مجاعة مصر (1)
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
تم تعديل هذه الخطبة واستبدال المعدل بها، وتجدون الخطبة المعدلة في التعليقات في الأسفل، فتكون المعدلة هي المعتمدة
الجوع والمجاعات (3)
مجاعة مصر (1)
13/8/1437
الْحَمْدُ للهِ الْكَبِيرِ المُتَعَالِ، الْكَرِيمِ المَنَّانِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا؛ فَنِعَمُهُ مُتَتَابِعَةٌ، وَمِنَنُهُ مُتَرَادِفَةٌ، وَإِحْسَانُهُ لَا يُحْصِيهِ عَدٌّ، وَلَا يَحُدُّهُ حَدٌّ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَمَرَنَا بِشُكْرِ نِعْمَتِهِ، وَحَذَّرَنَا مِنْ مَكْرِهِ وَنِقْمَتِهِ {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَلَّنَا عَلَى مَا يُنْجِينَا، وَحَذَّرَنَا مِمَّا يُوبِقُنَا وَيُهْلِكُنَا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ فَلَا تَعْصُوهُ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].
أَيُّهَا النَّاسُ: قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الْقَصَصَ وَالْأَخْبَارَ، وَأَمَرَنَا بِالْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ} [النمل: 69] وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ عَلَى أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَخْبَارَ مَنْ قَبْلَهُمْ لِيَعْتَبِرُوا وَيَنْتَفِعُوا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يُصْبِحَ مَا يَقُومُ إِلَّا إِلَى عُظْمِ صَلَاةٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: وَهَذِهِ قِطْعَةٌ تَارِيخِيَّةٌ مُفْزِعَةٌ، تَحْكِي حَدَثًا وَقَعَ بِمِصْرَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ السَّادِسِ، أَيْ: قَبْلَ ثَمَانِيَةِ قُرُونٍ وَنِصْفٍ تَقْرِيبًا، وَهِيَ مَجَاعَةٌ اجْتَاحَتِ الْبِلَادَ المِصْرِيَّةَ فَأَهْلَكَتِ الْخَلْقَ، وَقَدْ كَتَبَ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنَ المُؤَرِّخِينَ، لَكِنَّ فَقِيهًا وَمُؤَرِّخًا عِرَاقِيًّا حَضَرَهَا بِنَفْسِهِ، وَدَوَّنَهَا بِقَلَمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَحَلَ إِلَى مِصْرَ لِلْأَخْذِ عَنْ عُلَمَائِهَا، فَضَرَبَتْهَا الْمَجَاعَةُ، فَكَتَبَ مَا رَأَى وَمَا سَمِعَ، وَأَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ كَمَا دَوَّنَهُ، إِلَّا أَنَّنِي حَذَفْتُ بَعْضَ المَوَاضِعِ لِلِاخْتِصَارِ، فَلْنَعْتَبِرْ -عِبَادَ اللهِ- بِمَا نَسْمَعُ، وَلْنَحْفَظِ النِّعَمَ مِنَ الزَّوَالِ بِالشُّكْرِ، وَلْنُحَاذِرْ أَنْ يُصِيبَنَا مَا أَصَابَ مَنْ كَانُوا قَبْلَنَا.
يَقُولُ الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ المُؤَرِّخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ ابْنُ اللَّبَّادِ الْبَغْدَادِيُّ: وَدَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ مُفْتَرِسَةً أَسْبَابَ الْحَيَاةِ، وَقَدْ يَئِسَ النَّاسُ مِنْ زِيَادَةِ النِّيلِ، وَارْتَفَعَتِ الْأَسْعَارُ، وَأُقْحِطَتِ الْبِلَادُ، وَأَشْعَرَ أَهْلُهَا الْبَلَاءَ، وَهَرَجُوا مِنْ خَوْفِ الْجُوعِ، وَانْضَوَى أَهْلُ السَّوَادِ وَالرِّيفِ إِلَى أُمَّهَاتِ الْبِلَادِ، وَانْجَلَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الشَّامِ وَالمَغْرِبِ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَمُزِّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَدَخَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ مِنْهُمْ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَاشْتَدَّ بِهِمُ الْجُوعُ، وَوَقَعَ فِيهِمُ المَوْتُ، وَعِنْدَ نُزُولِ الشَّمْسِ الحَمَلَ وَبِئَ الْهَوَاءُ، وَوَقَعَ المَرَضُ وَالمُوتَانُ، وَاشْتَدَّ بِالْفُقَرَاءِ الْجُوعُ حَتَّى أَكَلُوا المِيتَاتِ وَالجِيَفَ وَالْكِلَابَ وَالْبَعْرَ وَالْأَرْوَاثَ، ثُمَّ تَعَدَّوْا ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَكَلُوا صِغَارَ بَنِي آدَمَ، فَكَثِيرًا مَا يُعْثَرُ عَلَيْهِمْ وَمَعَهُمْ صِغَارٌ مَشْوِيُّونَ أَوْ مَطْبُوخُونَ، فَيَأْمُرُ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ بِإِحْرَاقِ الْفَاعِلِ لِذَلِكَ وَالْآكِلِ.
وَرَأَيْتُ صَغِيراً مَشْوِيًّا فِي قُفَّةٍ، وَقَدْ أُحْضِرَ إِلَى دَارِ الْوَالِي وَمَعَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ يَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّهُمَا أَبَوَاهُ، فَأَمَرَ بِإِحْرَاقِهِمَا.
وَوُجِدَ فِي رَمَضَانَ وَبِمِصْرَ رَجُلٌ وَقَدْ جُرِّدَتْ عِظَامُهُ عَنِ اللَّحْمِ، فَأُكِلَ وَبَقِيَ قَفَصًا كَمَا يَفْعَلُ الطَّبَّاخُونَ بِالْغَنَمِ، ... وَحِينَمَا نَشِبَ الْفُقَراءِ فِي أَكْلِ بَنِي آدَمَ كَانَ النَّاسُ يَتَنَاقَلُونَ أَخْبَارَهُمْ وَيُفِيضُونَ فِي ذَلِكَ؛ اسْتِفَظَاعًا لِأَمْرِهِ، وَتَعَجُّبًا مِنْ نُدُورِهِ، ثُمَّ اشْتَدَّ قَرْمُهُمْ إِلَيْهِ، وَاعْتِيَادُهُمْ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ اتَّخَذُوهُ مَعِيشَةً وَمَطِيَّةً وَمُدَّخَرًا، وَتَفَنَّنُوا فِيهِ، وَفَشَا عَنْهُمْ، وَوُجِدَ بِكُلِّ مَكَانٍ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، فَسَقَطَ حِينَئِذٍ التَّعَجُّبُ وَالِاسْتِبْشَاعُ، وَاسْتُهْجِنَ الْكَلَامُ فِيهِ وَالسَّمَاعُ لَهُ.
