محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم ..

عبدالله محمد الطوالة
1437/03/07 - 2015/12/18 06:05AM
الحمد لله ، الحمد لله الذي خلق الإنسانَ في أحسن صورة صورها ، واستخلفَه في الأرض ليستثمرها ويعمُرها ، وخلق له ما في السماوات وما في الأرض وسخَّرَها ، أحمده سبحانه وأُثني عليه .. والَى علينا نعمَه وآلاءَه لنشكُرَها ، ومن رامَ لها عدَّاً فلن يحصُرَها ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ حقٍّ ويقينٍ وعند الله أدخِرها ، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله رسمَ معالمَ الملَّة وأظهرَها، والتزم بتعاليم ربه وأمر بها ودعا إليها ونشرها .. صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه الغر الميامين .. أفضلُ هذه الأمة وأبرها وأطهرها ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ..
أما بعد: فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ، فاتقوا الله ربكم ، وأخلِصُوا لله القصدَ والنيةَ جهدكم ، فإنما الأعمالُ بالنياتِ ، واجتهِدوا في الطاعة فقد أفلحَ من جدَّ في الطاعات ، والزَموا الصدقَ ، فإن دين الله هو الصدق في المُعاملات ..
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ..

أحبتي في الله : لكل رسالة من الرسالات ، ولكل حضارة من الحضارات ، أمجاد ومآثر ، تتشرف بها وتفاخر ، وإن لهذه الأمة مقاماً خاصاً ، وشرفاً رفيعاً ، ومناقب متميزة ، ذلك أنها توفي يوم القيامة سبعين أمة هي خيرها وأحبها وأكرمها على الله ، وإن أعظم ما تتميز وتتشرف به هذه الأمة قرآنها العظيم ورسولها الكريم {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} ، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ومما زادني شرفاً وتيها *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك ياعبادي *** وأن صيرت أحمد لي نبيا
أحبتي في الله .. و يحلو الحديث عن العظماء من الناس، ولكن الحديث عن أعظمِهم هو الأحلى ولا شك .. كيف لا وقد سطرت الأقلام سيرته فكان أروع ما كتبت ، وتكلمت الألسن عن مناقبه فكان أجمل ما نطقت ، وتناقلت الأجيال أخباره فكان أمتع ما علمت ، وحفظ التاريخ أحداثه فكان أروع ما سجل ، هدى الله به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وبصّر به من العمى، وفتح به قلوبًا غلفا وآذانا صما، فحُقّ لأهل التوحيد أن يفخروا بهذه النعمة العظمى .. بلغ العلا بكماله .. كشف الدجى بجماله .. حسُنت جميع خصاله .. صَلُّوا عليه وآله ..
إنه محمد صلى الله عليه وسلم الذي اختصه الله من بين إخوانه المرسلين بخصائص تفوق العدّ، وما اجتمعت من قبله ولا من بعده في أحد ، فله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواء الحمد، وله الشفاعة العظمى وله الكوثر، وهو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأول من يفتح له باب الجنة، وهو أول شافع وأول مشفّع، وهو سيّد ولد آدم أجمعين ، محمد صلى الله عليه وسلم الذي زكاه ربه تزكية ما عُرفت لأحدٍ غيره من المخلوقين ، فلقد زكى الله عقله فقال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} ، وزكى لسانه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى} ، وزكى شرعه فقال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ، وزكى قلبه فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ، وزكى بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وزكّى معلِّمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} ، وزكى أصحابه فقال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ، وزكى أخلاقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، وزكى دعوته فقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} ، نعته بالرسالة: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} ، وناداه بالنبوة : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ، وشرفه بالعبودية فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ، وشهد له بالقيام بها فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} .. فنحن أمام رجل عظيم ما عرف التاريخ مثله في العظمة ..
