محقرات الذنوب

سليمان بن خالد الحربي
1445/06/05 - 2023/12/18 20:41PM

 

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عبادَ الله، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33].

إخوتي في الله: لقد اختارَ الله لنا دينًا كاملًا فيه صلاحُ القلوبِ والأبدانِ والأموالِ والمجتمعاتِ على اختلاف الزمان والمكان، دينًا أكمَلَه اللهُ، وفرضه الله، فلا يأتيهِ الباطلُ ولا النقصُ، هذا الدين هو الصالح لعقولِنا وأبداننا، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلموا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ولهذا تجد المؤمنين بالله المستسلمين لأمره والمعظِّمين لحدوده أَهْدَأَ الناسِ نفسًا، وأصفاهم سَريرةً، وأكثرَهم خشيةً لله وأشدَّهم طمأنينةً.

 إن الإنسان مهما عَظُمَ عِلمه وكثرت تجارِبه، لا يمكن أن يعيش في هذه الحياة بطُمأنينةٍ وراحةٍ إلا إذا استمسكَ بأوامر الله، واجتنبَ نواهيه، إن تعظيم الرب تعالى وتمجيده مستلزمٌ لتعظيمِ أحكامه ومراعاةِ حدوده، فعلامةُ الإيمان الصادق هو تعظيمُ أمره ونهيه والتمسك به.

 قال ابن القيم -رحمه الله-: (أولُّ مَرَاتِبِ تَعظيمِ الحقِّ ﻷ تعظيمُ أمرِه ونهيهِ، وذلك المؤمنُ يعرف ربه ﻷ برسالته التي أُرسِلَ بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة، ومُقتضاها الانقيادُ لأمره ونهيه وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله -سبحانه وتعالى- واتباعه، وتعظيمِ نهيه واجتنابه، فيكون تعظيمُ المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالًّا على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق، وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر)([1]). ا.هـ.

 أَلا وإِنَّ من أعظم منغِّصات الحياةِ ومجلبة الهموم والغموم هي المعصية، آهٍ لهذه المعصية! ما أَشَدَّ مرارتَها على القلب! وما أبأسَ عوائدَها على النفس! والحسرة تزداد حينما تُقنِع نفسكَ بصِغَرِ الذنب وحقارته، أو صغر الواجبِ وعدم أهميته. بوَّب البخاري في صحيحه فقال: بَابُ مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ. ثم روى عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلم- مِنَ الموبِقَاتِ»([2]). قَالَ أَبُو عَبْد اللهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ المهْلِكَاتِ.

 قال ابن الجَوْزِيِّ: (المعنى تعملونَ أعمالًا ليس لها عندكم كثيرُ وقعٍ احتقارًا لها، وهي من الموبقاتِ؛ أي المهلكات، وهذه الأعمال مثل قول الرجل للرجل: كنت على نية قصدكَ، ونحو ذلك مما يكذب فيه، أو مَدْح الرجلِ الرجلَ بالشيء الذي ليس فيه، وربما كان ذلك لسلطانٍ جائرٍ، وقد يكون ذلك في المعاملات بالربا، وعُقوق الوالديْن، وقذف المحصنة، وعَيْبة المسلم، وأشياء يحتقرُها الإنسان ويجري فيها مع العادات وهي مهلكة)([3]).

 روى ابن ماجه، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللهِ طَالِبًا»([4]).

قال الطحاوي: (فيه تَحْذِيرُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَأْخُوذُونَ بِهَا مَعَ إِيمَانِهِمْ، مُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الله -سبحانه وتعالى- عَنْهُمْ)([5]).

وكذلك تحقير بعض الأوامر والواجبات والتساهل فيها هو من هذا الباب، فيقول هذا مختلف فيه، وهذا تركه يسير ونحو ذلك.

