ قضية التجهيز المعنوي لا تَقلُّ بحال من الأحوال عن سابقتها في أيِّ معركة حربية، وأنَّ كلَّ جانب منهما مُكمِّلٌ للجانب الآخَر.

ومما يبدو من سِيرة الفاتح عندَ الفتح:
أنَّ السلطان محمدًا الفاتح كان على درجة عالية من الدراية بأهمية هذا الجانب؛ أي: الجانب المعنوي؛ ولذلك حَرَص على تجهيز القوَّات الإسلامية معنويًّا بخطٍّ متوازٍ للتجهيزات المتعدِّدة في الجوانب العسكرية.

ومما يُسجَّل للفاتح في هذا الجانب:
أنَّه كان مهتمًّا بتفعيل دور العلماء في الإعداد المعنوي للمعركة، ولذلك كان يَحرِص كلَّ الحِرْص على مرافقة العلماء للجيوش، ويقول المؤرِّخ الرشيدي عن ذلك: "كان العلماء يَصْحبون الفاتح في غزواته وحروبه، فكانوا في كل مَيْدان من ميادين القِتال في طليعة الجيش إلى جانبِ السلطان، يُثيرون الحماس في نفوس الجُنْد، ويَتْلون عليهم آيات الجهاد والنصر"[36].

ويقول الدكتور عبدالسلام فهمي في إحدى دراساته التاريخية عن اهتمام الفاتح بهذه الجوانب:
"لم تكنْ عناية السلطان محمَّد الفاتح بالعلم والثقافة بأقلَّ من عنايته بشؤون السياسة والحرْب، فقد كان شديدَ الاحترام للعلماء ورجالِ الدِّين، والمتعلِّمين بصفة عامة، وكان يدرك بفطنته أنَّ القوة المادية والحربية لا تكفل وحْدَها للشعب السعادةَ والمجد، والاحتفاظ بالمكاسب العسكرية والسياسية، وأنَّه لا بدَّ مِن دَعْمها بقوَّة العلم والإيمان والعدل، ولذلك كان يعمل دائبًا وبجهد حقيقي؛ ليجعلَ من دولته موطنًا للعِلم، ومجمعًا للعلماء والشعراء، ومركزًا للعدالة"[37].

ويقول الدكتور عبدالعزيز العُمريُّ في دراسته عن حركة الفتوح الإسلامية عبرَ العصور عن الإعداد المعنوي للمعركة بعد أن تحدَّث عن الإعداد العسكري لها:
"كما اعتنى الفاتح بإعدادهم إعدادًا معنويًّا قويًّا، وغَرَس رُوحَ الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الجيش الذي يفتح القسطنطينية، وعسى أن يكونوا هم الجيشَ المقصودَ بذلك، مما أعطاهم قُوَّةً معنوية، وشجاعةً منقطعةَ النظير، كما كان لانتشار العلماء دَوْرٌ كبير في تقوية عزائمهم، وربْطهم بالجهاد الحقيقي المؤصَّل وَفْق أوامر الله"[38].

وخلال الحِصار ومع اقتراب المعركة من الحَسْم سَرَتْ إشاعة قوية بين صفوف المسلمين مفادها أنَّ أوربا النصرانية قد تداعتْ لنُصْرة البيزنطيِّين، وكانتْ قد أَعدَّت قوَّاتٍ كثيفةً للوقوف بجانب البيزنطيِّين ضدَّ العثمانيِّين.

فبدأ أثَرُ ذلك معنويًّا في بعض صفوف المسلمين، وتخاذل بعضُهم الآخر حين نادَوْا بالانسحاب من المعركة، وكان ممَّن نادى بذلك الوزير خليل باشا، الذي تحجَّج بحُجج، فحواها الخوف من تلك القوَّات، واحترام مشاعر أوربا النصرانية، إلى غير ذلك من الحُجج التي كادت أن تفتَّ في عَضُد المسلمين.

وحينئذٍ عَقَد السلطان محمد اجتماعًا ضمَّ كِبار قادته ومستشاريه، بالإضافة إلى الشيوخ والعلماء لمناقشة الأمر، وتقرير الخُطوات المرحلية المقبلة.

