محاربة الاحتساب سبب العذاب
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1434/11/27 - 2013/10/03 03:34AM
الحِسْبَة وَالمُحْتَسِبُون (7)
مُحَارَبَةُ الاحْتِسَابِ سَبَبُ العَذَابِ
28/11/1434
الحَمْدُ للهِ المَلِكِ الحَقِّ المُبِينِ؛ جَعَلَ المُسْلِمِينَ أُمَّةً وَاحِدَةً؛ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ شَرَعَ الحِسْبَةَ رُكْنًا فِي الدِّينِ، وَكَلَّفَ بِهَا المُرْسَلِينَ، وَأَمَرَ بِهَا المُؤْمِنِينَ، وَأَجْزَلَ ثَوَابَ المُحْتَسِبِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ؛ أَغْرَاهُ المُشْرِكُونَ بِتَرْكِ الاحْتِسَابِ عَلَيْهِمْ وَوَعَدُوهُ بِالنِّسَاءِ والمَالِ وَالمُلْكِ فَقَالَ: «مَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، وَاللهِ إِنِّي لاَ أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ لَهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ»؛ يعني: رَقَبَتَهُ الشَّرِيفَةَ. صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِه إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَسْلِمُوا لَهُ قُلُوبَكُمْ، وَأَخْلِصُوا فِي أَعْمَالِكُمْ.. وَالُوا أَوْلِيَاءَهُ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ، وَأَحِبُّوا فِيهِ، وَأَبْغِضُوا فِيهِ؛ فَإِنَّ الوَلاَءَ وَالبَرَاءَ فِيهِ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإِيمَانِ؛ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55-56].
أَيُّهَا النَّاسُ: جَعَلَ اللهُ تَعَالَى بَقَاءَ دِينِهِ وَانْتِشَارَهُ، وَقِيَامَ شَرِيعَتِهِ وَحِيَاطَتَهَا بِاحْتِسَابِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ وَذَلِكَ ابْتِلاَءٌ لَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَهُوَ ابْتِلَاءٌ للآمِرِ وَالمَأْمُورِ، لِلْمُحْتَسِبِ وَالمُحْتَسَبِ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ ابْتِلَاءٌ لِلْمُحَتَسِبِ أَنْ يَقُومَ بِوَظِيفَةِ الاحْتِسَابِ، وَيَدْعُو إِلَيْهَا، وَيَصْبِرُ عَلَى الأَذَى فِيهَا، وَيَنْهَجُ المَنْهَجَ النَّبَوِيَّ فِي الأَمْرِ وَالنَّهْيِّ الشَّرْعِيَّيْنِ، وَلاَ يُجَاوِزُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ فَيَقَعُ فِي الخَطَأِ، أَوْ يَسْتَدْرِكُ عَلَى الشَّرْعِ. وابْتِلَاءٌ لِلْمُحْتَسَبِ عَلَيْهِ أَنْ يُذْعِنَ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى لَمَّا بَلَغَهُ، فَقَدْ يَكُونُ جَاهِلاً أَمْرَهُ فَعُلِّمَهُ، أَوْ نَاسِيًا لَهُ فَذُكِّرَ بِهِ، أَوْ غَافِلاً عَنْهُ فنُبِّهَ إِلَيْهِ.
