محبطات الأعمال (4) (الرياء)
محمد بن إبراهيم النعيم
كنّا قد بدأنا منذ أسابيع الحديث عن محبطات الأعمال، وأنه ينبغي الحذر منها كل الحذر، فمن الذنوب ما تحبط لك حسنة واحدة، ومنها ما تحبط لك حسنات عديدة، وهذا ما يُعرف بمحبطات الأعمال، وهذه الذنوب تعد من الكبائر التي يجب الاحتراز منها، ولذلك كان لزاما علينا أن نتعرف عليها كي نتجنبها.
ومن هذه الذنوب التي تحبط الأعمال: الرياء، والرياء يعد من الشرك الأصغر، الذي يتغلغل في النفوس وقلما ينجو منه أحد، فما هو الرياء؟ وما خطره على أعمالنا؟ وما الوسائل التي تساعدنا على التخلص منه ؟
فالرياء شرك، بل شرك خفي ويكون بإظهار العبد عبادته للناس، لينال عَرَضاً من الدنيا، يُظهر العبادة حتى يراه الناس فَيُمدح، فالرياء مشتق من الرؤية كما أن السُّمعة مشتقة من السماع والاستماع حيث يريد المرائي والمسمع أن يراه الناس ويسمعونه، فهو يطلب حظ نفسه من عمله في الدنيا لينال الحظوة عند الناس، فأعماله لغير الله تعالى، لذلك يُحبط الله عمل العبد الذي رآئى فيه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) رواه مسلم.
وروى أبو سعيد بن أبي فضالة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ) رواه الترمذي وابن ماجه.
فأي عبادة تعملها لله، وتطلب فيه ثناء الناس يبطل ثوابها، فقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَالَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- : (لا شَيْءَ لَهُ)، فَأَعَادَهَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (لا شَيْءَ لَهُ)، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ) رواه الترمذي وأبو داود.
والرياء عواقبه وخيمة؛ لأن الله -عز وجل- سيفضح المرائين بكشف نواياهم أمام الخلق أجمعين حيث روى جندب بن عبدالله –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (من سمّع سمَّع الله به، ومن يراء يراء اللهُ به) رواه البخاري ومسلم.
أي من أظهر عمله للناس رياء أظهر الله نيته الفاسدة في عمله يوم القيامة، وفضحه على رؤوس الأشهاد، بعد أن ظنَّ أنه كان يحسن في الدنيا صنعا.
قرأ سفيان الثوري قوله تعالى )وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون( فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم.
ولا يكفي بطلان ثواب المرائي وفضح أمره يوم القيامة، وإنما سيتبع ذلك دخول النار، ألا تعلموا أن أول من تسعر بهم النارُ يوم القيامة، أناس مسلمين قدَّموا أعملا جليلة، ولكنهم راءوا في أعمالهم؟ قال أبو هريرة –رضي الله عنه-: (حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ يَقْتَتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلائِكَةُ كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلانًا قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِي مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه الترمذي، أرأيتم كيف أن المرائين هم أول من تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة؟
لذلك حذَّر النبيَ –صلى الله عليه وسلم- من الرياء وبين أنه أشد خطرا على الأمة من فتنة المسيح الدجال، فقد روى أبو سَعِيدٍ الخدري –رضي الله عنه- قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)؟ قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ) رواه ابن ماجه.
إن صور الرياء في المجتمع كثيرة، فبعض الناس إذا رجع من أداء العمرة قال لبعض زملائه: لقد دعوت لكم عند الكعبة، مع أن النبي –صلى الله عليه وسلم- حثنا أن ندعو لإخواننا بظهر الغيب، وبعضهم تراه يتصدق في بعض المحافل الخيرية لا ليكون قدوة لنظرائه الأغنياء، وإنما غايته أن يسجل أنه الداعم الذهبي أو الفضي. وبعضهم تراه يتحدث عن أعماله الصالحة عند الآخرين، وربما ذكر كم حجة حجها، وكم عمرة اعتمرها، وهو لم يُسأل عن ذلك. وربما ذكر مساعدته للناس بجاهه أو ماله يريد بذلك المنزلة عند الناس، وأنه من المحسنين، فما الداعي للتحدث بأعمالك عند من لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا يملكون موتا، ولا حياة، ولا نشورا؟
فالصالحون دأبهم أن يعملوا العمل الصالح لا يريدون به جزاء ولا شكورا، لقوله تعالى )إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا(.
والرياء من صفات المنافقين الذين قال الله عنهم: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَاءونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].
فينبغي علينا -عباد الله - أن نحذر هذا الشرك، وأن نخاف على أعمالنا منه، وأن يسأل كُلٌّ منَّا نفسه دائما: ماذا أردتُ بذلك العمل؟ ماذا أردتُ بتلك الكلمة؟ مَن أقصدُ بتلك الطاعة؟ فإن الرياء أمره خطير، وهو مدخل من مداخل الشيطان على الصالحين، وقد خافه النبي على صحابته الذين هم أتقى الأمة، بل وخافه عليهم أشد من خوفه من فتنة الدجال كما سبق.