وَلَقَدْ رَأَيْتُ امْرَأَةً يَسْحَبُهَا الرِّعَاعُ فِي السُّوقِ، وَقَدْ ظُفِرَ مَعَهَا بِصَغِيرٍ مَشْوِيٍّ تَأْكُلُ مِنْهُ، وَأَهْلُ السُّوقِ ذَاهِلُونَ عَنْهَا، وَمُقْبِلُونَ عَلَى شُئُونِهِمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَعْجَبُ لِذَلِكَ أَوْ يُنْكِرُهُ، فَعَادَ تَعَجُّبِي مِنْهُمْ أَشَدَّ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ عَلَى إِحْسَاسِهِمْ حَتَّى صَارَ فِي حُكْمِ المَأْلُوفِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ.
وَرَأَيْتُ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ صَبِيًّا نَحْوَ الرِّهَاقِ مَشْوِيّاً، وَقَدْ أَخَذَ بِهِ شَابَّانِ أَقَرَّا بِقَتْلِهِ وَشَيِّهِ وَأَكْلِ بَعْضِهِ.
وَفِي بَعْضِ اللَّيَالِي بَعْدَ صَلَاةِ المَغْرِبِ كَانَ مَعَ جَارِيَةٍ فَطِيمٌ تُلَاعِبُهُ لِبَعْضِ المَيَاسِيرِ، فَبَيْنَمَا هُوَ إِلَى جَانِبِهَا، اهْتَبَلَتْ غَفْلَتَهَا عَنْهُ صُعْلَوكَةٌ فَبَقَرَتْ بَطْنَهُ، وَجَعَلَتْ تَأْكُلُ مِنْهُ نِيئًا، وَحَكَى لِي عِدَّةُ نِسَاءٍ أَنَّهُ يُتَوَثَّبُ عَلَيْهِنَّ لِاقْتِنَاصِ أَوْلَادِهِنَّ، وَيُحَامِينَ عَنْهُمْ بِجُهْدِهِنَّ.
وَرَأَيْتُ مَعَ امْرَأَةٍ فَطِيمًا لَحِيمًا فَاسْتَحْسَنْتُهُ وَأَوْصَيْتُهَا بِحِفْظِهِ، فَحَكَتْ لِي أَنَّهَا بَيْنَا هِيَ تَمْشِي عَلَى الْخَلِيجِ انْقَضَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ جَافٍ يُنَازِعُهَا وَلَدَهَا، فَتَرَامَتْ عَلَى الْوَلَدِ نَحْوَ الْأَرْضِ، حَتَّى أَدْرَكَهَا فَارِسٌ وَطَرَدَهُ عَنْهَا، وَزَعَمَتْ أَنَّهُ كَانَ يَهُمُّ بِكُلِّ عُضْوٍ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَأَنَّ الْوَلَدَ بَقِيَ مُدَّةً مَرِيضًا لِشِدَّةِ تَجَاذُبِهِ بَيْنَ المَرْأَةِ وَالمُفْتَرِسِ، وَتَجِدُ أَطْفَالَ الْفُقَرَاءِ وَصِبْيَانَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ كَفِيلٌ وَلَا حَارِسٌ مُنْبَثِّينَ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْبِلَادِ، وَأَزِقَّةِ الدُّرُوبِ كَالْجَرَادِ المُنْتَشِرِ، وَرِجَالُ الْفُقَرَاءِ وَنِسَاؤُهُمْ يَتَصَيَّدُونَ هَؤُلَاءِ الصِّغَارَ وَيَتَغَّذَّوْنَ بِهِمْ، وَإِنَّمَا يُعْثَرُ عَلَيْهِمْ فِي النُّدْرَةِ، وَإِذَا لَمْ يُحْسِنُوا التَّحَفُّظَ...
وَلَقَدْ أُحْرِقَ بِمِصْرَ خَاصَّةً فِي أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ ثَلَاثُونَ امْرَأَةً كُلٌّ مِنْهُنَّ تُقِرُّ أَنَّهَا أَكَلَتْ جَمَاعَةً، فَرَأَيْتُ امْرَأَةً قَدْ أُحْضِرَتْ إِلَى الْوَالِي وَفِي عُنُقِهَا طِفْلٌ مَشْوِيٌّ، فَضُرِبَتْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَوْطٍ عَلَى أَنْ تُقِرَّ فَلَا تُحِيرُ جَوَابًا، بَلْ تَجِدُهَا قَدِ انْخَلَعَتْ عَنِ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ ثُمَّ سُحِبَتْ فَمَاتَتْ. وَإِذَا أُحْرِقَ آكِلٌ أَصْبَحَ وَقَدْ صَارَ مَأْكُولًا؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ شِوَاءً، وَيُسْتَغْنَى عَنْ طَبْخِهِ، ثُمَّ فَشَا فِيهِمْ أَكْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى فَنِيَ أَكْثَرُهُمْ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ المَيَاسِيرِ وَالمَسَاتِيرِ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ حَاجَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ اسْتِطَابَةً، وَحَكَى لَنَا رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ لَهُ صَدِيقٌ أَدْقَعَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، فَدَعَاهُ صَدِيقُهُ هَذَا إِلَى مَنْزِلِهِ لِيَأْكُلَ عِنْدَهُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمَا قَبْلُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَجَدَ عِنْدَهُ جَمَاعَةً عَلَيْهِمْ رَثَاثَةُ الْفَقْرِ، وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ طَبِيخٌ كَبِيرُ اللَّحْمِ، وَلَيْسَ مَعَهُ خُبْزٌ، فَرَابَهُ ذَلِكَ، وَطَلَبَ المِرْحَاضَ، فَصَادَفَ عِنْدَهُ خِزَانَةً مَشْحُونَةً بِرِمَمِ الْآدَمِيِّ، وَبِاللَّحْمِ الطَّرِيِّ، فَارْتَاعَ وَخَرَجَ فَارًّا.
وَظَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْخُبَثَاءِ مَنْ يَصِيدُ النَّاسَ بِأَصْنَافِ الْحَبَائِلِ، وَيَجْتَلِبُونَهُمْ إِلَى مَكَانِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْمَخَاتِلِ، وَقَدْ جَرَى ذَلِكَ لِثَلَاثَةٍ مِنَ الْأَطِبَّاءِ مِمَّنْ يَنْتَابُنِي، أَمَّا أَحَدُهُمْ فَإِنَّ أَبَاهُ خَرَجَ فَلَمْ يَرْجِعْ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنَّ امْرَأَةً أَعْطَتْهُ دِرْهَمَيْنِ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهَا إِلَى مَرِيضِهَا، فَلَمَّا تَوَغَّلَتْ بِهِ مَضَايِقَ الطُّرُقِ اسْتَرَابَ وَامْتَنَعَ عَنْهَا، وَشَنَّعَ عَلَيْهَا فَتَرَكَتْ دِرْهَمَيْهَا، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنَّ رَجُلاً اسْتَصْحَبَهُ إِلَى مَرِيضِهِ فِي الشَّارِعِ بِزَعْمِهِ...حَتَّى أَدْخَلَهُ دَارًا خَرِبَةً فَزَادَ اسْتِشْعَارُهُ وَتَوَقَّفَ فِي الدَّرَجِ، وَسَبَقَ الرَّجُلَ فَاسْتَفْتَحَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَفِيقُهُ يَقُولُ لَهُ: هَلْ مَعَ إِبْطَائِكَ حَصَلَ صَيْدٌ يَنْفَعُ؟ فَخَرَجَ الطَّبِيبُ لمَّا سَمِعَ ذَلِكَ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ إِلَى إصْطَبْلٍ مِنْ طَاقَةٍ صَادَفَهَا...فَقَامَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الإِصْطَبْلِ يَسْأَلُهُ عَنْ قَضِيَّتِهِ فَأَخْفَاهَا عَنْهُ خَوْفًا مِنْهُ أَيْضًا، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ حَالَكَ؛ فَإِنَّ أَهْلَ هَذَا الْمَنْزِلِ يَذْبَحُونَ النَّاسَ بِالْحِيَلِ.
وَوُجِدَ بِأَطْفِيحَ – وَهُوَ مَوْضِعٌ فِي الْجِيزَةِ- عِنْدَ عَطَّارٍ عِدَّةُ خَوَابِي مَمْلُوءَةً بِلَحْمِ الْآدَمِيِّ، وَعَلَيْهِ المَاءُ وَالمِلْحُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ عِلَّةِ اتِّخَاذِهِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، فَقَالَ: خِفْتُ إِذَا دَامَ الْجَدْبُ أَنْ يَهْزُلَ النَّاسُ.
وَكَانَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ قَدْ آوَوْا إِلَى الْجِيزَةِ وَتَسَتَّرُوا بِبُيوتِ طِينٍ، يَتَصَيَّدُونَ فِيهَا النَّاسَ، وَفُطِنَ لَهُمْ، وَطُلِبَ قَتْلُهُمْ فَهَرَبُوا، وَوُجِدَ فِي بُيُوتِهِمْ مِنْ عِظَامِ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَخَبَّرَنِي الثِّقَةُ أَنَّ الَّذِي وُجِدَ فِي بِيُوتِهِمْ أَرْبَعُمِائَةِ جُمْجُمَةٍ.
وَمِمَّا شَاعَ وَسُمِعَ مِنْ لَفْظِ الْوَالِي: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْهُ سَافِرَةً مَذْعُورَةً تَذْكُرُ أَنَّهَا قَابِلَةٌ، وَأَنَّ قَوْمًا اسْتَدْعَوْهَا وَقَدَّمُوا لَهَا صَحْنًا فِيهِ سِكْبَاجٌ مُحْكَمُ الصَّنْعَةِ، مُكَمَّلُ التَّوَابِلِ، فَأَلْفَتْهُ كَثِيرَ اللَّحْمِ، مُبَايِنًا اللَّحْمَ المَعْهُودَ، فَتَقَزَّزْتُ مِنْهُ، ثُمَّ وَجَدْتُ خَلْوَةً بِبِنْتٍ صَغِيرَةٍ فَسَأَلَتْهَا عَنِ اللَّحْمِ، فَقَالَتْ: إِنَّهَا فُلَانَةٌ السَّمِينَةُ دَخَلَتْ لِتَزُورَنَا فَذَبَحَهَا أَبِي، وَهَاهِيَ مُعَلَّقَةٌ ... فَقَامَتِ الْقَابِلَةُ إِلَى الْخِزَانَةِ فَوَجَدَتْهَا أَنَابِيرَ لْحْمٍ، فَلَمَّا قَصَّتْ عَلَى الْوَالِي الْقِصَّةَ أَرْسَلَ مَعَهَا مَنْ هَجَمَ الدَّارَ وَأَخَذَ مَنْ فِيهَا ...
وَمِنْ غَرِيبِ مَا حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ الْأَجْنَادِ ذَاتِ مَالٍ وَيَسَارٍ كَانَتْ حَامِلًا وَزَوْجُهَا غَائِبٌ فِي الْخِدْمَةِ، وَكَانَ يُجَاوِرُهَا صَعَالِيكُ، فَشَمَّتْ عِنْدَهُمْ رَائِحَةُ طَبْخٍ فَطَلَبَتْ مِنْهُ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْحُبَالَى، فَأَلْفَتْهُ لَذِيذًا فَاسْتَزَادَتْهُمْ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ نَفِذَ، فَسَأَلَتْهُمْ عَنْ كَيْفِيَّةِ عَمَلِهِ، فَأَسَرُّوا إِلَيْهَا أَنَّهُ لَحْمُ بَنِي آدَمَ، فَوَاطَأَتْهُمْ عَلَى أَنْ يَتَصَيَّدُوا لَهَا الصِّغَارَ وَتُجْزِلُ لَهُمُ الْعَطَاءَ، فَلَمَّا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهَا وَضَرِيَتْ وَغَلَبَتْ عَلَيْهَا الطِّبَاعُ السَّبْعِيَّةُ، وَشَى بِهَا جَوَارِيهَا خَوْفًا مِنْهَا، فَهُجِمَ عَلَيْهَا فَوُجِدَ عِنْدَهَا مِنَ اللَّحْمِ وَالْعِظَامِ مَا يَشْهَدُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، فَحُبِسَتْ مُقَيَّدَةً وَأُرْجِئَ قَتْلُهَا؛ احْتِرَامًا لِزَوْجِهَا، وَإِبْقَاءً عَلَى الْوَلَدِ فِي جَوْفِهَا.
وَلَوْ أَخَذْنَا نَقُصُّ كُلَّ مَا نَرَى وَنَسْمَعُ لَوَقَعْنَا فِي التُّهْمَةِ أَوْ فِي الْهَذَرِ، وَجَمِيعُ مَا حَكَيْنَاهُ مِمَّا شَاهَدْنَاهُ لَمْ نَتَقَصَّدْهُ، وَلَا تَتَبَّعْنَا مَظَانَّهُ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ صَادَفْنَاهُ اتِّفَاقًا، بَلْ كَثِيرًا مَا كُنْتُ أَفِرُّ مِنْ رُؤْيَتِهِ لِبَشَاعَةِ مَنْظَرِهِ.
