محاضرة ( الحج .. سيرة جميلة )

1441789463721.jpg


الحمد لله الذي أمر خليله ببناية البيت الحرام، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه وخيراته الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مبرأةً من الشركِ والشك والجهل وتطرق الأوهام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضلُ من صلى وصام وطاف بالبيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، والأئمة الأعلام، هداة الأنام وسلم تسليماً كثيراً.
فاتقوا الله – عباد الله - حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
قف بالأباطح تسري فـي مشارفها *** مواكب النور هامت بالتقى شغفًا
من كـل فـج أتـت لله طـائعة *** أفـواجها ترتجي عفو الكريم عفا
صوب الحطيم خطت أو المقام مشت *** مثل الحمائم سربًا بالحمى اعتكفا
إخوة الإيمان والعقيدة ... في هذه اللحظات تتوجه القلوب وترنو الأبصار وتتأجج الأشواق ويزداد الحنين، إلى البيت العتيق والمشاعر المقدسة إلى عرفة والمزدلفة، ومنى والملتزم والحطيم وزمزم.
أشواقنـــــــــــــــــــــــــا نحو الحجاز تطلعت *** كحنين مغترب إلى الأوطــــــــــــــــــــــــان
إن الطيور وإن قصصت جناحها *** تسمـــــــــــو بفطرتها إلى الطيـــــــــــــــــــــــران
في كل عام نرى وفود الحجيج وضيوف الرحمن يلبون نداء الله بالحج إلى بيته الأمين، أقبلوا بقلوب طائعة مختارة ملبية، تريد رضا ربها، ومن لم يتيسر لهم الحج من المسلمين الباقين يلبون بقلوبهم، ويتطلعون بأنظارهم إلى هذه البقاع التي شرفها الله ببيته الحرام.
حين نرى مثل ذلك الحدث يتشوق القلب ويحن، فتعالوا إلى فيض مع الوقفات العطرة من أعظم الأحداث للمسلمين، هي خواطر ترد في الذهن ونحن نتأمل تلك الوفود الزائرة المحرمة، نتذكر عند مرأى الحجيج قدوم ذلك الركب الصغير الذي يقطع صحراء لا نهاية لها، تتحرك بها المطايا اللاغية تتغلب الجفاف والكرى، موكب من شيخ كبير وامرأته التي وضعت ولدها توًا، وهي تحمل رضيعها بين يديها، ما معهم إلا شنة فيها ماء، وتجعل الأم تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها، تُرى أي أمر حدا بهذا الركب إلى قطع هذه الصحاري والقفار، ويخلف وراءه أرض الماء والأكل والكلأ؟!
أما الركب فإنه ركب الشيخ الأُمّة القانت أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-، ومعه هاجر تحمل ابنها إسماعيل -عليه السلام-، وما حدا بهم إلى قطع هذه المسافات إلا أمر الله -جل وعلا- لإبراهيم بالتوجه إلى تلك البقعة وسط الجبال في جزيرة العرب، إنها مكة، أم القرى، البلد الأمين، حرم الله الأمين.
سار إبراهيم -عليه السلام- وزوجه وابنه حتى بلغوا مكة، فوضعهما تحت دوحة فوق زمزم، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، وضعها هناك طائعًا أمر ربه، ويضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء وقَفَل راجعًا إلى الشام، مضحيا لله -عز وجل- بزوجته وابنه الذي جاءه بعد كبر، وتتجه هاجر إليه تناديه ولا يلتفت إليها، حتى إذا بلغوا كداء نادته من ورائه فقالت: يا إبراهيم: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، خشي أن ينظر إليها فيقرأ الحزن في قسمات وجهها فيرق لها أو لغلامها الذي يتركه، فقالت له بعد أن رأت منه ذلك: آلله أمرك بهذا؟! قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا.