وَمِنْ شَرَفِ الحِسْبَةِ أَنَّهَا وَظِيفَةُ الرُّسُل عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، وَمَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ عَاشَ طِيلَةَ حَيَاتِهِ مُحْتَسِبًا عَلَى قَوْمِهِ، يُصَحِّحُ عَقَائِدَهُمْ وَعِبَادَاتِهِمْ، وَيُهَذِّبُ أَخْلاَقَهُمْ وَسُلُوكَهُمْ، وَيُقَوِّمُ عَلاقَاتِهِمْ وَمُعَامَلاَتِهِمْ، وَيُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَمِنْ عَجِيبٍ تَكْرِيسُ قَضِيَّةِ الاحْتِسَابِ فِي وِجْدَانِ المُؤْمِنِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَنْقُلْ لَنَا فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ إِلاَّ القَلِيلَ عَنْ حَيَاةِ الأَنْبِيَاءِ وَمَعِيشَتِهِمْ وَأُسَرِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ وَسِيَرِهِمْ وَأَزْمِنَةِ بَعْثِهِمْ، وَكَيْفِيَّةِ وَفَاتِهِمْ، بَلْ حَتَّى عِبَادَاتُهُمْ لاَ نَعْلَمُ عَنْهَا إِلاَّ القَلِيلَ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ لاَ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَفِي ذِكْرِ أُسَرِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ لَمْ يَذْكُرْ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِجَوَانِبِ الحِسْبَةِ فَقَطْ؛ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ احْتِسَابَ نُوحٍ عَلَى ابْنِهِ الكَافِرِ وَغَرَقِهِ، وَذَكَرَ تَعَالَى احْتِسَابَ الخَلِيلِ عَلَى أَبِيِهِ وَاعْتِزَالِهِ إِيَّاهُ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وَذَكَرَ زَوْجَتَي نُوْحٍ وَلُوطٍ لِأَنَّهُمَا خَانَتَاهُمَا فِي احْتِسَابِهِمَا عَلَى أَقْوَامِهِمَا. وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ لَنَا فِي القُرْآنِ وَبِشَكْلٍ مُكَثَّفٍ وَمُفَصَّلٍ احْتِسَابَ الأَنْبِيَاءِ عَلَى أَقْوَامِهِمْ، وَطَرَائِقِهِمْ فِي احْتِسَابِهِمْ، وَمُنَاظَرَاتِهِمْ لَهُمْ، وَحِوَارَاتِهِمْ مَعَهُمْ، وَأَبْدَى فِي ذَلِكَ وَأَعَادَ، وَكَرَّرَهُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَعَرَضَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أُسْلُوبٍ، وَأَخْبَرَنَا عَمَّا لَحِقَهُمْ بِسَبَبِ احْتِسَابِهِمْ مِنْ أَذَى القَوْلِ وَالفِعْلِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي قَصَصِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ.
وهَذَا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الغَايَةَ العُظْمَى، وَالأَهَمِّيَّةَ الكُبْرَى مِنْ ذِكْرِ أَخْبَارِ الرُّسُلِ فِي القُرْآنِ هِيَ قَضِيَّةُ الاحْتِسَابِ عَلَى النَّاسِ، وَيَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ أَعْدَاءَ الحِسْبَةِ وَالمُحْتَسِبِينَ هُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، وَعَلَى أَنَّ قَضِيَّةَ الاحْتِسَابِ هِيَ العُنْوَانُ الأَبْرَزُ، والقَضِيَّةُ الأَهَمُّ فِي دَعَوَاتِ الأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَأَنَّ الأَرْضَ إِذَا خَلَتْ مِنَ المُحْتَسِبِينَ غَشِيَهَا الفَسَادُ، وَعَمَّهَا الخَرَابُ، فَحَلَّتْ بِهَا المَثُلاَتُ، وَنَزَلَتْ فِيهَا العُقُوبَاتُ.
إِنَّ المُحْتَسِبِينَ هُمُ المُصْلِحُونَ، وَإِنَّ أَعْدَاءَهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ، وَلاَ يُعَادِي الحِسْبَةَ والمُحْتَسِبِينَ إِلاَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضُ النِّفَاقِ؛ فَإِنَّ المُؤْمِنَ العَاصِي لاَ يُحِبُّ المَعْصِيَةَ لِغَيْرِهِ، وَيَسْتَتِرُ بِمَعْصِيَتِهِ، وَلَكِنَّ المُنَافِقَ هُوَ مَنْ يَنْشُرُ الفَسَادَ، وَيُشِيعُ الفَوَاحِشَ، وَيُلْبِسُهَا أَثْوَابَ الإِصْلَاحِ، وَهُوَ المُفْسِدُ؛ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].
وَكَمَا شُوِّهَتْ صُورَةُ المُحْتَسِبِينَ السَّابِقِينَ، مِنَ النّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ المُحْتَسِبِينَ فِي زَمَنِنَا وَفِي كُلِّ زَمَنٍ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُومَ أَهْلُ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، وَمُرَوِّجُو الفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ بِتَشْوِيهِ صُورَتِهِمْ لَدَى النَّاسِ، وَافْتِرَاءِ الأَكَاذِيبِ عَلَيْهِمْ، وَرَمْيِهِمْ بِأَدْوَائِهِمْ، وَتَنْفِيرِ النَّاسِ مِنْهُمْ، حَتَّى يَرْفُضُوا الحِسْبَةَ! فَإِذَا رَفَضُوهَا حَلَّ بِهِمُ العَذَابُ كَمَا حَلَّ بِمَنْ كَانُوا قَبْلَهُمْ.
احْتَسَبَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ قَوْمُهُ لَهُ: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: 60]، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ رَفْضِهِمْ نُصْحَهُ مَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 64].
وَاحْتَسَبَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ قَوْمُهُ لَهُ: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66]، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ قَوْلِهِمْ {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].
وَاحْتَسَبَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ قَوْمُهُ لَهُ {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77]، فَكَانَتْ نَتِيجَةُ تَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَرَفْضِهِمْ نُصْحَ رَسُولِهِمْ: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78].
وَاحْتَسَبَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى قَوْمِهِ فِي كُفْرِهِمْ وَفَوَاحِشِهِمْ فَقَالَ قَوْمُهُ: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]، فَكَانَتْ نَتِيجَةُ هَذَا التَّمَرُّدِ وَالبَغْيِّ: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [النمل: 57- 58].
وَاحْتَسَبَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى قَوْمِهِ فِي كُفْرِهِمْ وَغِشِّهِمْ فَقَالُوا لَهُ {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88]، وَأَخَذُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ نُصْحِهِ وَدَعْوَتِهِ وَقَالُوا {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذَا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90]، فَمَاذَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ؟! إِنَّها فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 92-93].
واحْتَسَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] وَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْض الْفَسَادَ} [غافر: 26]، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ الغَرَقَ وَالهَلاَكَ وَالعَذَابَ الدَّائِمَ؛ {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 55، 56].
يَا لَهَا مِنْ عِبَرٍ وَآيَاتٍ نَقْرَؤُهَا وَنَسْمَعُهَا وَنَمُرُّ بِهَا، وَرُبَّمَا نَغْفُلُ عَنْهَا؛ فَلْنَعْلَمْ أَنَّ أُولَئِكَ المُعَذَّبِينَ إِنَّمَا عُذِّبُوا وَأُهْلِكُوا فِي الدُّنْيَا، وَاسْتَحَقُّوا عَذَابَ الآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ رَفَضُوا الاحْتِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَسَخِرُوا مِنَ المُحْتَسِبِينَ، وَكَرِهُوا النَّاصِحِينَ، وَآذَوْهُمْ وَاحْتَقَرُوهُمْ، وَكَذَبُوا عَلَيْهِمْ، وَأَلَّبُوا العَامَّةَ ضِدَّهُمْ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ يَفْعَلُونَ مَا يَشَاؤُونَ، وَفِي مُجْتَمَعَاتِ المُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَيَا لِخَسَارَتِنَا إِنْ اغْتَرَرْنَا بِكَلامِ المُفْسِدِينَ الأَفَّاكِينَ، وَتَرَكْنَا نُصْحَ النَّاصِحِينَ المُحْتَسِبِينَ!
وَنَبِيُّنَا النَّاصِحُ الأَمِينُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَنَا باحْتِسَابِ بَعْضِنَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِشَاعَةِ المُنَاصَحَةِ فِينَا، وَأَخْذِ الصَّالِحِينَ مِنَّا عَلَى أَيْدِي العُصَاةِ لِلنَّجَاةِ مِنَ العَذَابِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَده، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَان"؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ"؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
إِنَّ الأُمَّةَ لاَ يُنَجِّيهَا صَلاحُ الصَّالِحِينَ مِنْهَا، وَلا اسْتِقَامَتُهُمْ عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلاَ عُكُوفُهُمْ فِي المَسَاجِدِ، وَلاَ لُزُومُهُمُ المَصَاحِفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُصْلِحُونَ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ المُنْكَرِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلَّقَ نَجَاةَ النَّاسِ مِنَ العَذَابِ عَلَى وُجُودِ مُصْلِحِينَ فِيهِمْ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [هود: 117]. وَالأُمَّةُ الَّتِي تَرْفُضُ الاحْتِسَابَ جَدِيرَةٌ بِالعَذَابِ، وَالأُمَّةُ الَّتِي تُحَارِبُ المُحْتَسِبِينَ يَضْعُفُ فِيهَا المُصْلِحُونَ، وَيَتَكَاثَرُ المُفْسِدُونَ حَتَّى تَحُلَّ بِهَا عُقُوبَةُ اللهِ تَعَالَى وَنِقْمَتُهُ وَغَضَبُهُ، فَأَحْيُوا -عِبَادَ اللهِ- شَعِيرَةَ الحِسْبَةِ فِيكُمْ، وَأَعِينُوا المُحْتَسِبِينَ مِنْكُمْ، وَخُذُوا عَلَى أَيْدِي المُفْسِدِينَ؛ لِئَلاَّ يَحُلَّ بِنَا مَا حَلَّ بِالسَّابِقِينَ: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْض إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 123].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: تَسْتَقْبِلُونَ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَفْضَلَ أَيَّامِ السَّنَةِ عَلَى الإِطْلاقِ، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا أُمَّهَاتِ العِبَادَاتِ، وَحَثَّ فِيهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى الإِكْثَارِ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّهُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ -يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ-، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قال: وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ من ذَلِكَ بِشَيْءٍ»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارِمِيِّ: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى...، قَالَ الرَّاوِي: وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ».