وَأَمَّا مَنْ يَتَحَيَّنُ ذَلِكَ بِدَارِ الْوَالِي فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْهُ أَصْنَافًا تُحْضَرُ مَعَ آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي قِدْرٍ وَاحِدَةٍ اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ، وَوُجِدَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ قِدْرٌ فِيهَا عَشْرُ أَيْدٍ كَمَا تُطْبَخُ أَكَارِعُ الْغَنَمِ...
وَكَانَ عِنْدَ جَامِعِ ابْنِ طُولُونَ قَوْمٌ يَتَخَطَّفُونَ النَّاسَ، وَوَقَعَ فِي حِبَالَتِهِمْ شَيْخٌ كُتُبِيٌّ بَدِينٌ مِمَّنْ يَتَبَيَّعُنَا الْكُتُبَ، فَأَفْلَتَ... وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَخَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحَكَى لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ اجْتَازَ عَلَى امْرَأَةٍ بِخَرِبَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا مَيِّتٌ قَدْ انْتَفَخَ وَتَفَجَّرَ، وَهِيَ تَأْكُلُ مِنْ أَفْخَادِهِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا فَزَعَمَتْ أَنَّهُ زَوْجُهَا، وَكَثِيرًا مَا يَدَّعِي الْآكِلُ أَنَّ المَأْكُولَ وَلَدُهُ أَوْ زَوْجُهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَرُئِيَ مَعَ عَجُوزٍ صَغِيرٌ تَأْكُلُهُ فَاعْتَذَرَتْ بِأَنْ قَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ وَلَدُ ابْنَتِي وَلَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ مِنِّي، وَلأَنْ آكُلَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْكُلَهُ غَيْرِي. وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا حَتَّى إِنَّكَ لَا تَجِدُ أَحَدًا فِي دِيَارِ مِصْرَ إِلَّا وَقَدْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ... وَمِمَّا شَاعَ أَيْضًا نَبْشُ الْقُبُورِ، وَأَكْلُ المَوْتَى، وَبَيْعُ لَحْمِهِمْ، وَهَذِهِ الْبَلِيَّةُ الَّتِي شَرَحْنَاهَا وُجِدَتْ فِي جَمِيعِ بِلَادِ مِصْرَ، لَيْسَ فِيهَا بَلَدٌ إِلَّا وَقَدْ أُكِلَ فِيهِ النَّاسُ أَكْلًا ذَرِيعًا...
وَخَبَّرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي وَهُوَ تَاجِرٌ مَأْمُونٌ حِينَ وَرَدَ مِنَ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِكَثْرَةِ مَا عَايَنَ بِهَا مِنْ ذَلِكَ، وَأَعْجَبُ مَا حَكَى لِي أَنَّهُ عَايَنَ أَرْؤُسَ خَمْسَةِ صِغَارٍ مَطْبُوخَةً فِي قِدْرٍ وَاحِدَةٍ بِالتَّوَابِلِ الْجَيِّدَةِ، وَهَذَا المِقْدَارُ مِنْ هَذَا الِاقْتِصَاصِ كَافٍ؛ فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ قَدْ أَسْهَبْتُ أَعْتَقِدُ أَنِّي قَدْ قَصَّرْتُ. انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ الْجُوعِ، وَنَسْأَلُهُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَيْسَ لِلنَّاسِ بُدٌّ مِنْ مُجَانَبَةِ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَإِلَّا سُلِبَتْ مِنْهُمُ النِّعَمُ، وَحَلَّتْ بِهِمُ النِّقَمُ، وَأَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ غَيْرَهُمْ.
وَنَحْنُ مُقْبِلُونَ هَذِهِ الْأَيَّامَ عَلَى مَسَارِبَ لِلْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَالْإِنْفَاقِ كَثِيرَةٍ؛ بَدْءًا مِنْ حَفَلَاتِ النَّجَاحِ الَّتِي تُسْتَنْزَفُ فِيهَا الْأَمْوَالُ الطَّائِلَةُ، وَمِنْ كَثْرَتِهَا وَالْإِسْرَافِ فِيهَا انْتَشَرَتْ دَكَاكِينُ المُتَعَهِّدِينَ بِهَا.
وَفِي الْإِجَازَةِ تَكْثُرُ الْأَعْرَاسُ الَّتِي تَوَسَّعَ النَّاسُ فِيهَا كَثِيرًا، حَتَّى أَرْهَقَتِ الشَّبَابَ فَعَجَزُوا عَنْ مَؤُونَةِ الزَّوَاجِ، فَحَفَلَاتٌ لِلْخِطْبَةِ، وَحَفَلَاتٌ لِلْمَلِكَةِ، وَحَفَلَاتٌ لِلزِّفَافِ، وَحَفَلَاتٌ لِمَا بَعْدَ الزِّفَافِ وَلِلْحَمْلِ وَلِلْوِلَادَةِ فِي سِلْسِلَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ المُبَاهَاةِ وَالمُفَاخَرَةِ وَالْإِسْرَافِ. وَكَثِيرًا مَا تَنْتَهِي أَطْعِمَتُهَا إِلَى النُّفَايَاتِ.
وَفِي الْإِجَازَةِ تَكْثُرُ الْأَسْفَارُ، وَيُنْفِقُ النَّاسُ فِيهَا بِلَا حِسَابٍ، بَلْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَدِينُ لِيُسَافِرَ، وَمَعَ تَنَاقُلِ الصِّوَرِ عَبْرَ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ صَارَتِ الْأَسْفَارُ لِلْمُبَاهَاةِ وَالمُفَاخَرَةِ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ السَّفَرُ وَالْإِنْفَاقُ فِي بِلَادِ كُفْرٍ أَوْ فُجُورٍ، وَفِي المُسْلِمِينَ جَوْعَى لَا يَجِدُونَ قُوتَ يَوْمِهِمْ.
وَرَمَضَانُ مُقْبِلٌ، وَالنَّاسُ يُسْرِفُونَ فِي شِرَاءِ أَطْعِمَتِهِ وَلَوَازِمِهِ، حَتَّى صَارَتِ الْأَسْوَاقُ تَرُصُّ أَطْعِمَةَ رَمَضَانَ قَبْلَ أَشْهُرٍ مِنْ حُلُولِهِ، وَكَأَنَّهُ شَهْرُ مُضَاعَفَةِ الْأَطْعِمَةِ وَالْإِنْفَاقِ وَالْإِسْرَافِ، لَا شَهْرَ الصِّيَامِ وَالْعِفَّةِ وَالتَّقْوَى.