وهنا يظهر دَوْرُ العلماء مرة أخرى، وفي الوقت المناسب مِن سَيْر المعركة، وذلك بدورهم في تقوية المعنويات، والشدِّ من أزْر القوَّات العثمانية الإسلامية، والوقوف إلى جانب الرأي المنادِي بالإصرار على المُضيِّ في الحِصار، وحَسْم المعركة بعدَ أن طال بهم الشوق، إما إلى النصر، أو الشهادة[39].

وكان الشيخ آق شمس الدين الدمشقي من العلماء البارزين، الذين صَحِبوا الفاتح في هذه المعركة، وكان له أثرٌ بارز في رَفْع الرُّوح المعنويَّة عند الفاتح، وعند القادة والجيش الإسلامي، وفي تثبيت عزْمِهم، ودَفْعهم للإصرار، والمُضيِّ في سبيل تحقيق البشارة، والمديح النبوي بفَتْح القسطنطينية[40].

ولم يقتصرْ دور العلماء على ذلك، بل واصلوا وقفتَهم، وتجهيز القوَّات، ورفْع الرُّوح المعنوية، والوصول بها الحدود اللازمة، حين أخذوا "يقرؤون على المجاهدين آياتِ الجهاد في سورة الأنفال، ويُذكِّرونهم بفضل الشهادة في سبيل الله، وبالشهداء السابقين حولَ القسطنطينية، وعلى رأسهم أبو أيُّوبَ الأنصاري - رضوان الله عليه - وغيره ممَّن استشهدوا تحتَ أسوار القسطنطينية"[41].

ومرة أخرى ينبري العلماء لرَفْع الرُّوح المعنوية لجند المسلمين ليلةَ الحسم "ففي ليلة 29 مايو نزلتْ بعضُ الأمطار على المدينة وما حولها، فاستبشر المسلمون خيرًا، وذَكَّرهم العلماء بمثيلتها يومَ بدر"[42].

وهكذا فقد كان للعلم وللعلماء بصُحبة الفاتح دَورٌ مؤثِّر في فتح القسطنطينية على يدِ السلطان العثماني محمَّد الفاتح منذ بدايات الإعداد للمعركة، إلى أنْ نجحَ المسلمون بقيادة السلطان في تحقيق ذلك النصر العظيم، حيث يمكن إيجازُ ذلك الدور للعلماء بالآتي:
أولاً: كان أثرُ العلم ومجالسة العلماء واضحًا في تكوين شخصية الفاتح، وترغيبه في الجِهاد منذ المراحل المبكِّرة من حياته، وقد بَرَز هذا الأثر بما قام به العلماء مِن حثٍّ للسلطان على مواصلة الجهود الإسلامية السابقة الرامية للفتْح، وبيان أهميته.
ثانيًا: سخَّر الفاتحُ العلمَ والعلماء على مختلف فئاتهم، وتباين تخصُّصاتهم ودياناتهم في التجهيز والإعداد المعنويِّ والماديّ، وتسخير ذلك في تطوير الجيش العثماني وتجهيزه؛ استعدادًا للمعركة المرتقَبة، ومثال ذلك ما ذُكِر من إفادته من المخترع المجري أوربان، الذي صمَّم المِدفع العملاق، وغيره من العلماء الذين سخَّروا مخترعاتِهم الماديةَ في الجوانب العسكرية الأخرى.
ثالثًا: ظهر دورُ العلماء بارزًا في مصاحبة العلماء للفاتح وللجيش منذ بدْءِ الإعداد للمعركة، إلى أن تحقَّق لهم النصر على أيدي الفاتح؛ حيث قام أولئك العلماءُ الأفذاذ برفْع الرُّوح المعنوية للجيش الإسلامي قَبلَ المعركة، وفي أثناء المعركة، حتى تمَّ النصر للمسلمين.