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ الله وَلاَ أَحَبُّ إليه الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ، «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاس بِتَكْبِيرِهِمَا»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ مُعَلَّقًا.
وَشُرِعَتِ الأُضْحِيَةُ فِي خَاتِمَتِهَا وَتَاجِهَا يَوْمَ العِيدِ، حَتَّى سُمِّيَ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِكَثْرَةِ مَا يُنْهَرُ فِيهِ مِنَ الدِّمَاء تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى.
وَمَنْ كَانَ فِي نِيَّتِهِ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ مِنْ أَوَّلِ لَيَالِي العَشْرِ؛ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلاَ يَأْخُذَنَّ شَعْرًا ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَاعْمَلُوا خَيْرًا، وَأَرُوا اللهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا تَجِدُوا خَيْرًا، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.
مُحَارَبَةُ الاحْتِسَابِ سَبَبُ العَذَابِ
28/11/1434
الحَمْدُ للهِ المَلِكِ الحَقِّ المُبِينِ؛ جَعَلَ المُسْلِمِينَ أُمَّةً وَاحِدَةً؛ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ شَرَعَ الحِسْبَةَ رُكْنًا فِي الدِّينِ، وَكَلَّفَ بِهَا المُرْسَلِينَ، وَأَمَرَ بِهَا المُؤْمِنِينَ، وَأَجْزَلَ ثَوَابَ المُحْتَسِبِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ؛ أَغْرَاهُ المُشْرِكُونَ بِتَرْكِ الاحْتِسَابِ عَلَيْهِمْ وَوَعَدُوهُ بِالنِّسَاءِ والمَالِ وَالمُلْكِ فَقَالَ: «مَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، وَاللهِ إِنِّي لاَ أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ لَهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ»؛ يعني: رَقَبَتَهُ الشَّرِيفَةَ. صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِه إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَسْلِمُوا لَهُ قُلُوبَكُمْ، وَأَخْلِصُوا فِي أَعْمَالِكُمْ.. وَالُوا أَوْلِيَاءَهُ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ، وَأَحِبُّوا فِيهِ، وَأَبْغِضُوا فِيهِ؛ فَإِنَّ الوَلاَءَ وَالبَرَاءَ فِيهِ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإِيمَانِ؛ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55-56].
أَيُّهَا النَّاسُ: جَعَلَ اللهُ تَعَالَى بَقَاءَ دِينِهِ وَانْتِشَارَهُ، وَقِيَامَ شَرِيعَتِهِ وَحِيَاطَتَهَا بِاحْتِسَابِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ وَذَلِكَ ابْتِلاَءٌ لَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَهُوَ ابْتِلَاءٌ للآمِرِ وَالمَأْمُورِ، لِلْمُحْتَسِبِ وَالمُحْتَسَبِ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ ابْتِلَاءٌ لِلْمُحَتَسِبِ أَنْ يَقُومَ بِوَظِيفَةِ الاحْتِسَابِ، وَيَدْعُو إِلَيْهَا، وَيَصْبِرُ عَلَى الأَذَى فِيهَا، وَيَنْهَجُ المَنْهَجَ النَّبَوِيَّ فِي الأَمْرِ وَالنَّهْيِّ الشَّرْعِيَّيْنِ، وَلاَ يُجَاوِزُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ فَيَقَعُ فِي الخَطَأِ، أَوْ يَسْتَدْرِكُ عَلَى الشَّرْعِ. وابْتِلَاءٌ لِلْمُحْتَسَبِ عَلَيْهِ أَنْ يُذْعِنَ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى لَمَّا بَلَغَهُ، فَقَدْ يَكُونُ جَاهِلاً أَمْرَهُ فَعُلِّمَهُ، أَوْ نَاسِيًا لَهُ فَذُكِّرَ بِهِ، أَوْ غَافِلاً عَنْهُ فنُبِّهَ إِلَيْهِ.