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت *** مثل الرسول نبي الأمّة الهادي
لما أضاء على البرية زانها *** وعلا بها فإذا هو الثقلان
فوجدت كل الصيد في جوف الفرا *** ووجدت كل الناس في إنسان
صلى عليك الله يا علم الهدى *** ما لاح في فلكيهما القمران
محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا تحصَى فضائله، ولا تعدّ مزاياه ، فما من صفة كمال إلا واتّصف بها، ولا من منقبة فضلٍ إلا وتحلى بها ، جمع الله له أجل المقامات وأسمى المراتب وأكمل المناقب ، فإذا ذُكر العُبّاد فهو إمامهم ، وإذا أشيد بالعلماء فهو معلمهم ، وإذا أثني على الشجعان فهو قائدهم ، وإذا مُدح الدعاة فهو قدوتهم ، اجتمع فيه من الخصائص والفضائل والكمالات البشرية ما تفرق على سائر الرسل ، فأعطاه الله عز وجل اصطفاء آدم ، وشجاعة نوح ، وحلم إبراهيم ، ولسان إسماعيل ، ورضا إسحاق ، وفصاحة شعيب ، وحنان يعقوب ، وجمال يوسف ، وصبر أيوب ، وقوة موسى ، وتسبيح يونس ، وتسخير داود ، وملك سليمان ، ووقار إلياس ، وورع يحيى ، وعلو إدريس ، ومسارعة زكريا ، وزهد عيسى ، وصدق من قال:
فاق النبيين في خَلْق وفي خُلق *** ولم يدانوه في علمٍ ولا كرم
بلغ في الدنيا يوم المعراج مبلغًا ما بلغه إنس ولا جن ولا ملك، وخصّه الله بالمقام المحمود يوم القيامة الذي تحمده عليه كل الخلائق، وأعطاه الوسيلة في الجنة، وهي منزلة لا تنبغي إلا له. ما رآه أحد إلا هابه وغضّ الطرف إجلالاً له وإكبارًا ، ولا عاشره أحد إلا أحبّه حباً جماً ، أرسله الله شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا ، شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره وأعلى في العالمين قدره ، وقرن اسمه باسمه ، يرفعان للنداء بالصلاة، لا ينقطعان لحظة من الزمن ، كلما سكت مؤذن بدأ الآخر ..
ألَم تر أن الله خلّد ذكره *** إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد
وشقّ له من اسْمه ليجلّه *** فذو العرش مَحمود وهذا محمد
أتمّ أمره، وأكمل دينه، وبرّ يمينه .. ما ودّعه ربه وما قلاه، بل وجده ضالاً فهداه، وفقيرًا فأغناه، ويتيمًا فآواه. وخيّره بين الخلد في الدنيا ولقاه، فاختار لقاء مولاه، وقال: "بل الرفيق الأعلى" .. وعده بالمزيد حتى يرضى، وولاّه قبلةً يرضاها .. من أطاعه فقد أطاع الله، ومن بايَعَه فإنما يبايع الله، لا قدّْرَ لأحد من البشر يداني قدرَه، صفوةُ خلقِ الله، وأكرمهم على الله، فحينما قال موسى الكليم عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىٰ} قال الله لمحمد الخليل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ} ، وحين سأل الوجيه موسى : {قَالَ رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى} قال الله للمصطفى محمد: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، فرض على المؤمنين محبته فلا يؤمن مؤمن حتى يكون محمد صلى الله عليه وسلم أحبّ إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين.، تفضل عليه بالوحي والرسالة، واصطفاه من بين خلقه ليكون خاتمَ النبيين، وكان فضل الله عليه عظيمًا، صاحب الوجه الوضاء ، والطهر والبهاء، والقداسة والصفاء ، دائم الابتسامة ، أهدب الأشفار، أكحل العينين، كأنه سبيكة فضة، مليح الوجه، كالقمر ليلة البدر استنارةً وضِياءً ، أشد حياءً من العذراء ، يقول أنس رضي الله عنه: (ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف الرسول صلى الله عليه وسلم). كان يُعرف بريح الطيب إذا أقبل، أحسنُ الناس خَلقاً وخُلقًا، وأتقاهم وأخشاهم وأكرمُهم ، أعظم الناس تواضعًا، يُخالط الفقير والمسكين، ، ويمشي معهم ، وينطلق مع الجارية الصغيرة تأخذ بيده حيث شاءت، ولا يتميز عن أصحابه بمظهر ، يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم ، يأتي ضعفاءهم ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم ، يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ، يعقِل الشاة فيحلبها، يخصف نعله ويخيط ثوبه ويخدم أهله، يبيت الليالي طاويًا بلا عشاء، يعصب الحجر والحجرين على بطنه من الجوع، يقبل الهدية ولا يأخذ الصدقة، أشجع الناس، وأرحم الناس، يمتلئ عفوًا وصفحاً ورأفة ورحمة ، تمر به الهِرة فيرخي لها الإناء لتشرب منه ..