المرحلة الثالثة
علاقات الفاتح بالعلم والعلماء في أعقاب الفتح إلى وفاته


يبدو أنَّ الفاتح كان على إدراك بأهمية العلم، وصُحْبة العلماء فيما تحقَّق على يديه مِن شَرَف عظيم بفتْح القسطنطينية، ولذلك لم يزدْه فتحُ القسطنطينية إلا مزيدًا من التمسُّك بهذه الجوانب، فكان أثرُ ذلك واضحًا في بقية مراحل حياته، التي يمكن أن نُطلق عليها مجتمعةً المرحلةَ الثالثة من تاريخه، وهي مرحلة ما بعد الفتْح إلى وفاته - رحمه الله تعالى.

وكانت أُولى الخُطوات الدالَّة على هذه العلاقة، وعلى هذا التأثُّر: أنْ بادرَ السلطان محمد الفاتح في أعقاب فتْح القسطنطينية إلى استبدال اسمها باسمٍ إسلامي؛ ليضفيَ عليها الطابع والهُويَّة الإسلامية، التي كانتْ هذه المدينة العريقة تنتظرها، حيث أطلق عليها اسمًا جديدًا، وهو اسم "إستانبول"، وهي كلمة تُركية محرَّفة من كلمة إسلامبول، ومعناها دار الإسلام[43].

ورغم التفاوت بين الكُتَّاب في نُطق هذا الاسم ورَسْمه بيْن كاتب وآخر، حيث إنَّ بعضهم يُسمِّيها "اسطمبول"، والبعض الآخر يطلق عليها "إسلامبول"، وهي أسماء لمدلول ومدينة واحدة هي "إستانبول"، أو "القسطنطينية" التي كأنَّما سلخت هُويتها السابقة بمجرَّد فتْح المسلمين لها، لكن المتفق عليه: أنَّ هذا الاسم كان - وما يزال - رمزًا خالدًا للمدينة، تفاخر به هذه المدينة منذ فتْحها على يَدِ الفاتح إلى يومنا الحاضر، على الرغم ممَّا اعترى المدينة، وما تعرَّض له أهلها في هذا القرْن من عوامل التغيُّر، ومحاولات التغريب والسَّلْخ عن الهُويَّة الإسلامية.

كما كان من الخُطوات العملية التي قام بها السلطانُ محمد الفاتح لإضفاء الهُويَّة الإسلامية على القسطنطينية بعدَ فتْحها تحويلُ أكبر كَنيسة بها، وهي كنيسة "أيا صوفيا" إلى مسجد جامع، أصبح من أبرز معالِم "إستانبول" لعدة قرون، ولا زال كذلك إلى يومنا الحاضر، على الرغم من أنَّه قد تعطَّل عن دَوْره غالبيةَ القرن العشرين خاصَّة، وقد حُوِّل في العهد الجمهوري إلى ما يشابه المُتحف.

وممَّا يجدر ذِكْره:
أنَّ الفاتح - رحمه الله - لم يكتفِ بذلك، بل أمر ببناء مسجد جديد في قلْب المدينة الإسلامية الجديدة، حيث تَذكُر المصادر التاريخية بأنَّه قد "أقام المسجد على أنقاض الكَنيسة الرسوليَّة، التي كانت تُستخدَم في وقت سابق مدفنًا للأباطرة، وأطلق على هذا المسجد الجديد "الجامع المحمدي"، أو "جامِع السُّلطان محمَّد الفاتح"[44].

وعن حركة إبراز المظهر الإسلامي في المدينة، وتحويل الكنائس إلى مساجد، وبناء بعض المساجد الأخرى يقول المؤرِّخ محمد فريد بك:
"... ثم دخل السُّلطان المدينة عند الظُّهْر، فوجد الجنود مشتغلةً بالسلب والنهب، فأصدر أوامره بمنْع كل اعتداء، فسادَ الأمْنُ حالاً، ثم زار كنيسة أيا صوفيا، وأمر بأن يؤذَّن فيها بالصلاة؛ إعلانًا بجعلها مسجدًا جامعًا للمسلمين"[45].