وَمِنْ شَرَفِ الحِسْبَةِ أَنَّهَا وَظِيفَةُ الرُّسُل عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، وَمَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ عَاشَ طِيلَةَ حَيَاتِهِ مُحْتَسِبًا عَلَى قَوْمِهِ، يُصَحِّحُ عَقَائِدَهُمْ وَعِبَادَاتِهِمْ، وَيُهَذِّبُ أَخْلاَقَهُمْ وَسُلُوكَهُمْ، وَيُقَوِّمُ عَلاقَاتِهِمْ وَمُعَامَلاَتِهِمْ، وَيُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَمِنْ عَجِيبٍ تَكْرِيسُ قَضِيَّةِ الاحْتِسَابِ فِي وِجْدَانِ المُؤْمِنِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَنْقُلْ لَنَا فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ إِلاَّ القَلِيلَ عَنْ حَيَاةِ الأَنْبِيَاءِ وَمَعِيشَتِهِمْ وَأُسَرِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ وَسِيَرِهِمْ وَأَزْمِنَةِ بَعْثِهِمْ، وَكَيْفِيَّةِ وَفَاتِهِمْ، بَلْ حَتَّى عِبَادَاتُهُمْ لاَ نَعْلَمُ عَنْهَا إِلاَّ القَلِيلَ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ لاَ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَفِي ذِكْرِ أُسَرِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ لَمْ يَذْكُرْ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِجَوَانِبِ الحِسْبَةِ فَقَطْ؛ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ احْتِسَابَ نُوحٍ عَلَى ابْنِهِ الكَافِرِ وَغَرَقِهِ، وَذَكَرَ تَعَالَى احْتِسَابَ الخَلِيلِ عَلَى أَبِيِهِ وَاعْتِزَالِهِ إِيَّاهُ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وَذَكَرَ زَوْجَتَي نُوْحٍ وَلُوطٍ لِأَنَّهُمَا خَانَتَاهُمَا فِي احْتِسَابِهِمَا عَلَى أَقْوَامِهِمَا. وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ لَنَا فِي القُرْآنِ وَبِشَكْلٍ مُكَثَّفٍ وَمُفَصَّلٍ احْتِسَابَ الأَنْبِيَاءِ عَلَى أَقْوَامِهِمْ، وَطَرَائِقِهِمْ فِي احْتِسَابِهِمْ، وَمُنَاظَرَاتِهِمْ لَهُمْ، وَحِوَارَاتِهِمْ مَعَهُمْ، وَأَبْدَى فِي ذَلِكَ وَأَعَادَ، وَكَرَّرَهُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَعَرَضَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أُسْلُوبٍ، وَأَخْبَرَنَا عَمَّا لَحِقَهُمْ بِسَبَبِ احْتِسَابِهِمْ مِنْ أَذَى القَوْلِ وَالفِعْلِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي قَصَصِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ.
وهَذَا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الغَايَةَ العُظْمَى، وَالأَهَمِّيَّةَ الكُبْرَى مِنْ ذِكْرِ أَخْبَارِ الرُّسُلِ فِي القُرْآنِ هِيَ قَضِيَّةُ الاحْتِسَابِ عَلَى النَّاسِ، وَيَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ أَعْدَاءَ الحِسْبَةِ وَالمُحْتَسِبِينَ هُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، وَعَلَى أَنَّ قَضِيَّةَ الاحْتِسَابِ هِيَ العُنْوَانُ الأَبْرَزُ، والقَضِيَّةُ الأَهَمُّ فِي دَعَوَاتِ الأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَأَنَّ الأَرْضَ إِذَا خَلَتْ مِنَ المُحْتَسِبِينَ غَشِيَهَا الفَسَادُ، وَعَمَّهَا الخَرَابُ، فَحَلَّتْ بِهَا المَثُلاَتُ، وَنَزَلَتْ فِيهَا العُقُوبَاتُ.