هذا ما قالته السيدة هاجر الزوجة المؤمنة لزوجها إبراهيم عليه السلام .. كلمات نستشف منها متانة العقيدة التي تكنها المرأة العظيمة، نرى فيها جميل رسوخ الإيمان في قلبها، تأبى أن تتعلق بغريق وهى نفسها غريقة ولا تتعلق إلا بربها - نرى كيف كان ظنها بزوجها المؤمن الحبيب - أنها في وسط جبال لا زرع فيها ولا ماء، صحراء قاحطة يتركها ورضيعها فيها. ثم ينطلق إبراهيم حتى إذا بلغ الثنية دعا بدعوة المضطر ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) ورجعت أم إسماعيل تشرب مما معها من ماء، وترضع وليدها، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وتنظر إليه يتلوى من الجوع والعطش، فانطلقت هائمة على وجهها كراهية أن تنظر إليه، فذهبت تصعد الصفا هل تحس من أحد؟! فلم تر شيئًا، فنزلت حتى بلغت الوادي، ورفعت طرف درعها، وسعت وأتت المروة، وفعلت ذلك أشواطًا، ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل الصبي، فذهبت فإذا هو على حاله كأنه يصارع الموت، فلم تقرها نفسها، فذهبت إلى أعلى الصفا فلم تر أحدًا - لكن الله سبحانه الرحيم بعباده يراها - فإذا بصوت فأرهفت سمعها عله أن يكون المنقذ، فإذا جبريل -عليه السلام- عند موضع زمزم، فغمز بعقبه على الأرض فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل حين ظهر الماء، ولكنه الله الذي لا يضيع أولياءه وعباده، وجعلت تحوض الماء وتغرف في سقائها وهو يفور، قال نبينا صلى الله عليه وسلم ( رحم الله أم إسماعيل؛ لو تركت زمزم -أو قال: لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عينًا معينًا ) فشربت أم إسماعيل وأرضعت وليدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيتًا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
وجاء إبراهيم – بعد مدة من الزمن - بعد أن سكنت مكة وماتت هاجر وشب إسماعيل وتزوج فقال: يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك الله، قال: وتعينني؟! قال: نعم، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتًا هنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة.
لقد أمر الله خليله إبراهيم عليه السلام أن يبني البيت الحرام ليكون مثابة للناس وأمنًا، وليكون قبلة للمؤمنين الموحدين ومنارة لنداء التوحيد فكان إبراهيم يبني ويرفع القواعد من البيت ومعه ولده إسماعيل وهما يدعوان الله تعالى ( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) وهذا الدعاء منهما عليهما السلام وهما يبنيان البيت من أدل الدلائل على توحيدهما، ورجائهما في الله تعالى، وخوفهما ألا يقبل عملهما، وأراد الله تعالى أن يكون هذا البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام موضعاً للمناسك، ومكاناً للطواف، وأمر سبحانه بتطهيره من كل ما يعارض التوحيد ثم قام ولدهما نبينا صلى الله عليه وسلم محمد الخليل الثاني بتطهير البيت من الأصنام والأوثان يوم فتح مكة وهو يتلو قول الله تعالى ( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم للناس مناسكهم ومشاعرهم ليبقي البيت منارة للتوحيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وجعل يقول للناس «خذوا عني مناسككم» ويقول «قفوا على مشاعر أبيكم إبراهيم» قال الله تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ )
إخوة الإيمان .. بعد أن فرغ إبراهيم من البناء أمره الله بأن يؤذن بالناس بالحج: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) ونادى إبراهيم في الناس: يا أيها الناس: إن الله كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم. فأجابوا بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
قد أبلغ الله تعالى صوت إبراهيم -عليه السلام- حين نادى بالحج كل مكان، وحفظ الله هذا الأذان فجعله يتردد في الصلوات، ويتلى في المحاريب، وفرض الحج من ذلك اليوم إلى يومنا هذا إلى أن تقوم الساعة على سنن الأنبياء والمرسلين، فإن هذا البيت كان وبقي مثابة للناس وأمنًا، منذ أن طاف به إبراهيم أبو الحنفاء الذي دعا ربه أن يحفظ هذه الأرض، فدبت الحياة في هذه الأرض القحلة الجرداء، وأجاب الله دعاء نبيه، فإذا أفئدة من الناس تهوي إليهم، وإذا هذه الأرض الجرداء تصبح أرضًا مباركة ومحط أنظار العالمين بما حباها الله تعالى من الهداية العظمى التي يتطلع إليها كل التائهين.
