محكم ومتشابه خطبة 30محرم1439هـ (نص + وورد + بي دي إف)
عاصم بن محمد الغامدي
1439/01/30 - 2017/10/20 08:22AM
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الإنسان من طين لازب وصلصال، ثم ركب صورته في أحسن تقويم وأتم اعتدال، والصلاة والسلام على نبيه محمد الهادي من الضلال، وعلى صحبه وآله خير صحبٍ وآل، ومن اهتدى بهديه إلى يوم المآل، أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس! فتقوى الله حبلٌ متين، ونورٌ مبين، حبل ما له انفصام، ونور تستضيء به القلوب والأفهام يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].
عباد الله:
في القرآن الكريم آياتٌ محكماتٌ هنَّ أم الكتاب، وأخَرُ متشابهاتٌ، آيات محكمات أي واضحاتُ المعنى والدلالة، يفهمها الجميع، وآيات متشابهات أي لابد من ربطها بغيرها من الأدلة الشرعية لفهم معناها، وهذا الربط لا تطيقه العامة، ولا يستوي فيه العلماء، فقد يوفق الله بعضهم لما لم يوفق إليه غيره.
أُتِيَ عُمَرُ رضي الله عنه بِرَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شربَ الخمرَ فأمر به أن يجلَد، فقال: لِمَ تَجْلِدُنِي؟ بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ! فَقَالَ: عُمَرُ: وَفِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ أَلَّا أَجْلِدَكَ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فَأَنَا مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الآياتِ أنزلن عُذْرًا لِمَنْ غَبَرَ وَحُجَّةً عَلَى النَّاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فَمَنْ كَانَ مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْت. [تفسير القرطبي (6/ 297)].
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أحد مصادر التشريع، ولأن نقله إلينا كان عن طريق رواة متتابعين، فقد دوَّن العلماء رحمهم الله أسانيد الحديث وأسماء الرواةِ، وأحوالهم من القوة والضعف، والأمانة والخيانة، وتخصص جمعٌ في دراسة هذه الأسانيد؛ لمعرفة مدى الثقة بها، وبرز في كل عصر علماء مقدَّمون في هذا العلم الدقيق العظيم، فإذا قيل: إن سند الحديث صحيح أو ضعيف، فهذا حكم على سلسلة الرواة الذين يروونه عن النبي عليه الصلاة والسلام، والمسلم يجب عليه التسليم بما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله جل جلاله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ». [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وفي رواية صحيحة: «أَلَّا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
أيها المسلمون:
برز في القرونِ المفضلة وما بعدها عالِمان انعقد الإجماع على صحة ما في كتبهما من أسانيد وروايات، وكلاهما نفع الله بما كتب، حتى لا تكاد بقعة من الدنيا تخلو من كتبهم أو آثارها، إنهما الإمامان الجليلان صاحبا الصحيحين، محمدُ بن إسماعيلَ البخاريُّ، وتلميذُه مسلمُ بن الحجَّاجِ النيسابوريُّ.
ويشترك الصحيحان في كونهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وفيهما أعلى شروط الصحة بأدق المناهج العلمية، وتلقتهما الأمة بالقبول، واعتنى العلماء بهما عناية كبيرة.
وفي سيرة العالمين الجليلين عبر كثيرة، ورسائل للأمة جمعاء، أهمها أن المسلم ينبغي أن يكون له مشروع في حياته، يخدم به دينه، ويلقى به ربه، وأنْ لا يستصغر نفسه، أو يحتقر عمله، فقد بدأ البخاري بجمع الصحيح قبل بلوغ العشرين، ومكث في ذلك أكثر من ست عشرة سنة، ولم يكتب فيه حديثًا إلا وقد تيقن من صحته، واستخار الله تعالى في إضافته.
ومكث مسلمٌ في انتقاء الأحاديث ست عشرة سنة، أما التبييضُ والتدوين فمدة أطول، فانظروا كيف نفع الله بهما الأمة، وبارك في آثارهما، منذ زمانهما في القرن الثالث الهجري حتى أيامنا، ولا يزال العلماء في شتى الأمصار يتتابعون على خدمة هذين الصحيحين، شرحًا وتعليقًا، وحفظًا واستنباطًا.
تأملوا في مشاريع أعمارنا، وساهموا في رفع اهتمامات شبابنا، عسى أن يكون منهم من ينفع المسلمين، ويذب عن حياض هذا الدين، واعلموا أنَّ الموفق من كان مشروع عمره، لا يصادم شرع ربه.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.
الخطبة الثانية:
الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إل يوم الدين أما بعد عباد الله:
فإنَّ فهمَ الأدلةِ، والاستنباطَ منها، علمٌ لا يحلُّ لمن لم يتعلمه اقتحامُه، فالقول على الله تعالى بلا علم من أكبر الكبائر، قال الله جل جلاله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». [رواه البخاري].
ومع سهولة الوصول للمعلومة في زماننا، تجرأ بعض الناس على اقتحامِ الفتوى، وخرج علينا في وسائل الإعلام المختلفة من يجيز أمورًا، لم يختلف المسلمون على حكمها سابقًا، وأصبح مجرد الخلاف عندهم دليلاً، دون التزام بما تقرر من قواعد التعامل مع الخلاف، ولا تمسك بالدليل الشرعي الصحيح، وفق فهم السلف الصالح رضي الله عنهم.
تأملوا مثلاً قضية الغناء والموسيقى، فقد كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يقولون إن الغناء هو المقصود بلهوِ الحديث في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، ولم يخالفهم من الصحابة أحد، بل كان ابن مسعود رضي الله عنه يقسم على ذلك، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ»، ونقلَ عدد من كبارِ علماءِ الأمةِ كالطبريِّ والقرطبيِّ وابنِ المنذرِ والنوويِّ وابنِ قدامةَ المقدسيِّ وغيرِهم إجماعَ العلماء على تحريمِ الغناءِ، بل نصَّ عدد منهم على أن المغنَّيَ ومدمنَ السماعِ لا تقبل شهادته، ثم خرج قوم لم يبلغوا عشر ما بلغه أولئك في العلم والفهم، فقالوا: إن في المسألة خلافًا، وبنوا عليه القول بالإباحة!!
وقيسوا على الغناء مسائل أخرى كثيرة.
وليست المصيبة فيمن يخطئ من أهل الاجتهاد والعلم، فإنه مأجور بإذن الله، لكنها في القول على الله بلا علم، أو الإصرار على الخطأ بعد تبين الصواب.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، وثمرة العلم العمل، فتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في هذه الأيام من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
المرفقات
ومتشابه-30محرم1439هـ
ومتشابه-30محرم1439هـ
ومتشابه-30محرم1439هـ-2
ومتشابه-30محرم1439هـ-2