إِنَّ المُحْتَسِبِينَ هُمُ المُصْلِحُونَ، وَإِنَّ أَعْدَاءَهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ، وَلاَ يُعَادِي الحِسْبَةَ والمُحْتَسِبِينَ إِلاَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضُ النِّفَاقِ؛ فَإِنَّ المُؤْمِنَ العَاصِي لاَ يُحِبُّ المَعْصِيَةَ لِغَيْرِهِ، وَيَسْتَتِرُ بِمَعْصِيَتِهِ، وَلَكِنَّ المُنَافِقَ هُوَ مَنْ يَنْشُرُ الفَسَادَ، وَيُشِيعُ الفَوَاحِشَ، وَيُلْبِسُهَا أَثْوَابَ الإِصْلَاحِ، وَهُوَ المُفْسِدُ؛ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].
وَكَمَا شُوِّهَتْ صُورَةُ المُحْتَسِبِينَ السَّابِقِينَ، مِنَ النّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ المُحْتَسِبِينَ فِي زَمَنِنَا وَفِي كُلِّ زَمَنٍ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُومَ أَهْلُ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، وَمُرَوِّجُو الفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ بِتَشْوِيهِ صُورَتِهِمْ لَدَى النَّاسِ، وَافْتِرَاءِ الأَكَاذِيبِ عَلَيْهِمْ، وَرَمْيِهِمْ بِأَدْوَائِهِمْ، وَتَنْفِيرِ النَّاسِ مِنْهُمْ، حَتَّى يَرْفُضُوا الحِسْبَةَ! فَإِذَا رَفَضُوهَا حَلَّ بِهِمُ العَذَابُ كَمَا حَلَّ بِمَنْ كَانُوا قَبْلَهُمْ.
احْتَسَبَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ قَوْمُهُ لَهُ: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: 60]، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ رَفْضِهِمْ نُصْحَهُ مَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 64].
وَاحْتَسَبَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ قَوْمُهُ لَهُ: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66]، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ قَوْلِهِمْ {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].
وَاحْتَسَبَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ قَوْمُهُ لَهُ {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77]، فَكَانَتْ نَتِيجَةُ تَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَرَفْضِهِمْ نُصْحَ رَسُولِهِمْ: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78].
وَاحْتَسَبَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى قَوْمِهِ فِي كُفْرِهِمْ وَفَوَاحِشِهِمْ فَقَالَ قَوْمُهُ: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]، فَكَانَتْ نَتِيجَةُ هَذَا التَّمَرُّدِ وَالبَغْيِّ: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [النمل: 57- 58].
وَاحْتَسَبَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى قَوْمِهِ فِي كُفْرِهِمْ وَغِشِّهِمْ فَقَالُوا لَهُ {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88]، وَأَخَذُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ نُصْحِهِ وَدَعْوَتِهِ وَقَالُوا {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذَا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90]، فَمَاذَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ؟! إِنَّها فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 92-93].
واحْتَسَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] وَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْض الْفَسَادَ} [غافر: 26]، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ الغَرَقَ وَالهَلاَكَ وَالعَذَابَ الدَّائِمَ؛ {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 55، 56].
يَا لَهَا مِنْ عِبَرٍ وَآيَاتٍ نَقْرَؤُهَا وَنَسْمَعُهَا وَنَمُرُّ بِهَا، وَرُبَّمَا نَغْفُلُ عَنْهَا؛ فَلْنَعْلَمْ أَنَّ أُولَئِكَ المُعَذَّبِينَ إِنَّمَا عُذِّبُوا وَأُهْلِكُوا فِي الدُّنْيَا، وَاسْتَحَقُّوا عَذَابَ الآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ رَفَضُوا الاحْتِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَسَخِرُوا مِنَ المُحْتَسِبِينَ، وَكَرِهُوا النَّاصِحِينَ، وَآذَوْهُمْ وَاحْتَقَرُوهُمْ، وَكَذَبُوا عَلَيْهِمْ، وَأَلَّبُوا العَامَّةَ ضِدَّهُمْ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ يَفْعَلُونَ مَا يَشَاؤُونَ، وَفِي مُجْتَمَعَاتِ المُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَيَا لِخَسَارَتِنَا إِنْ اغْتَرَرْنَا بِكَلامِ المُفْسِدِينَ الأَفَّاكِينَ، وَتَرَكْنَا نُصْحَ النَّاصِحِينَ المُحْتَسِبِينَ!