فَلْنَتَّقِ اللهَ -عِبَادَ اللهِ- فِي نَفَقَاتِنَا؛ فَإِنَّ بَقَاءَ النِّعَمِ مُرْتَهَنٌ بِشُكْرِهَا، وَإِنَّ كُفْرَهَا سَبَبُ زَوَالِهَا، وَالْإِسْرَافُ يُنَافِي الشُّكْرَ. لِنَعْتَبِرْ بِمَا حَلَّ بِمَنْ كَانُوا قَبْلَنَا، وَبِمَنْ تُنْقَلُ أَخْبَارُهُمْ إِلَيْنَا؛ فَإِنَّ الْجُوعَ مُؤْلِمٌ، وَيُفْقِدُ الْإِنْسَانَ صَوَابَهُ، وَإِذَا حَلَّ الْجُوعُ بِقَوْمٍ أَهْلَكَهُمْ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، وَأَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ وَالْمَجَاعَاتِ، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى دِينِهِ إِلَى أَنْ نَلْقَاهُ. وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
المرفقات
الجوع والمجاعات 3..doc
الجوع والمجاعات 3..doc
الجوع والمجاعات 3-مشكولة.doc
الجوع والمجاعات 3-مشكولة.doc
المشاهدات 2599 | التعليقات 8
أعوذ بالله ..! نسأل الله العافية نسأل الله العافية.
فضيلة الشيخ رغم أن القصة مؤثرة إلا أن إلقاءها على الناس بهذا التفصيل ربما يبعث على التقذر والتقزز الذي لعله يذهب على السامع أثر الخطبة ويشوش قلبه ...!
وجهة نظر .. وجزاك الله خيرا
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
إخوتي الكرام
هذا تعديل لخطبة مجاعة مصر (1) وقد حذفت النص المنقول كاملا عن ابن اللباد، واستبدلته بآخر عنه من نفس كتابه المنقول عنه؛ وذلك لأن النص المنقول أولا غير مناسب لبشاعة ما نقل فيه من أكل الناس بعضهم بعضا بسبب المجاعة -عافانا الله تعالى وإياكم والمسلمين من ذلك- وهذا النص الثاني فيه وصف لانتشار الموت بسبب الجوع، وهو أقل وطأة من الأول.
نسأل الله تعالى أن يوقظ القلوب من غفلتها وسكرتها بمتاع الدنيا.
معتذرا إليكم إخوتي الكرام من ذلك، وشاكرا لمن تعقبوني وناصحوني، سائلا الله تعالى لهم الأجر والمثوبة.
وتكون هذه الخطبة هي المعتمدة للنشر في المواقع دون الأولى، وقد أرفقت نسختين لها بعد التعديل في ملف وورد مشكولة ومهملة، وتجدونها بملفيها عقب هذا التعليق.
شكر الله تعالى لكم
والسلام عليكم
الجوع والمجاعات (3)
مجاعة مصر (1)
13/8/1437
الْحَمْدُ للهِ الْكَبِيرِ المُتَعَالِ، الْكَرِيمِ المَنَّانِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا؛ فَنِعَمُهُ مُتَتَابِعَةٌ، وَمِنَنُهُ مُتَرَادِفَةٌ، وَإِحْسَانُهُ لَا يُحْصِيهِ عَدٌّ، وَلَا يَحُدُّهُ حَدٌّ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَمَرَنَا بِشُكْرِ نِعْمَتِهِ، وَحَذَّرَنَا مِنْ مَكْرِهِ وَنِقْمَتِهِ {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَلَّنَا عَلَى مَا يُنْجِينَا، وَحَذَّرَنَا مِمَّا يُوبِقُنَا وَيُهْلِكُنَا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ فَلَا تَعْصُوهُ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].
أَيُّهَا النَّاسُ: قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الْقَصَصَ وَالْأَخْبَارَ، وَأَمَرَنَا بِالْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ} [النمل: 69] وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ عَلَى أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَخْبَارَ مَنْ قَبْلَهُمْ لِيَعْتَبِرُوا وَيَنْتَفِعُوا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يُصْبِحَ مَا يَقُومُ إِلَّا إِلَى عُظْمِ صَلَاةٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: وَهَذِهِ قِطْعَةٌ تَارِيخِيَّةٌ مُفْزِعَةٌ، تَحْكِي حَدَثًا وَقَعَ بِمِصْرَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ السَّادِسِ، أَيْ: قَبْلَ ثَمَانِيَةِ قُرُونٍ وَنِصْفٍ تَقْرِيبًا، وَهِيَ مَجَاعَةٌ اجْتَاحَتِ الْبِلَادَ المِصْرِيَّةَ فَأَهْلَكَتِ الْخَلْقَ، وَقَدْ كَتَبَ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنَ المُؤَرِّخِينَ، لَكِنَّ فَقِيهًا وَمُؤَرِّخًا عِرَاقِيًّا حَضَرَهَا بِنَفْسِهِ، وَدَوَّنَهَا بِقَلَمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَحَلَ إِلَى مِصْرَ لِلْأَخْذِ عَنْ عُلَمَائِهَا، فَضَرَبَتْهَا الْمَجَاعَةُ، فَكَتَبَ مَا رَأَى وَمَا سَمِعَ، وَأَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ كَمَا دَوَّنَهُ، إِلَّا أَنَّنِي حَذَفْتُ بَعْضَ المَوَاضِعِ لِلِاخْتِصَارِ، فَلْنَعْتَبِرْ -عِبَادَ اللهِ- بِمَا نَسْمَعُ، وَلْنَحْفَظِ النِّعَمَ مِنَ الزَّوَالِ بِالشُّكْرِ، وَلْنُحَاذِرْ أَنْ يُصِيبَنَا مَا أَصَابَ مَنْ كَانُوا قَبْلَنَا.