إلـى الـمشاعر تعلو الدهر سيرتها *** قدسية النفح للتاريخ حين وفى
مشى الحجيج بها ركبًا حدته ضحى *** أسلافنا فحدونـا ركبه خلفًا
توسد الأمـن غـاديها ورائحها *** ونام في كنف الرحمن حيث غفا
إنها الأرض المقدسة والبلد الأمين التي من أجلها تفطرت أكباد وسالت دموع وضحى المحبون بأهلهم وولدهم ورباعهم، شطت بهم الديار وتناءت بهم الأقطار ومع ذلك جاؤوا يقطعون الفيافي والقفار، طلباً لرضا الغفار ليؤدوا فريضة من فرائض الله تعالى.
أَيُ لحظةٍ تلكَ اللحظةُ التاريخيةُ المحفورة في عمق الزمن، المسطورة في صفحة التاريخ، إنها اللحظة التي جاءت لتؤكد جلال الموقف وحرمة الزمن وعظمة المكان وتؤسس ركن الحج إلى قيام الساعة، يوم أن قال الله جل وعلا لخليله إبراهيم ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) فإذا المواكب تتدفّق بالحَجيج مِن كلّ فجٍّ عميق، ما أجملَ أصوات التلبيةِ تعُجّ بها الطائراتُ في الأجواء، والمواخِر في عُباب البحار، والمراكِب التي تلتهِمُ الطريقَ وتغُذّ السيرَ آمّين البيت الحرام، كلُّهم مستجيبون، ثمّ في حرَمِ الله يلتقون. إنها قوافِلُ الإيمان، ورِحلةُ الحياة إلى مَهوَى الأفئِدَة، ورمزِ الإسلام، وقِبلة المسلمين.
جهتهم واحدة، وهدَفهم واحِد، ربهم واحد، نبيهم واحد، دينهم واحد، كتابهم واحد، لباسهم واحد، صوتهم بالتلبية واحد لبّيكَ اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُو جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
أيها الموحدون ... الحج إجلال وتعظيم وتكبير وتقديس فيه تلهج الألسنة بالتكبير وترتفع الأصوات بالتلبية ويجتمع الجميع على نداء التوحيد .. فما أعظم أن يقول الحاج : لبّيكَ اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
لبيك اللهم لبيك.. صدحت بها ألسن ضيوف الرحمن على أرض مكة، وقلوبهم ترتعد خوفًا وطمعًا، يخافون من الذنب الذي أثقل كواهلهم وطامعون في غفران ربهم، آملون أن يكونوا ممن يقال لهم (اذهبوا مغفور لكم).
لبيك اللهم لبيك.. ازدانت بها أرجاء المشاعر المقدسة كما ازدانت بأثواب الصفاء والنقاء والطهارة، تلك الإحرامات التي عكست مظهراً إسلامياً وعيداً دينياً سنوياً فريداً.
سئل النبي صلى الله عليه وسلم ! أي الحج أفضل ؟ قال ( العج والثج ) والعج هو رفع الصوت بالتلبية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من مسلم يلبي إلا لبَّى من عن يمينه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر ، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أهل مهل قط ولا كبر مكبر قط إلا بُشِّرَ ) قيل يا رسول الله :- بالجنة ؟ قال ( نعم ).
وحينما يقف حجاج بيت الله في أرض عرفة ... مشاعر مقدسة وبقاع طاهرة، ورحاب واسعة، ومواسم فاخرة، وجموع كثيرة وغفيرة، ملايين البشر مجتمعون جميعاً في مكان واحد بلباس واحد، تجمعهم أخوّةٌ إيمانية صادقة، ووحدة صافيةٌـ ومساواةٌ عادِلة، ذابت بينهم الفوارقُ العِرقية، وتبدّدت كلُّ مظاهر الاعتزاز بالجنس أو اللون، وبقِيَ معيارُ المفاضلةِ والتكريم ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ ).
كلهم يقول رب اغفر لي وارحمني وتب علي وتقبل مني. يسألون الله الجنة، ويستعيذون به من النار !
فسبحان من يسمع دعاءهم ويجيب نداءهم على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم ، فيعطي كل واحد منهم مسألته دون أن تختلط عليه المسائل والحاجات أو تخفى عليه الأصوات والكلمات ( واللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي مَلاَئِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ).