وَنَبِيُّنَا النَّاصِحُ الأَمِينُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَنَا باحْتِسَابِ بَعْضِنَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِشَاعَةِ المُنَاصَحَةِ فِينَا، وَأَخْذِ الصَّالِحِينَ مِنَّا عَلَى أَيْدِي العُصَاةِ لِلنَّجَاةِ مِنَ العَذَابِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَده، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَان"؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ"؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
إِنَّ الأُمَّةَ لاَ يُنَجِّيهَا صَلاحُ الصَّالِحِينَ مِنْهَا، وَلا اسْتِقَامَتُهُمْ عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلاَ عُكُوفُهُمْ فِي المَسَاجِدِ، وَلاَ لُزُومُهُمُ المَصَاحِفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُصْلِحُونَ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ المُنْكَرِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلَّقَ نَجَاةَ النَّاسِ مِنَ العَذَابِ عَلَى وُجُودِ مُصْلِحِينَ فِيهِمْ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [هود: 117]. وَالأُمَّةُ الَّتِي تَرْفُضُ الاحْتِسَابَ جَدِيرَةٌ بِالعَذَابِ، وَالأُمَّةُ الَّتِي تُحَارِبُ المُحْتَسِبِينَ يَضْعُفُ فِيهَا المُصْلِحُونَ، وَيَتَكَاثَرُ المُفْسِدُونَ حَتَّى تَحُلَّ بِهَا عُقُوبَةُ اللهِ تَعَالَى وَنِقْمَتُهُ وَغَضَبُهُ، فَأَحْيُوا -عِبَادَ اللهِ- شَعِيرَةَ الحِسْبَةِ فِيكُمْ، وَأَعِينُوا المُحْتَسِبِينَ مِنْكُمْ، وَخُذُوا عَلَى أَيْدِي المُفْسِدِينَ؛ لِئَلاَّ يَحُلَّ بِنَا مَا حَلَّ بِالسَّابِقِينَ: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْض إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 123].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: تَسْتَقْبِلُونَ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَفْضَلَ أَيَّامِ السَّنَةِ عَلَى الإِطْلاقِ، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا أُمَّهَاتِ العِبَادَاتِ، وَحَثَّ فِيهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى الإِكْثَارِ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّهُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ -يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ-، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قال: وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ من ذَلِكَ بِشَيْءٍ»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارِمِيِّ: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى...، قَالَ الرَّاوِي: وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ».
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ الله وَلاَ أَحَبُّ إليه الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ، «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاس بِتَكْبِيرِهِمَا»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ مُعَلَّقًا.
وَشُرِعَتِ الأُضْحِيَةُ فِي خَاتِمَتِهَا وَتَاجِهَا يَوْمَ العِيدِ، حَتَّى سُمِّيَ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِكَثْرَةِ مَا يُنْهَرُ فِيهِ مِنَ الدِّمَاء تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى.
وَمَنْ كَانَ فِي نِيَّتِهِ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ مِنْ أَوَّلِ لَيَالِي العَشْرِ؛ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلاَ يَأْخُذَنَّ شَعْرًا ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَاعْمَلُوا خَيْرًا، وَأَرُوا اللهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا تَجِدُوا خَيْرًا، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.
المرفقات
الحسبة والمحتسبون 7.doc
الحسبة والمحتسبون 7.doc
الحِسْبَة وَالمُحْتَسِبُون 7.doc
الحِسْبَة وَالمُحْتَسِبُون 7.doc
المشاهدات 4119 | التعليقات 7
شكر الله لك شيخنا ووفقك وسددك
جزاك ربي الجنة على هذه الكلمات النيرة أسأل الله أن يجعلها رفعة لك في الدنيا والآخرة
نفع الله بكم فضيلة شيخنا الجليل على خطبك القيمة النافعة
وزادكم علماً ورفعةً
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله كل خير ونفع بك
شكر الله تعالى لكم إخواني الكرام مروركم وتعليقكم، واستجاب دعاءكم، واستعملني وإياكم في ما يرضيه وجنبنا ما يسخطه.
رفعتها لطلب بعض الإخوة
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
خطبة موفقة معنى ومضمونا ومناسبة فهل من مدكر ؟ بورك فيك شيخنا وبكل المعلقين والمشاركين
تعديل التعليق