 تأملوا امتحان أبي بكر مع أمرٍ من أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ المؤْمِنِينَ –رضي الله عنها- أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ -عَلَيْهَا السَّلَامُ- ابْنَةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعْدَ وَفَاةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَقْسِمَ لها مِيرَاثَهَا، ما تَرَكَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا نُورَثُ ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ فلم تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حتى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سِتَّةَ أَشْهُرٍ. قالت: وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَسْأَلُ أَبَا بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمَّا تَرَكَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خَيْبَرَ وَفَدَكٍ، وَصَدَقَتَهُ بِالمدِينَةِ، فَأَبَى أبو بَكْرٍ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَقَالَ: لَسْتُ تَارِكًا شيئا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَعْمَلُ بِهِ إلا عَمِلْتُ بِهِ؛ فَإِنِّي أَخْشَى إن تَرَكْتُ شَيْئًا من أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ([6]).

 أيعجز أبو بكر أن يعمل المصالح للتأليف، أيعجز عن تفسيرات العقل التي لا تنتهي لإخضاع النصوص على ما يريد كلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

 بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.

أمَّا بَعْدُ:

مَعْشرَ الإخوةِ: تأملوا هذا الحديث العظيم في شأن المعصية، فوالله لهو موعظة لقلوبنا، جاء في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-  يَقُولُ: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ فَلم نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالمتَاعَ وَالْحَوَائِطَ ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المغَانِمِ لم تُصِبْهَا المقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا». فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ»([7]).

خادمٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الجهاد، وتوفي وهو يصلح شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع هذا أخذ شملة فعلت به ما فعلت، إنها مخالفةُ أمر الله إنها المعصيةُ.

روى عبد الرزاق، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «مَثَلُ المحَقَّرَاتِ كَمَثَلِ قَوْمِ سَفْرٍ تُرِكُوا بِأَرْضٍ قَفْرٍ، مَعَهُمْ طَعَامُهُمْ لَا يُصْلِحُهُمْ إِلَّا النَّارُ، فَتَفَرَّقُوا فَيَجِيءُ هَذَا بِالرَّوْثَةِ، وَيَجِيءُ هَذَا بِالْعَظْمِ، وَيَجِيءُ هَذَا بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا أَصْلَحُوا بِهِ طَعَامَهُمْ، قَالَ: فَكَذَلِكَ صَاحِبُ المحَقَّرَاتِ، يَكْذِبُ الْكَذْبَةَ، وَيُذْنِبُ الذَّنْبَ، وَيَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُبُّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»([8]).

وروى البيهقي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أُحَذِّرُكُمْ مُحَقَّرَاتِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّهَا تُحْصَى عَلَيْكُمْ، وَتُرَدُّ عَلَيْكُمْ»([9]).

 ولهذا شُرِعَ كثرةُ الاستغفار، ونُهِيَ المرءُ عن الإصرارِ على المعصية، وشُرِعَ كثرةُ الأعمال الصالحة ومجاهدةُ النفس.

قال أبو أيوب الْأَنْصَارِي: «إِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ، يَتَّكِلُ عَلَيْهَا، وَيَعْمَلُ المحَقَّرَاتِ حَتَّى يَأْتِيَ اللهَ وَقَدْ أَخْطَرَتْهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَيَفْرَقُ مِنْهَا حَتَّى يَأْتِيَ اللهَ آمِنًا»([10]).

فإذا رأيتَ من نفسكَ تعذيرًا لمعاصيك المحقَّرة ونسيانًا لها، فتدارَكْ نفسكَ من أكل أو شرب محرًّمٍ، أو عمل محرم أو قول محرم، وتظن أنه عند الله هيِّنًا وهو عند الله عظيمٌ، ولا تنظر إلى صِغَرِ المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيتَ، ولا يكن الله أهون الناظرين عندكَ. {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الميعَادَ} [آل عمران:193، 194].



([1]) الوابل الصيب (1/15).
([2]) أخرجه البخاري (5/2381، رقم 6127).
([3]) كشف المشكل (1/865).
([4]) أخرجه ابن ماجه (2/1417، رقم 4243).
([5]) شرح مشكل الآثار (10/172).
([6]) أخرجه البخاري ( 3/1126، رقم 2926)، ومسلم ( 3/1380، رقم 1759 ).
([7]) أخرجه البخاري (4/1547، رقم 3993)، ومسلم (1/108، رقم 115).
([8]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/455، رقم 7262).
([9]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/456، رقم 7265).
([10]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/456، رقم 7266).

المرفقات

1702921298_محقرات الذنوب.docx

المشاهدات 864 | التعليقات 0