عرفات، وما أدراك ما عرفات !! ( ما مِن يومٍ أكثر من أن يعتِق الله فيه عَبدًا من النار من يومِ عرفة، وإنّه ليدنو ثم يباهِي بهم الملائكةَ، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ) إنهم يريدون رحمةَ ربهم وجنّتَه، يريدون مغفِرةَ ذنوبهم والعتقَ من النار، جاؤوا من أقاصي الدّنيا وأطراف الأرض، ترَكوا أهلَهم وأوطانهم، وأنفَقوا كلَّ ما يستطيعون للوصولِ إلى هذه الأماكن الشريفة. يطمعون في ثواب الله، يرجون الغفران، ويخشون النيران، ويطمعون أن يكونوا من أهل التقوى والإيمان ممن يقول عنهم الرب الرحيم الرحمن (أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم )
لا يملك الإنسان وهو يرى تلك الجموع المجتمعة والوفود المحتشدة إلا أن يسكب عبرته ويسيل دمعته. هناك تسكب العبرات وتنزل الرحمات وتفيض العطايا والهبات وتمنح الهدايا والشهادات وتمحى الهفوات والزلات وترق القلوب لرب الأرض والسموات.
عبرة وعبرات ودمعات وبسمات في أيام معدودات ( مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) ( وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ )
إلهَنا ما أعدلَكْ *** مَليكَ كلِّ من مَلَكْ
لبيكَ قد لبَّيتُ لكْ *** لبيكَ إن الحمدَ لكْ
والملكَ لا شريكَ لكْ *** ما خابَ عبدٌ أمَّلَكْ
هنا يأتي المشتاقون يدعون بقلوبهم قبل أقدامهم .. هنا يأتي المشتاقون، فيتخلَّوْن عن متاع الحياة الدنيا، عن شهواتها، عن لبسها، عن زيها، ويقبلون على الله عز وجل بثياب الفقراء، إزار ورداء .. هنا يكشفون عن رؤوسهم ذلةً وتواضعًا.
فيا له من مشهدٍ يأخذ بالألباب ويهُز الأفئدة. فهل شممت عبيرًا أزكى من غبار المحرمين ! وهل رأيت لباسًا قطُ أجملُ من لباس الحجاج والمعتمرين ! هل رأيت رؤوسًا أعزُّ وأكرم من رؤوس المحلقين والمقصرين ! وهل مر بك ركبٌ أشرفُ من ركب الطائفين؟! وهل سمعت نظمًا أروع وأعذب من تلبية الملبين وأنين التائبين وتأوه الخاشعين ومناجاة المنكسرين !
فهنيئاً لمن رزقه الله الوقوف بعرفة بجوار قوم يجأرون الله بقلوب محترقة ودموع مستبقة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه، ومحب ألهبه الشوق وأحرقه، وراج أحسن الظن بوعد الله وصدقه، وتائب أخلص لله من التوبة وصدقه، وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، ومن أعسر الأوزار فكه وأطلقه، وحينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء، ويباهي بجمعهم أهل السماء، ويدنو ثم يقول: ما أراد هؤلاء؟ لقد قطعنا عند وصولهم الحرمان، وأعطاهم نهاية سؤالهم الرحمن.
معاشر المؤمنين ... إن رؤيتنا إلى تلك البقاع الطيبة المباركة المقدسة نتذكر فيها الذكريات النبوية والنفحات الإيمانية والمواقف المحمدية. يوم أن وقف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حجته الوحيدة التي حج فيها، وقال للناس مودعاً لهم وموصياً ( أيها النَّاسُ .. خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا ) ثم أنزل الله عليه في يوم الجمعة وهو واقف بعرفة ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) تذكروا حجة الوداع يوم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج معه مائة وعشرون ألف من المسلمين فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة الوداع فانشرح صدره بهذه الجموع الغفيرة والألوف المؤلفة، التي لبت النداء، وجاءوا رجالاً يمشون على أرجلهم وركبانًا، فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة جامعة قال فيها ( تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ ) ثم قال ( لَا تَرْجِعُوا مِنْ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، إِنَّ دِمَائَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأعراضكم حَرَامٌ علَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، ألا هل بلغت ) فقال الناس :نعم. فقال ( إنكم ستُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ ) قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ الرسالة وَأَدَّيْتَ الأمانة وَنَصَحْتَ الأمة، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ ( اللهُمَّ، فاشْهَدْ، اللهُمَّ، فاشْهَدْ اللهُمَّ، فاشْهَدْ ).