أوفر الناس عقلاً، وأسدّهم رأيًا، وأصحهم فكرة، وأسخاهم يدًا، وأنداهم راحة، وأجودهم نفسًا، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يجود ويقول: "أنفق بلالاً، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا" .. أرحب الناس صدرًا، وأوسعهم حلمًا، لا يزيده جهل الجاهلين عليه إلا عفواً وسماحة، يمسك بغرة النصر ، وينادي أسّراه في كرم : "اذهبوا فأنتم الطلقاء .. ألين الناس عريكةً، وأسهلهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مُحرمًا، وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب، وأشدهم مع الحق، لا يغضب لنفسه، وإذا انتُهِكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء ، كأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من شدة الغضب؛ تعظيمًا لحرمات الله وغضبًا له. أشجع الناس قلبًا، وأقواهم إرادة، يتلقى الناس بثبات وصبر، يخوض الغمار قائلاً: "أنا النبي لا كذب، أنا أبن عبد المطلب" .. أعف الناس لسانًا، وأوضحهم بيانًا، أوتي جوامع الكلم ، واختصر له الكلام اختصارا ، يسوق الألفاظ مُفصلة كالدّر، مشرقة كالنور، طاهرة كالفضيلة، في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة، أعدلهم في الحكومة، و أنصفهم في الخصومة، يَقِيدُ من نفسه، ويقضي لخصمه، يقيم الحدود ولو على أقرب الناس، ويُقسِمُ بالذي نفسه بيده : "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". أسمى الخليقة روحًا، وأعلاهم نفسًا، وأزكاهم أخلاقاً ، أعرف الناس بربه ، وأشدهم صلابة وقيامًا بحقه، وأقومهم بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء الواجبات، واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يُؤتي كلّ ذي حقٍّ حقه، أزهد الناس في الدنيا، ولو شاء لكان أكثرهم فيها عرضا ، يطَعم ما تيسر، لا يُرد موجودًا، ولا يتكلّف مفقوداً، ينام على الحصير والأدم المحشو بالليف، أرفق الناس بالمحتاجين ، وأعظمهم رحمة بالمساكين ، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان ..
وصدق حسان وأحسن أيما إحسان :
وأجمل منك لم تر قط عيني *** وأفضل منك لم تلد النساء
خُلِقت مبرّأً من كل عيب *** كأنّك قد خُلِقتَ كما تَشاء
ولو لم يكن للنبيّ صلى الله عليه وسلم من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هداية السماء إلى الأرض ، وإيصال هذا القرآن الكريم إلى العالم ، لكان فضلاً لا يستقلّ العالم بشكره، ولا تقوم الإنسانية بكِفائه، ولا يُوفي الناس حامله بعض جزائه. إنها العظمة الماثلة في كل قلب، المستقرة في كل نفس، يستشعرها القريب والبعيد، ويعترف بها العدو قبل الصديق، وتهتف بها أعواد المنابر، وتهتزّ لها أعمدة المنائر..
