مَحَاسِنُ الحَجِّ

راكان المغربي
1444/12/04 - 2023/06/22 15:37PM

الخطبة الأولى:

أما بعد:

في الزمن العتيق، وفي الماضي السحيق، ومنذ الآلاف من السنين.

وحين كان إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام في بطن ذلك الوادي الذي لا يكاد يعرفُه أحد، وبالكاد تطؤُه أقدام البشر. إذ بالأمر الإلهي يتنزل على نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)، قال ابن كثير: " أَيْ: نَادِ فِي النَّاسِ دَاعِيًا لَهُمُ إِلَى الْحَجِّ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرْنَاكَ بِبِنَائِهِ. فَذُكر أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ أُبْلِغُ النَّاسَ وَصَوْتِي لَا يَنْفُذُهُمْ؟ فَقِيلَ: نَادِ وَعَلَيْنَا الْبَلَاغُ.

فَقَامَ عَلَى مَقَامِهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْحَجَرِ، وَقِيلَ: عَلَى الصَّفَا، وَقِيلَ: عَلَى أَبِي قُبَيس، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ رَبَّكُمْ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْجِبَالَ تَوَاضَعَتْ حَتَّى بَلَغَ الصَّوْتُ أَرْجَاءَ الْأَرْضِ، وأسمَعَ مَن فِي الْأَرْحَامِ وَالْأَصْلَابِ، وَأَجَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ سَمِعَهُ مِنْ حَجَر ومَدَر وَشَجَرٍ، وَمَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ".

وهكذا سمع حجاجُ اليوم ذلك النداءَ كما سمعه حجاجُ الأمس، سمعوه على تباعدِ القرون، وامتدادِ الأزمان، فجاءوا في هذه الأيام يلبون ذلك النداءَ بصوت واحد، ووِجهة موحدة (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لكَ والمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ).

عباد الله

إن الحجَّ مفخرةٌ من مفاخر الإسلام، وحسنةٌ من أعظم حسناته، تتجلى فيه عظمةُ الشريعة، وجماليةُ الدين، وحكمةُ الحكيم العليم سبحانه.

فمن محاسن الحج أنه منارةٌ تعلو عليها راياتُ التوحيد، ويُقبرُ تحتها ركامُ الشرك، وذلك على مرأى ومسمعٍ من شعوب العالم أجمع، حتى يكون الدينُ لله، وحتى تكون كلمةُ الله هي العليا.

كل شعائر الحج تقصدُ إلى غرس التوحيد في النفس، وتعظيم الله في القلب، وإعلاء ذكر الله بين الخلق، فالحاج من حين يبدأ في شعائر الحج إلى أن ينتهي وهو يُحلِّقُ في نعيم التوحيد، ويَعمُرُ بنيانَه.

أول ما يشرع الحاج في نسكِه يلبي بالتوحيد، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه جابر رضي الله عنه قال: "فَأَهَلَّ بالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لكَ". وهكذا يسير الحاجُّ بتلبيتِه وتكبيرِه وذكرِه لربه في مناسكه كلها، ومن يتأمل في تفاصيل أركان الحج وواجباته وسننه، يجد أن التوحيدَ يحفُّها، وإعلاء ذكر الله يجللُّها. وحتى حين تُقضى المناسكُ فقد أمر الله الحجاجَ بذكره، حتى يظلَّ ذكرُه سبحانه حاضرا في قلب العبد أثناء الحج وبعد الحج، قال سبحانه: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا).

كل ذلك لتكون قيمةُ التوحيد لدى المسلمين أجمعين هي القيمةُ العليا، التي تتداعى الأمة كلُّها لترسيخها، ويجتمع المسلمون من شتى أقطار العالم لغرسِها، حتى تبقى راية التوحيد هي الرايةُ الكبرى التي تلتف عليها الأمةُ جماعاتٍ وفرادى، فيتحدَ صفُّها، وتقوى شوكتُها، وتُخْلِصَ إلى الله وجهتُها.

وإن من محاسن الحج وجمالياتِه، ما فيه من تقريرٍ لقيمة الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية، بعيدا عن الشكليات والمظاهر، والوَجاهاتِ والمناصب، فالكل يلبس زيا موحدا، زيَّ الإحرامِ المتواضع، من إزارٍ ورداءٍ ليأتوا إلى الله بهيئةِ الفقراء، ولتزولَ كلُّ ما بينهم من الفوارقِ الدنيوية، والمراتبِ الشكلية، حتى لا يفخرَ أحدٌ على أحد، ولا يمتازَ فردٌ عن فرد. فالكل عبيدُ الله، والكل إخوةٌ سواسيةٌ في الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ، ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ، ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسْودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى، إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ).

ومن محاسن الحج أنه موردٌ عظيم من مواردِ النفع الجليلة للمسلمين في معاشهم ومعادهم كما قال سبحانه: (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ). فالحج هو المؤتمر السنوي لشعوب المسلمين، يجتمعون رغم تعدد بلدانهم، واختلاف لغاتهم، وتفاوت طبقاتهم، ليحصل لهم النفعُ في دينهم ودنياهم، يقيمون ركنا من أركان الدين، ويوطدون ما بينهم وبين بعضهم من حبل الأخوة المتين، وكم يحصل في مثل هذا الاجتماع من معرفةٍ تفصيليةٍ لأحوال المسلمين، وإدراكٍ لحاجاتهم، وما ينتج عن ذلك من حلولٍ لمشاكلهم، وتدارسٍ لقضاياهم، وبناءِ التواصل بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. بسبب شعيرة الحج تقام الكثير من المشاريع التجارية، والأعمال الدعوية، والجهود الإغاثية، والفرق التطوعية، وغير ذلك من المنافع العظيمة التي تثمر من غراس خيرات الحج المباركة.

