مثقلات الميزان

عبدالرحمن القحطاني
1444/03/15 - 2022/10/11 19:36PM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾
﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنها زَوجَها وَبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَساءَلونَ بِهِ وَالأَرحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيكُم رَقيبًا﴾
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقولوا قَولًا سَديدًا ۝ يُصلِح لَكُم أَعمالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد فازَ فَوزًا عَظيمًا﴾
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
 
أيهاالمؤمنون:
بعد انقضاء الحساب يوم القيامة يوضع الميزان لوزن أعمال العباد،  قَالَ الإمامُ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا انْقَضَى الْحِسَابُ كَانَ بَعْدَهُ وَزْنُ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ لِلْجَزَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمُحَاسَبَةِ، فَإِنَّ الْمُحَاسَبَةَ لِتَقْرِيرِ الْأَعْمَالِ، وَالْوَزْنَ لِإِظْهَارِ مَقَادِيرِهَا لِيَكُونَ الْجَزَاءُ بحسبها؛
انتهى كلامه رحمه الله.
والميزان هو ميزانّ حقيقيّ له كفتان وله لسان ولو وُزِن فيه السماوات والأرض لوسعت كما أخبر النبي ﷺ ومع ذلك فهو دقيق جداً يظهر مثقال حبة الخردل،  ولا يقدر قدره إلا اللهُ جل وعلا يقول تعالى ﴿وَنَضَعُ المَوازينَ القِسطَ لِيَومِ القِيامَةِ فَلا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئًا وَإِن كانَ مِثقالَ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ أَتَينا بِها وَكَفى بِنا حاسِبينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧]
فلا تطفيف ولا ظلم وإنما عدل ممن قال عن نفسه ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظلِمُ مِثقالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفها وَيُؤتِ مِن لَدُنهُ أَجرًا عَظيمًا﴾ [النساء: ٤٠] أعمالنا التي سجلت في الدنيا توزن في ذلكم الميزان، يقول تعالى في الحديث القدسي (يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا)
توزن الأعمال فإن رجحت كَفتُها فيافوز وفلاح من كانت أعماله وإن خفت أعاذني الله وإياكم فياخسران وهلاك صاحبِها
﴿وَالوَزنُ يَومَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَت مَوازينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ ۝ وَمَن خَفَّت مَوازينُهُ فَأُولئِكَ الَّذينَ خَسِروا أَنفُسَهُم بِما كانوا بِآياتِنا يَظلِمونَ﴾ [الأعراف: ٨-٩]
والمؤمن الفطن الكيس العاقل لابد له أن يحرص على تثقيل هذه الموازين بالأعمال الصالحة مادام في دار العمل،
ومن رحمة الله جل وعلا ولطفه بعباده المؤمنين أن جعل لهم أعمالاً يسيرة ولكنها في الميزان ثقيلة، والمفرط والله هو الذي يغفل عنها أو يتكاسل،
 ومن هذه الأعمال:
قول لا إله إلا الله فإنها أثقل شيء في الميزان
عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ أَفَلَكَ عُذْرٌ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ احْضُرْ وَزْنَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ فَقَالَ إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ ) رواه احمد والترمذي
 
ومنها ماجاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ) رواه البخاري ومسلم
وكذلك ماجاء عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لله تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لله تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ"
 
ومن مثقلات الموازين إتباع الجنازة حتى يفرغَ من دفنها
فقد جاء عَنْ أُبَيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِهِ مِنْ أُحُدٍ ) رواه الإمام أحمد
 
عباد الله:
إذا علم العبد أن حسناتِهِ ستوضعُ في إحدى كَفتي الميزان وتوضع في الكَفة الأخرى سيئاتُهُ، فحري به ألا يفرطَ في حسنةٍ واحدة وأن يتخففَ من سيئاته باجتناب الذنوب، فرُبَّ تسبيحةٍ أو تحميدةٍ ترجحُ كَفة حسناته ورُبَّ كلمةٍ أو معصيةٍ ترجحُ كَفة سيئاته،
والحذرَ الحذرَ عباد الله من الإفلاس في ذلك اليوم فإنه واللهِ الإفلاسُ الحقيقيُ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: ((أتدرون ما المفلس؟))، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمَّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتَم هذا، وقذف هذا، وأكَل مال هذا، وسفَك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيَتْ حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار))؛ رواه مسلم
عباد الله:
لما كانت هذه الذنوب متعلقةً بحقوق الناس، وكان من كمال عدل الله تعالى أنه يعطي كل ذي حق حقه، فإنه لن يتنازل أحد لأحد عن حسنةٍ واحدهٍ في ذلك اليوم الصعب، لأن حقوق الناس مبنية على المشاحة، ولذلك فلا عجب عباد الله إن كان حسن الخلق من أكثرِ ماتثقلُ به الموازين، فإنه يمنع صاحبه من ظلم الناس والتعدي على أعراضهم وحقوقهم، فيحفظ حسناته من أن تعطى لغيره، بل ويضيف إليها حسناتٍ أخرى بكلمته الطيبة، وتبسمه في وجه أخيه، ولين جانبه، وطيب معشره،
فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ ) رواه أبو داود
 
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
 
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة،،،
أقول قولي هذا وأستغفرالله العظيم الجليل لي ولكم  ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
 
 
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً مزيداً إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى،،،
معاشر المسلمين:
إن العملَ على تثقيل كَفة الحسنات ينبغي ألا يجعلْنا نغفلُ عن الكَفة الأخرى، فمن أراد النجاة فلا بد له مع تكثير حسناته أن يتخفف من سيئاته، ومن غفل عن ذنوبه تفاجأ بكثرتِها، والأصل في ذلك تقوى اللهِ جل وعلا بترك الذنوب أولاً،
 
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
 
ثم بمحوها وتكفيرها، وذلك بالإكثار من الاستغفار وتكرار التوبة، والتوبة النصوح لا تمحوا السيئات فحسب بل تنقُلُها بإذن الله تعالى إلى حسنات تُثَقَّل بها الموازينُ يقول تعالى ﴿إِلّا مَن تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفورًا رَحيمًا﴾ [الفرقان: ٧٠]
 
عباد الله:
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وأنعم على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين، أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين ، وعن التابعين، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصُر عبادك الموحِّدين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل تدميره في تدبيره.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لهداك واجعل عمله في رضاك وارزُقه وولي عهده البطانةَ الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه.
اللهم أره الحق حقاً وارزقه اتباعه، وأره الباطل باطلاً وارزقه اجتنابه.
اللهم ادفَع عنَّا الغَلاء والوباء، والربا والزنا والزلازل والمِحَن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصَّة، وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله:
أنَّ الله يأمُر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغْي، يعظُكم لعلَّكم تذكَّرون.
فاذكُروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نِعَمِه يزدْكم، ولَذِكرُ الله أكبر، والله يعلَمُ ما تصنَعون.
 
 
المرفقات

1665506151_مثقلات الميزان.pdf

1665506157_مثقلات الميزان.docx

المشاهدات 806 | التعليقات 0