إنه محمد صلى الله عليه وسلم وكفى ، خير من وطئ الثرى ، وخير من صلى وصام ووحدا ..
إنه محمد صلى الله عليه وسلم حيث الكمال الخُلقيّ ، وحيث السمو والرقي ..
محمد صلى الله عليه وسلم أنموذجُ الإنسانية الكاملة، وملتقى الأخلاق الفاضلة ..
بلغ الرسالة أحسن بلاغ، وأدى الأمانة أحسن أداء ، ونصح الأمة أصدق النصيحة، وجاهد في الله حق جهاده .. آذاه قومه فصبر، وعذبوا أصحابه بألوان العذاب فثبت ، وأخرجوه من بلاده فخرج وهو يقول: "والله إنك لأحب البقاع إلى الله، ووالله إنك لأحب البقاع إليّ، ولولا أنّ قومك أخرجوني ما خرجت" .. ذهب إلى الطائف على قدميه فطردوه وأدموه ، وعُرض عليه إهلاكهم فتأنى بهم ، يعرض نفسَه على القبائل قبيلة قبيلة فيقابل بأسوأ مقابلة ، ويُردُ عليه بأقبح الردود ، وهو صابر في سبيل تبليغ دعوة ربه ، يشجّ رأسه يوم أحد، وتكسر رباعيته، ويقتل عمه وخواص أصحابه بين يديه ، ويتكالب الأعداء على قتله يوم الخندق، فيحزّبون الأحزاب طلبا لرأسه، ويدسّ اليهود له السمّ، ويحاولون قتله مرّة بعد مرّة، كل ذلك وغيره كثير لا يُثني من عزيمته لنشر هذا الدين ..
محمد بن عبد الله : أعز الناس نسبًا، وأشرفهم مكانة .. ولد تحت النور ، الكل يتحدث عنه ويبشر بقدومه ، نأى في طفولته عن ملاعب الصبيان ، ومحافل المجون ، فإذا دعي لشيء من ذلك قال : "إني لم أخلق لهذا" ، شبابه ورجولته بل حياته كلها ملء السمع والبصر ، فإذا الطهر والعفاف ، والصدق والأمانة ، حتى لقبه قومه بالصادق الأمين ، لكأن الله جلّت قدرته يقول للعالمين ، هذا رسولي إليكم .. وتلك تفاصيل حياته كلها مكشوفة بين أيديكم ، فافحصوها جيداً ، ودققوا في تفاصيلها ملياً ، فهل ترون من خلل أو زلل ، هل كذب مرة أو خان ، هل ظلم إنسان! أي إنسان ، هل قطع رحماً ، هل استقبل صنماً ... فيا عقلاء العالم !! رجل بكل هذه العظمة ، إنسان بهذه الصفات الكاملة .. يظل أربعين عاماً لم يكذب قط على أحد من العالمين، ثم تزعمون أنه يكذب .. وعلى من .. على رب العالمين .. ألا إن الذين يمارون فيه لفي ظلال مبين .. لقد رآه عقلاء قومه عن قرب فعرفوا صدقه فآمنوا به واتبعوه ، ثم ازدادوا به إيماناً ويقيناً لما رأوه فيما بعد وقد نصره ربه ، ودانت له الجزيرة كُلها وتمكن منها ، وفتحت عليه الغنائم ، وجاءته الأموال أرتالاً ، فإذا هو هو لا يزداد إلا زهداً وورعاً ، وحتى يلقى ربه حين يلقاه وقد أثر في جنبه الحصير ، ودرعه مرهونة عند يهودي في كومة من شعير ، عاش حياته كلها وإلى اللحظة الأخيرة كما بدأها .. أواه ، أواب ، متبتل .. لم يتخلف عن نافلة ولم تتغير فيه خلة .. ثم يكون كاذباً .. فلم يكذب إذن .. ألا إن الذين يمارون فيه لفي ظلال مبين .