وعلى النهْج الإسلامي المميَّز بمعاملة غير المسلمين في ديار المسلمين من أهل الذِّمَّة [46] أعلن السلطان محمد الفاتح بعد الفتْح كذلك "في كافة الجهات بأنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة المسيحيِّين[47]، بل إنَّه يضمن لهم حرية دِينهم، وحِفْظ أملاكهم، فرجع مَن هاجر مِن المسيحيين، وأعطاهم نصْف الكنائس، وجعل النصف الآخر جوامع للمسلمين[48]، ثم جمع أئمَّة دِينهم؛ لينتخبوا بِطْريقًا لهم، فاختاروا جورج سكولاريوس، واعتمد السلطان هذا الانتخاب، وجعله رئيسًا لطائفة الأروام..."[49].

وهكذا فقد تتابعتْ خُطوات إظهار الإسلام في المدينة، وكان من ثمرات الفتْح أن أصبحت إستانبول منارةً للعلم والعلماء في مختلف الفنون والعلوم؛ نتيجةَ التشجيع الذي يلقاه العلماء من السلطان العثماني الفاتح؛ حيث صوَّر المؤرِّخ أحمد جودت في تاريخه وضْع القسطنطينية، وما آلتْ إليه بشكل مجمل قائلاً:
"كانتِ الدولةُ العَلِية تراعي جانبَ العلماء والفضلاء، وتكرمهم كلَّ الإكرام، وكانوا يؤمونها من كل فجٍّ عميق، وأصبحتِ القسطنطينية في ذلك العصر دارًا للعلوم والفنون"[50].

وبشكل أدقَّ، وأكثر تفصيلاً أورد المؤرِّخ أحمد جودت صورًا تاريخيَّة تحكي جانبًا مهمًّا من الجهود العلمية التي بذلها الفاتح في سبيل نشْر العلم والتعليم في إستانبول، حيث يقول مثلاً:
"بعد فتْح إستانبول واتِّخاذها قاعدةً للملك، بذَلَ حضرة السلطان محمد الفاتح جهدَه في سبيل ترقية العلوم والمعارف فيها، فراجتْ سوق العلم والمعرفة رواجًا عظيمًا، حتى كان يحضر إلى الآستانة العِلْيَةُ من جميع الجِهات، العلماء الذين يُشار إليهم بالبنان، فشُيِّدت المدارسُ العلمية الكثيرة في مدَّة وجيزة، ومُلئت دارُ السعادة بأهل العلم والمعرفة"[51].

وهكذا فقد أثمرتْ تلك الجهود عن نهضةٍ علميَّة وحضارية عامرة، فبعد الفتْح اتسعت البلاد، وتضاعفتِ المسؤوليات، ولمواكبة الوضْع الجديد بادَرَ الفاتح إلى مضاعفة العناية بشؤون التعليم، وكان من أبرز ما قام به الفاتحُ في تلك المرحلة إنشاءُ مؤسَّسة علمية كبرى في العاصمة الجديدة للدولة، "وكان الغَرَضُ الذي يرمي إليه السلطان من إنشاء الجامعة العلمية تخريجَ عُلماء متبحِّرين في العلوم كلها، خصوصًا في العلوم الدِّينية، ولهذا السبب استقدم السلطان الفاتح كبارَ العلماء والأساتذة من البلاد الإسلامية الأخرى، واستعمل معهم جميعَ أساليب الإغراء والتشجيع، وبَذَل لهم بعدَ قدومهم واستقرارهم ضروبَ التكريم والإنعام"[52].

كما قام الفاتح بإنشاء مدرسة أيا صوفيا، وولَّى عليها المولى خسرو "ففاقتِ المدارسَ الموجودة في ذلك العهد، وحازتْ شهرة علمية كبيرة، وقصدها طالبو العلم والمعرفة، واحتفظتْ بمركزها العلمي الممتاز سنين عديدة إلى أن تَمَّت تشكيلات مدارس الفاتح".

ومدارس الفاتح عبارةٌ عن مجموعة من المدارس التي تبلغ ثمان مدارس، وتُسمَّى بمدارس
المشاهدات 3730 | التعليقات 0