محبطات الأعمال (3) (التألي على الله)
محمد بن إبراهيم النعيم
هل يعقل أن تصبح أعمال العبد يوم القيامة هباء منثورا؟ هل يمكن أن تذهب حسنات العبد أدراج الرياح يوم القيامة؟ نعم، إذا ارتكب ذنبا محبطا للعمل ولم يتب منه.
إن أخطر ما يهدد العبد يوم القيامة ذنوبه التي اقترفها ولم يتب منها، خصوصا كبائر الذنوب، وإن من كبائر الذنوب ما يحبط لك حسنات كثيرة، وهذا ما يعرف بمحبطات الأعمال، أي أن هناك ذنوبا تحبط لك بعض أعمالك، أو قد تحبط أعمالك كلها، وهذه الذنوب من أخطر الذنوب التي تهدد حسنات العبد يوم القيامة، ولذلك كان لزاما علينا التعرف عليها كي نتجنبها.
أيها الأخوة في الله: نحن لا نزال نتحدث في سلسلة من الخطب عن محبطات الأعمال لنتعرف عليها ونتقيها؛ لئلا تحبط أعمالنا ونحن لا نشعر، وكنا قد ذكرنا أن من محبطات الأعمال الكفر والشرك، وكره شيء من أحكام الدين، والسخرية بالدين وأهله، وانتهاك محارم الله في السر.
ومن المحبطات الأخرى: التألي على الله عز وجل.
فماذا يعني التألي على الله؟ وهل هو منتشر بين الناس؟
فعَنْ جُنْدَبٍ بن عبد الله البَجَلي –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: (وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ) أَوْ كَمَا قَالَ. رواه مسلم، ومعنى (يتألى علي): أي يقسم علي.
فهذا الحديث يبين عدة مسائل مهمة:
أولا: لا يجوز للمسلم أن يقول لأخيه ولو مازحا: والله لن يغفر الله لك، أو لن يدخلك الجنة أبدا؛ أو والله أنك ستدخل النار، لما في ذلك من القولِ على الله بغير علم، والتدخل في شؤون الخالق جل وعلا.
فلا يجوز لنا أن نحجر رحمة الله عن أحد، فالكل تحت المشيئة، ولا نجزم لأحد بدخول جنة أو نار، إلا من شهد له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بذلك، فبعض الناس تراه يقول عن شخص ما: هذا رجل صالح لم يضر أحدا ولا يعرف قلبه الحقد على أحد، هذا أشهد بأنّه من أهل الجنة وسيدخلها سلاما سلاما.
والبعض الآخر إذا رأى رجلا باراً بأحد والديه مدحه قائلا: هذا رجل ما قصّر في حق والديه، وأشهد أنّه لن يُسأل عنهما يوم القيامة، وما أدراك أنه لن يسأل؟ ولِم التقول على الله بما لا تعلم؟
فلا يشرع أن تحكم بأن الله راض عن فلان، أو أن تحكم بأن الله ساخطٍ على فلان، فهذا ما لا نعلمه؛ لأن هذا ليس لنا وإنما هو علم يختص به الله -عز وجل-، فلا يعلم السرائر إلا الله -عز وجل-، فإن شاء الله عفا عن عبده وإن شاء أخذه بذنبه. لذلك لا يجوز للمسلم أن يقتحم هذه الأمور ويتصدى لها فإنها من كبائر الذنوب، خصوصا إذا أقسم في كلامه متأليا على الله فيصبحَ هذا الذنبُ محبطا لعمله.
ألا تعلموا بأن الجزم بأن فلان في الجنة غير مشروع حتى لو كان رجلا تقيا، فكيف بمن يقسم على ذلك؟
فعندما توفي أبا السائب عثمان بن مضعون –رضي الله عنه- دخل عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- وكانت بجواره أم العلاء رضي الله عنها فقالت: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ لها النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ)؟ فقالت: لا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ، وَإِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ)، فقَالَتْ: فَوَاللَّهِ لا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ، قَالَتْ: فَنِمْتُ فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (ذَاكِ عَمَلُهُ) رواه البخاري.
فلا يجوز للمسلم أن يزكي آخر في أمر من أمور الآخرة، وأما في أمور الدنيا فلا حرج.
وكذلك الحالُ مع غيرِ المسلمين، فالكفارُ والمشركونَ نحكم عليهم جملة بالكفر والشرك، ولكن لا نحكم لأي حي منهم بأنه في النار، لأننا لا ندري بم يُختمُ له، فلعله يسلم.