وقف صلى الله عليه وسلم في حجته خاضعاً لربه منكسراً بين يدي مولاه مكثراً من الدعاء والتضرع والمناجاة ( فبدأ بالحَجَر فاستلمه وفاضت عيناه بالبكاء ) صلى الله عليه وسلم.
كَأَنَّنِي بِرَسُولِ اللَّهِ مُرْتَدِيًا *** مَلابِسَ الطُّهْرِ بَيْنَ النَّاسِ كَالْقَمَرِ
نُورٌ وَعَنْ جَانِبَيْهِ مِنْ صَحَابَتِهِ *** فَيَالِقٌ وَأُلُوفُ النَّاسِ بِالأَثَرِ
سَارُوا بِرُفْقَةِ أَزْكَى مُهْجَةٍ دَرَجَتْ *** وَخَيْرِ مُشْتَمِلٍ ثَوْبًا وَمُؤْتَزِرِ
مُلَبِّيًا رَافِعًا كَفَّيْهِ فِي وَجَلٍ *** لِلَّهِ فِي ثَوْبِ أَوَّابٍ وَمُفْتَقِرِ
يَا لَيْتَنِي كُنْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ إِذْ حَضَرُوا *** مُمَتَّعَ الْقَلْبِ وَالأَسْمَاعِ وَالْبَصَرِ
يا رب لا تحرمنا من شفاعته *** وحوضه العذب يوم الموقف العَسِرِ
هذه حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم حجة حُجت، وأطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت، وأفضل قدم طافت وسعت، وأعذب شفة كبرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت، وأعظم نفس حجت بقلب خاشع، وإحرام طاهر وخلق عظيم صلى الله عليه وسلم.
والله إنه لموقف تتجدد فيه الذكريات وتسكب فيه العبرات ويقضي فيه الحجيج عبادة من أعظم العبادات وقربة من أعظم القربات تجرَّدوا فيه لله من المخيط عند الميقات، وهلَّت دموعُ التّوبة على صعيدِ عرفات، وضجَّت بالافتِقار إلى الله كلّ الأصوات بجميع اللُّغات، فتملأ المكان وتتطرب الزمان وتتصاعد في إخلاصها وتوحيدها إلى الواحد الديان : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك
هنيئًا لكم يا ضيوف الرحمن .. بلوغُ بيت الله المعظّم، هنيئًا لكم هذه الشّعائر والمشاعر، شرفُ الزمان وشرف المكان مع عظيم الأعمالِ، فاحمدوا الله على ما حبَاكم من هذه النِّعَم، واشكروه فقد تأذّن بالزِّيادة لمن شكَر، قدِمتم أهلاً، ووطئِتم سهلاً، وأنتم ضيفُ الله ووفدُه، الواجِبُ إكرامُه ورفده.
وتذكروا أنَّ قصدَ هذه البقاع الطاهرةِ يكفّر الذنوبَ، ويمحو الآثامَ، ويحطّ الأوزارَ، فليس للحجِّ المبرور جزاءٌ إلا الجنة.
فأقبل رعاك الله، والتحق بوفود الرحمن، الذين دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم . وأبشر بيوم عظيم تقال فيه العثرة وتغفر فيه الزلة.
يسّر الله حجَّ الحجاج، وحفِظهم من كلِّ مكروه، وجعل حجّهم مبرورًا وسعيَهم مشكورًا، تقبَّل الله منّا ومِنهم ...
اللهمّ إنّا توجّهنا إليك بضعفنا وفقرنا وحالنا، فارحمنا برحمتك يا أرحم الرّاحمين. اللهم لا تجعلنا نغادر هذا المكان إلا وقد قلت لنا ( قوموا مغفورًا لكم ، قد بدِّلت سيئاتكم حسنات ) لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
المشاهدات 1652 | التعليقات 0