أكرم الله أمته كرامة له، فكانت خير أمّة أخرجت للناس، وأحل الله لها الغنائم، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلها، وتجاوز عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وحفظ هذه الأمة من الهلاك والاستئصال، وجعلها أمة مباركة لا تجتمع على ضلالة، وأعطاهم الله الأجر العظيم على العمل القليل، ويأتون يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء، ويسبقون الأمم إلى الجنة .. أظهر الله على يديه من المعجزات ما يبهر العقول، ففلق له القمر فلقتين، وتكلمت الحيوانات بحضرته، وسبح الطعام بين يديه، وسلم الحجر والشجر عليه ، وتكاثر له الطعام والشراب كرامة، وأخبر بالمغيبات، فما زالت تتحقق في حياته وبعد وفاته ، ومهما قيل ومهما قلنا ، فسنظل جميعاً كأن لم نقل شيئاً ..
وعلى تفنن واصفيه بوصفه *** يفنى الكلام وفيه مالم يوصف
{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} بارك الله ....

الحمد لله وكفى ......
أحبتي في الله : ما إن مدحت محمد بمقالتي *** لكن مدحت مقالتي بمحمدِ
أيها المسلمون، ومع حبِّ المسلمين لنبيّهم عليه الصلاة والسلام وتعظيمِهم له وتوقيرهم لجنابه الكريم ، فإنّ عقيدتهم فيه أنه بشرٌ رسول، عبدٌ لا يعبَد، ورسول لا يكذَّب، بل يُطاع ويُحبّ ويوقَّر ويُتّبع، شرّفه الله بالعبودية والرسالة. ولقد علَّمنا ربّنا موقعَ نبيّنا منّا فقال عز شأنه: {النَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، فهو أقربُ إلى قلوبنا من قلوبِنا، وأحبّ إلى نفوسنا من نفوسنا، وهو المقدَّم على أعزّ ما لدينا من نفسٍ أو مال أو والد أو ولد ، ولن يذوقَ المسلم حلاوةَ الإيمان في قلبه وشعوره ووجدانه إذا لم يكن حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده فوقَ كلّ حبيب، ففي الحديث الصحيح: "ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما" بل يترقّى ذلك إلى حدّ نفيِ الإيمان كما في الحديث الصحيح الآخر: "لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" بأبي هو وأمي عليه .. فكل مسلم في مكنون قلبه حب النبي صلى الله عليه وسلم ولسانه يلهج بذلك ولولا ذلك لما صار مسلمًا فالقلوب مجتمعة على حب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن كيف نعبر عن حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف نحول هذا الحب إلى برنامج حياة يحكم واقعنا فعلاً .. هذا هو ما ينبغي أن يهتم له كل مسلم محب ..