ثانيا: ومما يستفاد من الحديث أن الرجلَ الصالح يجب عليه أن لا يحتقر أحدا من المقصرين المذنبين، وأن لا ينظر إليهم بعينِ الازدراء، وأن لا ينظر إلى نفسه بعين التعظيم والكبر والإعجاب، فإن ذلك من موجبات الهلاك. فذلك العابد الناصح اغتر بصلاحه، وأعجب بنفسه، واحتقر ذلك العاصي لأجل إصراره على ذنبه، لذلك قيل: رب معصية أورثت ذلا واستصغارا، خير من طاعة أوجبت عُجبا واستكبارا.
ثالثا: على المسلم الذي نَصَّبَ نفسه للدعوة إلى الله أن يُحسِّن أسلوبه مع الناس، وأن يكون همه كسب قلوبهم لا كسب موقفٍ عليهم.
رابعا: يحرم على المسلم تقنيط أي إنسان من رحمة الله التي وسعت كل شيء، فإن العاصي حينما يرى أن باب الرحمة والتوبة قد أُغلق في وجهه، فسيستمر في معاصيه، ويزدادُ انحرافا وعصيانا، ولنا عبرة في قصة من قتل تسعة وتسعين شخصا وأراد التوبة، فذهب إلى عابد جاهل في أحكام الدين، فسأله هل له من توبة، فاستعظم العابد ذنبه، فقال: ليس لك توبة -وكأنَّ لسان حاله يقول: لن يغفر الله لك بسبب عِظم ذنبك - فقام فقتله وأكمل به المائة.
فبدل التقنيط من رحمة الله استخدم أسلوب الترغيب والترهيب فيما ورد من أحاديث نبوية، فإنها خيرُ معين لعودة العاصي إلى رشده.
أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويبصرنا بعيوبنا، ويحفظ ألسنتنا من سوء الكلام، وبطوننا من أكل الحرام، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الرحمن، لي ولكم، ولسائر المسلمين من أنس وجان، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الرحيم المنان.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ مقلّب القلوب، وغفار الذنوب، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ القائل: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أما بعد: فإن حديث المتألي على الله حديث عظيم، فيه العديد من الفوائد والعبر، ولكن بعض الناس أساء فهم هذا الحديث، وجعله حجة في ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبعض المذنبين يستدلون به على أن يتركوا وشأنهم وأن لا يناصحوا، أخذا بالرواية التي ذكرها الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (كَانَ رَجُلانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.
فهذا الحديث يرشد الدعاة إلى الصبر على أذى المدعوين، فإن بعضهم قد يتلفظ عليك ويؤذيك بلسانه حينما تُقدّمُ له النصيحة، وقد قال الله -عز وجل- على لسان لقمان }يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ{
فهذا العابد قال لصاحبه حينما رآه يسرف على نفسه بالمعاصي: أقصر عن الذنب، فرد عليه قائل: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ وكأنه يقول له: أنا حر ولا تتدخل في شؤوني، فغضب العابد ولم يصبر، فقال مقولته التي أوبقت عمله، فتألى على الله وأقسم قائلا: وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، فقاده الغضب إلى التألي على الله والقول على الله بغير علم.
فإذا نصحك إنسان لا ترد نصيحته، ولا تقل له عليك نفسك ولا تتدخل في شؤوني، فإن ذلك من أبغض الكلام عند الله -عز وجل-، فقد روى عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (وإن أبغض الكلام إلى الله أن يقول الرجل للرجل: اتق الله، فيقول: عليك نفسك) رواه النسائي في السنن الكبرى والطبراني.
الخلاصة التي يجب أن نخرج بها من هذه الخُطبة: أن نعرف خطر التألي على الله وهو القسم بأن فلان في الجنة أو في النار، فلو رأيت مسلما قتل مئات أو آلاف المسلمين الصالحين، فلا يشرع لنا أن نجزم ونقسم بأنه في النار، فإن ذلك محرم، بل يحبطُ العملَ والعياذُ بالله. نعم يجوز لك أن تدعو عليه بالنار والعذاب، ولكن لا تتألى على الله فتقسم بأن الله سيدخله النار، فإن ذلك يحبطُ العملَ.
أيها الأخوة في الله: لا يزال هناك العديد من محبطات للأعمال أدع ذكرها في خطب قادمة بإذن الله.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمع إلى القول فيتبعُ أحسنه.