وإن من محاسن الحج ما فيه من إغاظة لشياطين الإنس والجن، وقد جاء في بعض الآثار أنه " مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ". والأثر وإن كان لا يثبت سندا، لكن لا شك أن الشيطان يغتاظ أعظمَ الغيظ من اجتماع ملايين المسلمين على طاعة الله، وإعلاءهم لشعائر دينه، وقدومهم إلى البلد المبارك الذي جعله الله (مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)، ففي تلك البقاعِ يهتدون بهُدَى الله، وينالون من بركاتِه، وأي شيءٍ أشد على الشيطان من أن يرى هؤلاء الملايين يسلكون طريق الهدى، ويبتعدون عن طريقِه طريقِ الضلال؟!

وكما يغتاظ شياطين الجن بالحج، فإن شياطين الإنس كذلك، ولذلك فإنهم لا يتحرجون من التعبير عن الغيظ الذي يصيبهم حين يرون الجهودَ والأموالَ والأنفسَ تبذل في طاعة الله، وطلب هداه.

كتب أحد المبشِّرين في بداية القرن الميلادي الفائت يقول: (سيظلُّ الإسلام صخرة عاتية تتحطَّم عليها كل محاولات التبشير ما دام للمسلمين هذه الدعائم: القرآن، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي العام).

فالحمد لله الذي شرع لنا شعيرة الحج، وجعلها ركنا يقوم به الدين، وتعلو به كلمة الله في الناس أجمعين.

بارك الله ولكم..

 

الخطبة الثانية:

معاشر المصلين

أعدادكم بين يدي بالمئات، ولعل بين هذه المئات أناسٌ اصطفاهم الله واجتباهم، وتفضل الله عليهم وأكرمهم، ليكونوا من قاصدي بيته في هذا العام، لينالوا الفضل العظيم، ويؤدوا ركن الإسلام المتين..

لهؤلاء نقول: حُقَّ لنا أن نغبطَكم، وحُقَّ لكم أن تمتلئَ قلوبُكم فرحاً وسروراً بأن تكونوا من حجاج بيت الله الحرام..

هنيئا لكم تلبيةُ نداء إبراهيم عليه السلام ودخولُكم في وفد المستجيبين (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)

هنيئا لكم انضمامُكم لرحلة التطهير وتبييض الصحف (مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ)

لم يستضفْكم ملكٌ ولا وجيه، وإنما اختاركم الله لتكونوا من ضيوفِه، فيُغْدِقُ عليكم من كرمه، قال صلى الله عليه وسلم: (الْحُجَّاجُ والعُمَّارُ وفدُ اللهِ ، دعاهم فأجابوهُ ، وسألوهُ فأعطاهم)

أنفقتم من أموالكم، وتفرغتم من أشغالكم، وتركتم أهلَكم وأولادَكم، فليس لكم جزاء عند الله يوفيكم حقكم إلا ما قاله البشير صلى الله عليه وسلم: (والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ)..

 

وأما غير الحجاج

فلكأني أرى في وجوهكِم شيئا من الحسرة، ولكأني أشعر بأن قلوبَكم تتقطع ألما على فواتِ تلك الفضائل التي أكرم الله بها الحجيج..

ولهؤلاء نقول:

اطردوا عنكم الحسرة، واستبدلوا الحزن بالفرح بفضل الله..

أوليس قد جعل الله لكم ما تتعبدونه به؟!

عبادةُ النية الصادقة، التي قد يبلغ بها المسلم ما لا يبلغ بعمله..

نعم!

سيقف الحجاج في عرفة، وأنتم بأجسادكم بين أهليكم تلعبون، أو في فرشكم نائمون..

أما أرواحكم فهي قادرة على اللحاق بهم، لتكونَ معهم تشاركُهم كل خطوة، وتنالُ معهم كل أجر.

قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ بالمَدِينَةِ أقْوامًا، ما سِرْتُمْ مَسِيرًا، ولا قَطَعْتُمْ وادِيًا إلَّا كانُوا معكُمْ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وهُمْ بالمَدِينَةِ؟ قالَ: وهُمْ بالمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ)

فلئن انتهى التقديم على الحج بالأبدان، فما زال التقديم على الحج بالقلوب مفتوحا، لا يحتاج إلى تصريح، ولا يُقفل عند عدد محدد.. فأقبلوا عليه بصدق نياتكم، وأبشروا بكل ما بُشِّرَ به الحاج.

ومما جعل الله لكم ما تتعبدونه به وخصكم به من دون الحجاج صيامُ يوم عرفة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)

وأيضا مما شرع لكم صلاة العيدُ والنحرُ والذبحُ لله، ذلكم العمل العظيم الذي قال الله سبحانه عنه: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، فالنحر ارتبط بالصلاة فهو من أجل العبادات المالية، فهنيئا لمن اقتطع جزءا من ماله إن كان قادرا وأراق الدم لله يرجو ثواب الله، قال سبحانه: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)..

وأما من لم يكن قادرا، فليذبح بصدق نيته وليبشر بفضل الله، والله جواد كريم.

اللهم يسر للحجيج حجهم، وسهل لهم أمرهم، وأعظم لهم أجرهم، وردهم إلى أهليهم سالمين غانمين، بكرمك يا أكرم الأكرمين.

المرفقات

1687437460_محاسن الحج.docx

1687437462_محاسن الحج.pdf

المشاهدات 411 | التعليقات 0