أحبتي في الله : لنكن صرحاء مع أنفسنا .. لنتحلى بشي من الشجاعة .. فلا يكفي أن ندعي محبة الرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يكون لذلك واقع حقيقي في حياتنا ، وكيف تكون دعوانا صادقة وحياتنا في أغلب مظاهرها مخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم بعيدة عن منهجه القويم ، أي محبة هذه ! لمحبوب ألسنتنا معه وحياتنا ليست معه ، أي محبة !! لمحبوب نجتمع زرافات ووحدانا لنترنم بمناقبه وسيرته ونشدو بها وتشتغل بها ألسنتنا ، حتى إذا خرجنا إلى الحياة فإذا بنا في بيوتنا وفي أسواقنا وفي مكاتبنا وفي متنزهاتنا وفي فكرنا وثقافتنا وفي شكلنا وهيئتنا وفي سلوكنا وعلاقاتنا وفي تجارتنا ومصالحنا .. في ذلك كله وفي غير ذلك لا نعيش معه صلى الله عليه وسلم ولا نلتزم بمبادئه وآدابه الرفيعة ، وإذا رأينا هذه المبادئ والآداب النبوية تهان وتنتهك فلا تأخذنا الحميّة ولا نغضب، ولا ننتصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لسنته .. فأين الدليل العملي على صدق المحبة ؟ .. هذه سنته قد بلغها إلينا أصحابه من بعده كاملة غير منقوصة .. فكم منا نحن المسلمون اليوم من قرأ صحيح البخاري ومسلم ولو لمرة واحدة ، كم منا من قرأ مختصر صحيح البخاري ومسلم بل ومختصر المختصر وفيهما جُلّ سنته صلى الله عليه وسلم موثقة بالأسانيد الصحيحة .. بل وأقلّ من ذلك !! فكم منا من قرأ الأربعين النووية .. وفي المقابل فكم من سُنةٍ من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم نعلمها ونفقهها ولكننا لا نطبقها ولا نعمل بها ، ولا ننشرها ولا نُعلِمُها لأقرب الناس لنا .. وإذا فتشت عن حقيقة الحال، وجدت أننا مشغولون عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بمحبوبين آخرين ومحبوبات أُخريات ، يُعكفُ عليهم كل ليلة ساعات وساعات ، ويتسمّر من أجلهم أمام تلك الشاشات ، وتطارد أخبارهم من قناة لقناة ، يتابعون بإعجاب ظاهر ثم يقلدون في أدق الصغائر .. أيها المحب للمصطفى صلى الله عليه وسلم : أهلك وأولادك مشغولون بذلك وأنت إن لم تكن معهم فمشغول عنهم .. وإن لم تكن مُقراً لهم فأنت ساكت عنهم ، فأين حب المصطفى صلى الله عليه وسلم في قلبك ، وأين أثره على حياتك وحياة أُسرتك وأولادك ..
يا مدع حب طه لا تخالفه *** الخلف يحرم في دنيا المحبين
لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع
أيها المسلمون فلنتعلم كيف نحب الله ورسوله .. لنتعلم من الصحابة الكرام معنى حب النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة حبه ، فحب النبي صلى الله عليه وسلم في حياة الصحابة الكرام يعني ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الوعي التام الكامل بما جاء به الحبيب صلى الله عليه وسلم والفهم الصحيح للأهداف التي بُعث بها عليه الصلاة والسلام .. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ..
الأمر الثاني: سرعة الاستجابة وقوة الامتثال ، فبمجرد تلقي الأوامر من الله ورسوله يبادرون إلى التنفيذ الفوري والتطبيق الدقيق {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ..
فكم من المسلمين اليوم يسمع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .. يعيه ويفهمه جيداً .. حتى إذا خرج من المسجد .. كأنه لم يسمع شيئًا ..
الأمر الثالث: إذا تعارضت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم مع أهوائنا ورغباتنا فأي شيء نقدم؟ هذه هي القضية وهذا هو الاختبار الحاسم الذي يفترق الناس عنده فريقين , فريقٌ صادق في حبه لله ورسوله .. وآخر مسكين يغش نفسه أو يعيش الأحلام، ألم يقل صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" . فتعلموا يا مسلمون كيف تحبون رسولكم صلى الله عليه وسلم .. وتعلموا من صحابته الكرام رضوان الله عليهم المعنى الحقيقي لحب الله ورسوله .. تعلموا منهم أن أصدق وسيلة للتعبير عن حب المصطفى صلى الله عليه وسلم هو تعلم سنته وتطبقيها وتقديمها على ما سواها ثم نشرها والدعوة إليها .. والذب عنها والصبر فيها .. {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا اللذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيل الله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } ..
اللهم اجعل حُبّك وحبّ رسولك محمد أحبّ إلينا من أنفسنا وأبنائنا ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم ارزقنا اتباعه، وأكرمنا بشفاعته، وأَوْرِدْنا حوضه، وارزقنا مُرافَقته في الجنة..
اللهم صلى ...
المشاهدات 1473 | التعليقات 0