يَقُولُ الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ المُؤَرِّخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ ابْنُ اللَّبَّادِ الْبَغْدَادِيُّ: «وَدَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ مُفْتَرِسَةً أَسْبَابَ الْحَيَاةِ، وَقَدْ يَئِسَ النَّاسُ مِنْ زِيَادَةِ النِّيلِ، وَارْتَفَعَتِ الْأَسْعَارُ، وَأُقْحِطَتِ الْبِلَادُ، وَأَشْعَرَ أَهْلُهَا الْبَلَاءَ، وَهَرَجُوا مِنْ خَوْفِ الْجُوعِ، وَانْضَوَى أَهْلُ السَّوَادِ وَالرِّيفِ إِلَى أُمَّهَاتِ الْبِلَادِ، وَانْجَلَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الشَّامِ وَالمَغْرِبِ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَمُزِّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَدَخَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ مِنْهُمْ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَاشْتَدَّ بِهِمُ الْجُوعُ، وَوَقَعَ فِيهِمُ المَوْتُ، وَعِنْدَ نُزُولِ الشَّمْسِ الحَمَلَ وَبِئَ الْهَوَاءُ، وَوَقَعَ المَرَضُ وَالمُوتَانُ، وَاشْتَدَّ بِالْفُقَرَاءِ الْجُوعُ حَتَّى أَكَلُوا المِيتَاتِ وَالجِيَفَ وَالْكِلَابَ وَالْبَعْرَ وَالْأَرْوَاثَ...
وَأَمَّا مَوْتُ الْفُقَرَاءِ هُزْالًا وَجُوعًا، فَأَمْرٌ لَا يُطِيقُ عِلْمَهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ مِنْهُ كَالْأُنْمُوذَجِ يَسْتَدِلُّ بِهِ اللَّبِيبُ عَلَى فَظَاعَةِ الْأَمْرِ: فَالَّذِي شَاهَدْنَاهُ بِمِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ وَمَا تَاخَمَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَاشِيَ أَيْنَ كَانَ لَا يَزَالُ يَقَعُ قَدَمُهُ أَوْ بَصَرُهُ عَلَى مَيِّتٍ، وَمَنْ هُوَ فِي السِّيَاقِ، أَوْ عَلَى جَمْعٍ كَثِيرٍ بِهَذَا الْحَالِ، وَكَانَ يُرْفَعُ عَنِ الْقَاهِرَةِ خَاصَّةً إِلَى الْمِيضَأَةِ كُلَّ يَوْمٍ مَا بَيْنَ مِائَةٍ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَأَمَّا مِصْرُ فَلَيْسَ لِمَوْتَاهَا عَدَدٌ وَيُرْمَوْنَ وَلَا يُوَارَوْنَ، ثُمَّ بِأخَرَةٍ عُجِزَ عَنْ رَمْيِهِمْ فَبَقُوا فِي الْأَسْوَاقِ بَيْنَ الْبُيُوتِ وَالدَّكَاكِينِ، وَفِيهَا الْمَيِّتُ مِنْهُمْ قَدْ تَقَطَّعَ، وَإِلَى جَانِبِهِ الشَّوَاءُ وَالْخَبَّازُ وَنَحْوُهُ.
وَأَمَّا الضَّوَاحِي وَالْقُرَى، فَإِنَّهُ هَلَكَ أَهْلُهَا قَاطِبَةً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَبَعْضُهُمُ انْجَلَى عَنْهَا اللَّهُمَّ إِلَّا الْأُمَّهَاتُ وَالْقُرَى الْكِبَارُ... وَإِنَّ الْمُسَافِرَ لَيَمُرُّ بِالْبَلْدَةِ فَلَا يَجِدُ فِيهَا نَافِخَ ضَرَمَةٍ، وَيَجِدُ الْبُيُوتَ مُفَتَّحَةً، وَأَهْلُهَا مَوْتَى مُتَقَابِلِينَ، بَعْضُهُمْ قَدْ رَمَّ، وَبَعْضُهُمْ طَرِيٌّ، وَرُبَّمَا وَجَدَ فِي الْبَيْتِ أَثَاثَهُ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَأْخُذُهُ.
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ كُلٌّ مِنْهُمْ حَكَى مَا يَعْضُّدُ بِهِ قَوْلَ الْآخَرِ، قَالَ أَحَدُهُمْ: دَخَلْنَا مَدِينَةً فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا حَيَوَانًا فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرًا فِي السَّمَاءِ فَتَخَلَّلْنَا الْبُيُوتَ، فَأَلْفَيْنَا أَهْلَهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: 15] فَتَجِدُ سَاكِنِي كُلِّ دَارٍ مَوْتَى فِيهَا، الرَّجُلَ وَزَوْجَتَهُ وَأَوْلَادَهُ، قَالَ: ثُمَّ انْتَقَلْنَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ أَرْبَعُمِائَةِ دُكَّانٍ لِلْحِيَاكَةِ فَوَجَدْنَاهَا كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الْخَرَابِ، وَأَنَّ الْحَائِكَ مَيِّتٌ وَأَهْلُهُ مَوْتَى حَوْلَهُ، فَحَضَرَنِي قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ [يس: 29] قَالَ: ثُمَّ انْتَقَلْنَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فَوَجَدْنَاهُ كَالَّذِي قَبْلَهُ لَيْسَ بِهِ أَنِيسٌ وَهُوَ مَشْجُونٌ بِمَوْتِ أَهْلِهِ...
وَمِنْ عَجِيبِ مَا شَاهَدْتُ أَنِّي كُنْتُ يَوْمًا مُشْرِفًا عَلَى النِّيلِ مَعَ جَمَاعَةٍ فَاجْتَازَ عَلَيْنَا فِي نَحْوِ سَاعَةٍ نَحْوُ عَشَرَةِ مَوْتَى كَأَنَّهُمُ الْقِرَبُ الْمَنْفُوخَةُ، هَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ نَتَصَدَّى لِرُؤْيَتِهِمْ، وَلَا أَحَطْنَا بِعُرْضِ الْبَحْرِ، وَفِي غَدِ ذَلِكَ الْيَوْمِ رَكِبْنَا سَفِينَةً فَرَأَيْنَا أَشْلَاءَ الْمَوْتَى فِي الْخَلِيجِ، وَسَائِرِ الشُّطُوطِ ... وَأَمَّا طَرِيقُ الشَّامِ فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّهَا صَارَتْ مَزْرَعَةً لِبَنِي آدَمَ ... وَكَثِيرًا مَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمَلَّصُ مِنْ صِبْيَتِهَا فِي الزِّحَامِ فَيَتَضَوَّرُونَ حَتَّى يَمُوتُوا. وَأَمَّا بَيْعُ الْأَحْرَارِ فَشَاعَ وَذَاعَ عِنْدَ مَنْ لَا يُرَاقِبُ اللَّهَ... وَسَأَلَتْنِي امْرَأَةٌ أَنْ أَشْتَرِيَ ابْنَتَهَا وَكَانَتْ جَمِيلَةً دُونَ الْبُلُوغِ، بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَعَرَّفْتُهَا أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، فَقَالَتْ: خُذْهَا هَدِيَّةً...