وكان السلف يدفعون الرياء عن قلوبهم بإخفاء العمل، فيحرصون على القيام ببعض الطاعات دون أن يراهم أحد.
ولكن بعض الناس من شدّة خوفه من الرياء، يجرّه ذلك لترك العمل، يريد أن يقرأ القرآن في المسجد، فيأتيه الشيطان ويقول له: أنت مرائي، لا تقرأ أمام الناس، فيترك القراءة، فهذا من تلاعب الشيطان ووساوسه، لأنه يريدك أن تترك طاعة الله لتقل حسناتك، فالواجب إذا أحسست بهذا أن تستعيذ بالله، وتستمر في عبادتك، وبانتهاج هذا المسلك سيزول عنك ما يجري في نفسك من خوف الرياء.
وقد يُستحب إظهار العمل لمصلحة، كأن يكون قدوة للناس، فيتصدّق ليراه الناس فيتشجّعون على الصدقة، فعندها يُظهر الإنسان عمله على حسب المصلحة، إذا لم يخف الرياء، فمن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
فاللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ونستغفرك لما لا نعلم، أسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهه خالصة، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، والخسار والبوار للمرائين، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى واعلموا أن الرياء شرك أصغر: وهو إرادة غير وجه الله في طاعة من الطاعات، أو تشريك النية بين الله جل وعلا وغيره، وكلاهما مما يمقته الله ويعاقب عليه، فضلا عن حبوط عمل صاحبه، وضياع جهده وبذله.
فالرياء من مفسدات الأعمال، فهو يفسد العمل الذي راءيت فيه، فانظروا إلى ذلك المجاهد كيف بطل جهاده؛ لأنه جاهد ليقال جريء، وانظروا إلى ذلك القارئ الذي قام الليل كيف بطل قيامه وثواب قراءته.
كيف السبيل لكي تكون أعمالنا خالصة لوجهه تعالى دون رياء أو مفاخرة؟
هناك ثلاثة سبل: السبيلُ الأول أن تستشعر مراقبة الله لك، أن تكون متعبدا لله ترجو ثواب الله ولا ترجو أحدا من الناس أن يمدحك، وأن تعلم أن العباد لن ينفعوك بشيء يوم القيامة، ولن يعطوك حسنة واحدة، وحينئذ لن تبالي بهم سواء علموا بعبادتك أو لم يعلموا، أو أثنوا عليك أو لم يثنوا عليك، وقد جاء في الحديث أن الله تعالى يقولُ يومَ القيامةِ للمرائين: (اذهبوا إلى ما كنتم تُراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندَهم مِن جزاءٍ)؟
السبيل الثاني: الحِرْص على كِتْمان العمل وإخفائه، وقد قال –صلى الله عليه وسلم- (من استطاع منكم أن يكونَ له خَبيءٌ من عملٍ صالحٍ فلْيفْعلْ)، واعلم أنه كلما أخفيت أعمالك عَظُمَ أجرك، ألا تعلم بأن الذي يصلي النافلة في المكان الذي لا يراه فيه أحد يتضاعف ثوابها إلى خمس وعشرين ضعفا عمن صلاها أمام الناس؟ فقد روى صهيب الرومي –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (صلاة الرجل تطوعا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسا وعشرين) رواه أبو يعلى.
وقد سُئل بعضُ الحُكماء: مَن المخلص؟ فقال: "المخلِص الذي يَكْتُم حسناتِه كما يكتم سيئاتِه.
السبيل الثالث: أن تقول الدعاء الذي رواه أبو بكر الصديق –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (الشركُ فيكم أخفى من دبيبِ النملِ، وسأدلُك على شيءٍ إذا فعلتَه أذْهَبَ عنك صَغارُ الشركِ وكبارُه، تقولُ: اللهمَّ إني أعوذُ بك أنْ أُشرِكَ بك وأنا أعلمُ، وأستغفرُك لما لا أعلمُ) رواه الحكيم الترمذي.
فالخلاصة التي ينبغي أن نخرج بها من هذه الخطبة: أن نحذر الرياء لأنه يبطل الأعمال، وأن نجاهد أنفسنا على إخلاص العمل لله -عز وجل- وأن نكتم أعمالنا قدر المستطاع، وأن نحفظ الدعاء المأثور عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في الوقاية من الرياء، بقول: (اللهمَّ إني أعوذُ بك أنْ أُشرِكَ بك وأنا أعلمُ، وأستغفرُك لما لا أعلمُ).
أيها الأخوة في الله، لا يزال هناك العديد من محبطات للأعمال أدع ذكرها في خطب قادمة بإذن الله.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمع إلى القول فيتبعُ أحسنه.
14/4/1435هـ