وَأَمَّا خَرَابُ الْبِلَادِ وَالْقُرَى وَخُلُوُّ الْمَسَاكِنِ وَالدَّكَاكِينِ، فَهُوَ مِمَّا يَلْزَمُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الَّتِي اقْتَصَصْنَاهَا، وَنَاهِيكَ أَنَّ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى زُهَاءِ عَشَرَةِ آلَافِ نَسَمَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهَا فَتَرَاهَا دِمْنَه، وَرُبَّمَا وُجِدَ فِيهَا نَفَرٌ وَرُبَّمَا لَمْ يُوجَدْ... حَتَّى أَنَّ الرِّبَاعَ وَالْمَسَاكِنَ وَالدَّكَاكِينَ الَّتِي فِي سُرَّةِ الْقَاهِرَةِ وَخِيَارَهَا أَكْثَرُهَا خَالٍ خَرَابٍ، وَإِنَّ رَبْعًا فِي أَعْمَرِ مَوْضِعٍ بِالْقَاهِرَةِ فِيهِ نَيِّفٌ وَخَمْسُونَ بَيْتًا كُلُّهَا خَالِيَةٌ سِوَى أَرْبَعَةِ بُيُوتٍ أُسْكِنَتْ مَنْ يَحْرُسُ الْمَوْضِعَ.
وَلَمْ يَبْقَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقُودٌ فِي تَنَانِيرِهِمْ وَأَفْرَانِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ إِلَّا خَشَبُ السُّقُوفِ وَالْأَبْوَابِ وَالزُّرُوبِ...غَيْرَ أَنَّ الْقُرَى خَالِيَةٌ مِنْ فَلَّاحٍ أَوْ حَرَّاثٍ أَصْلًا فَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الْأَحْقَافِ: 25]، ....
وَمِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُرْجَى الْفَرَجُ وَهُوَ الْمُتِيحُ لِلْخَيْرِ بِمَنِّهِ وَجُودِهِ.
ثُمَّ تَكَلَّمَ عَنِ السَنَةِ التِي بَعْدَهَا فَقَالَ: وَدَخَلَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَحْوَالُ الَّتِي شَرَحْنَاهَا فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ عَلَى ذَلِكَ النِّظَامِ أَوْ فِي تَزَايُدٍ، إِلَى زُهَاءِ نِصْفِهَا فَتَنَاقَصَ مَوْتُ الْفُقَرَاءِ لِقِلَّتِهِمْ لَا لِارْتِفَاعِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ ...
وَقَلَّ خَطْفُ الْأَطْعِمَةِ مِنَ الْأَسْوَاقِ؛ وَذَلِكَ لِفَنَاءِ الصَّعَالِيكِ وَقِلَّتِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَانْحَطَّتِ الْأَسْعَارُ ... لِقِلَّةِ الْآكِلِينَ لَا لِكَثْرَةِ الْمَأْكُولِ، وَصَفَتِ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا، وَاخْتُصِرَتْ وَاخْتُصِرَ جَمِيعُ مَا فِيهَا عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَأَلِفَ النَّاسُ الْبَلَاءَ...
وَحُكِيَ لِي أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرَ تِسْعُمِائَةِ مُنْسِجٍ لِلْحُصُرِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا خَمْسَةَ عَشَرَ مُنْسِجًا، وَقِسْ عَلَى هَذَا سَائِرَ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَاعَةٍ وَخَبَّازِينَ وَعَطَّارِينَ وَأَسَاكِفَةٍ وَخَيَّاطِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَصْنَافِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا نَحْوُ مَا بَقِيَ مِنَ الْحُصُرِيِّينَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الدَّجَاجُ فَعَدِمَ رَأْسًا لَوْلَا أَنَّهُ جُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الشَّامِ... وَلَمَّا وَجَدَ الْبَيْضَ بِيعَ بَيْضَةً بِدِرْهَمٍ ...وَأَمَّا الْفَرَارِيجُ فَبِيعَ الْفَرُّوجُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَأَمَّا الْأَفْرَانُ فَإِنَّهَا تُوقَدُ بِأَخْشَابِ الدُّورِ، فَيَشْتَرِي الْفَرَّانُ الدَّارَ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ وَيَقُدُّ زُرُوبَهُ وَأَخْشَابَهُ أَيَّامًا... وَكَثِيرًا مَا تُقْفِرُ الدَّارُ بِمَالِكِهَا وَلَا يَجِدُ لَهَا مُشْتَرِيًا فَيَفْصِلُ أَخْشَابَهَا وَأَبْوَابَهَا وَسَائِرَ آلَاتِهَا فَيَبِيعُهَا ثُمَّ يَطْرَحُهَا مَهْدُومَةً ...ثُمَّ ذَكَرَ عِدَةَ مُدُنٍ خَلَتْ، قَالَ: فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا أَنِيسٌ، وَإِنَّمَا تَرَى مَسَاكِنَهُمْ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، وَكَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا مَوْتَى فِيهَا....
وَأَمَّا الضَّوَاحِي وَسَائِرُ الْبِلَادِ فَيَبَابٌ رَأْسًا، حَتَّى إِنَّ الْمُسَافِرَ يَسِيرُ فِي كُلِّ جِهَةٍ أَيَّامًا لَا يُصَادِفُ حَيَوَانًا إِلَّا الرِّمَمَ مَا خَلَا الْبِلَادَ الْكِبَارَ ... فَإِنَّ فِيهَا بَقَايَا، وَأَمَّا مَا عَدَا هَذِهِ وَأَمْثَالُهَا فَإِنَّ الْبَلَدَ الَّذِي كَانَ يَحْتَوِي عَلَى أُلُوفٍ خَالٍ أَوْ كَالْخَالِي. وَأَمَّا الْأَمْلَاكُ ذَوَاتُ الْآجِرِ الْمُعْتَبَرَةُ، فَإِنَّ مُعْظَمَهَا خَلَا...
وَالَّذِي دَخَلَ تَحْتَ الْإِحْصَاءِ مِنَ الْمَوْتَى مِمَّنْ كُفِّنَ وَجَرَى لَهُ اسْمٌ فِي الدِّيوَانِ، وَضَمَّتْهُ الْمِيضَاتُ فِي مُدَّةِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا ...مِائَةُ أَلْفٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ أَلْفًا إِلَّا آحَادًا، وَهَذَا مَعَ كَثْرَتِهِ نَزْرٌ فِي جَنْبِ الَّذِينَ هَلَكُوا فِي دُورِهِمْ، وَفِي أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ، وَأُصُولِ الْحِيطَانِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ نَزْرٌ فِي جَنْبِ مَنْ هَلَكَ بِمِصْرَ وَمَا تَاخَمَهَا، ...فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الطُّرُقِ إِلَّا ذَكَرَ أَنَّهَا مَزْرُوعَةٌ بِالْأَشْلَاءِ وَالرِّمَمِ، وَهَكَذَا مَا سَلَكْتُهُ مِنْهَا.
ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ بِالْفَيُّومِ وَالْغَرْبِيَّةِ وَدِمْيَاطَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَوَتَانٌ عَظِيمٌ، وَوَبَاءٌ شَدِيدٌ لَا سِيَّمَا عِنْدَ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ، فَلَعَلَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْمِحْرَاثِ الْوَاحِدِ عِدَّةُ فَلَّاحِينَ، وَحُكِيَ لَنَا أَنَّ الَّذِينَ بَذَرُوا غَيْرُ الَّذِينَ حَرَثُوا، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ حَصَدُوا.
وَبَاشَرْنَا زِرَاعَةً لِبَعْضِ الرُّؤَسَاءِ، فَأَرْسَلَ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِ الزِّرَاعَةِ، فَجَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِهِمْ أَجْمَعِينَ، فَأَرْسَلَ عِوَضَهُمْ فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ، هَكَذَا مَرَّاتٍ فِي عِدَّةِ جِهَاتٍ، وَسَمِعْنَا مِنَ الثِّقَاتِ عَنِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ صَلَّى يَوْمَ الْجُمْعَةِ عَلَى سَبْعِمِائَةِ جِنَازَةٍ، وَأَنَّ تَرِكَةً وَاحِدَةً انْتَقَلَتْ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ إِلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَارِثًا، ...». انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ الْجُوعِ والمَجَاعَةِ، وَنَسْأَلُهُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَيْسَ لِلنَّاسِ بُدٌّ مِنْ مُجَانَبَةِ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَإِلَّا سُلِبَتْ مِنْهُمُ النِّعَمُ، وَحَلَّتْ بِهِمُ النِّقَمُ، وَأَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ غَيْرَهُمْ.
وَنَحْنُ مُقْبِلُونَ هَذِهِ الْأَيَّامَ عَلَى مَسَارِبَ لِلْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَالْإِنْفَاقِ كَثِيرَةٍ؛ بَدْءًا مِنْ حَفَلَاتِ النَّجَاحِ الَّتِي تُسْتَنْزَفُ فِيهَا الْأَمْوَالُ الطَّائِلَةُ، وَمِنْ كَثْرَتِهَا وَالْإِسْرَافِ فِيهَا انْتَشَرَتْ دَكَاكِينُ المُتَعَهِّدِينَ بِهَا.
وَفِي الْإِجَازَةِ تَكْثُرُ الْأَعْرَاسُ الَّتِي تَوَسَّعَ النَّاسُ فِيهَا كَثِيرًا، حَتَّى أَرْهَقَتِ الشَّبَابَ فَعَجَزُوا عَنْ مَؤُونَةِ الزَّوَاجِ، فَحَفَلَاتٌ لِلْخِطْبَةِ، وَحَفَلَاتٌ لِلْمَلِكَةِ، وَحَفَلَاتٌ لِلزِّفَافِ، وَحَفَلَاتٌ لِمَا بَعْدَ الزِّفَافِ وَلِلْحَمْلِ وَلِلْوِلَادَةِ فِي سِلْسِلَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ المُبَاهَاةِ وَالمُفَاخَرَةِ وَالْإِسْرَافِ. وَكَثِيرًا مَا تَنْتَهِي أَطْعِمَتُهَا إِلَى النُّفَايَاتِ.
وَفِي الْإِجَازَةِ تَكْثُرُ الْأَسْفَارُ، وَيُنْفِقُ النَّاسُ فِيهَا بِلَا حِسَابٍ، بَلْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَدِينُ لِيُسَافِرَ، وَمَعَ تَنَاقُلِ الصِّوَرِ عَبْرَ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ صَارَتِ الْأَسْفَارُ لِلْمُبَاهَاةِ وَالمُفَاخَرَةِ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ السَّفَرُ وَالْإِنْفَاقُ فِي بِلَادِ كُفْرٍ أَوْ فُجُورٍ، وَفِي المُسْلِمِينَ جَوْعَى لَا يَجِدُونَ قُوتَ يَوْمِهِمْ.
وَرَمَضَانُ مُقْبِلٌ، وَالنَّاسُ يُسْرِفُونَ فِي شِرَاءِ أَطْعِمَتِهِ وَلَوَازِمِهِ، حَتَّى صَارَتِ الْأَسْوَاقُ تَرُصُّ أَطْعِمَةَ رَمَضَانَ قَبْلَ أَشْهُرٍ مِنْ حُلُولِهِ، وَكَأَنَّهُ شَهْرُ مُضَاعَفَةِ الْأَطْعِمَةِ وَالْإِنْفَاقِ وَالْإِسْرَافِ، لَا شَهْرَ الصِّيَامِ وَالْعِفَّةِ وَالتَّقْوَى.
فَلْنَتَّقِ اللهَ -عِبَادَ اللهِ- فِي نَفَقَاتِنَا؛ فَإِنَّ بَقَاءَ النِّعَمِ مُرْتَهَنٌ بِشُكْرِهَا، وَإِنَّ كُفْرَهَا سَبَبُ زَوَالِهَا، وَالْإِسْرَافُ يُنَافِي الشُّكْرَ. لِنَعْتَبِرْ بِمَا حَلَّ بِمَنْ كَانُوا قَبْلَنَا، وَبِمَنْ تُنْقَلُ أَخْبَارُهُمْ إِلَيْنَا؛ فَإِنَّ الْجُوعَ مُؤْلِمٌ، وَيُفْقِدُ الْإِنْسَانَ صَوَابَهُ، وَإِذَا حَلَّ الْجُوعُ بِقَوْمٍ أَهْلَكَهُمْ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، وَأَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ وَالْمَجَاعَاتِ، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى دِينِهِ إِلَى أَنْ نَلْقَاهُ. وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
المرفقات
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/3/5/الجوع%20والمجاعات%203%20معدلة.doc
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/3/5/الجوع%20والمجاعات%203%20معدلة.doc
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/3/5/الجوع%20والمجاعات%20معدلة%20غير%20مشكولة.doc
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/3/5/الجوع%20والمجاعات%20معدلة%20غير%20مشكولة.doc
جزاك الله كل خير وأدام عليك الصحة والعافية
بارك الله فيك، ونفع بك.
أحمد السويلم
جزاك الله خيرًا فضيلة الشيخ وكتب أجرك
تعديل التعليق