مثبتات حال الأزمات

ناصر محمد الأحمد
1438/02/29 - 2016/11/29 02:56AM
مثبّتات حال الأزمات
3/3/1438ه
د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :
الحمد لله مُغيثُ اللهفات، فارجُ الكُربات، كاشفُ المحنِ والبليات، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدهُ لا شريك له، ما من دابةٍ في الأرضِ إلاَّ عليه رزقُها ويعلمُ مستقرها ومستودعها، كل ذلك في كتابٍ مبين، لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها. وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، آمن وصَدَق، وجاهدَ وصبر، ونشرَ اللهُ رسالتَه في العالمين، وأوحى إليه ربّه: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (سورة الزخرف 43) وأوحى له ولمن معهُ من المؤمنين: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُون) (سورة هود : 113,112). اللهمَّ صل وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون: من تأملَ العالمَ اليوم، يرى أحداثاً تتسارعُ، وقوى تتصارع، حروبٌ مفتعلة، وتهمٌ باطلة، ظلمٌ وعدوان، شحناءَ وبغضاء، تهديدٌ وإرجاف، هَرَجٌ ومرج، أهدافٌ معلنةٌ وأخرى مُبيَّتة، فُرقةٌ واختلاف، وفتنٌ تموجُ ومستقبلٌ مجهول، يطغى صوتُ الحمقى، ويغيبُ أو يُغيّب صوتُ العُقلاء، وإن كان عقلاءُ العالمِ كلهم قلقين ومُنكرين لهذهِ الحماقات، التي ربّما دمّرت الأخضرَ واليابس، فما حالُ المسلمِ في ظلِّ هذهِ الأزمات المتلاحقة، وهل من مُهدئاتٍ ومبشراتٍ ومثبتات؟.
إنَّ المسلمَ الذي يرتبطُ باللهِ خالقَ الكون ومُدبره، ويعرفُ حقيقةَ الحياةِ الدنيا وطبيعتها، والآخرة ونعيمها، ويؤمنُ بالقدر خيرهِ وشره، ينبغي أن يختلفَ عن غيره، فلا يتعلقُ ولا يضجر، ولا ييأسُ ولا يقنط، وهو وإن أحسّ كغيرهِ بالقلق، وفكّرَ وقدّرَ بالعواقبِ، فثمةَ مُهِّدئاتٍ ومثبتاتٍ إيمانيةٍ تُخففُ من روعه، وتُجيبُ على تساؤلاته، وتمنحهُ الهدوءَ والطمأنينةَ والراحةَ النفسية، بل وتدفعهُ للعملِ المثمرِ والمشاركةِ الإيجابية.
وهذه معاشرَ المسلمين بعض هذهِ المبشرات والمثبتات الإيمانية، نعلمُها ونتعاملُ معها، كلما حدثت أزمةٌ، أو أطلّت فتنة، أو ضاقت علينا أنفسُنا.
المثبت الأول: ترسيخُ مفاهيمُ العقيدة الحقةِ في نفوسنا: من قضايا التوحيدِ والعقيدةِ التي يجبُ ألا تغيبُ عن المؤمنِ أبداً قضيةُ الربُوبية، وإنَّ اللهَ تعالى بيدهِ الأمرُ كلُّه، وإليهِ يَرجعُ الأمرُ كلُّه، فالخلقُ والرزق والإحياءُ والإماتةُ والنفعُ والضرُ والرفعُ والخَفضُ كلهّا بيدِ الله، والخلقُ كلُّهم وعلى مختلفِ رُتبهم وقوتِهم لا يملكونَ من الأمرِ شيئاً: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (سورة الطلاق :3) وهذا صفوةُ الخلقِ يُعلنها حقيقةً إيمانية ويقول وهو الكريمُ على الله: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون) (سورة الأعراف: 188).
المثبت الثاني: ومن توحيدِ الربوبيةِ إلى توحيدِ الأسماءِ والصفات: مُثبت ثانٍ، وتوحيدُ الأسماءِ والصفات هو الإقرارُ بأنَّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيء قدير، وأنَّهُ الحيُ القيومُ، لا تأخذهُ سِنةٌ ولا نوم، لهُ المشيئةُ النافذةُ، والحِكمةُ البالغة، وأنَّهُ سميع ٌ بصيرٌ رءُوفٌ رحيمٌ، على العرش استوى، وعلى الملكِ احتوى، وأنَّهُ الملكُ القدوسُ السلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزٌ الجبارٌ المتكبرٌ، سبحان اللهِ عمَّا يُشركون! إلى غيرِ ذلك من أسماءِ اللهِ الحُسنى، وصفاتِه العُلي. فإنَّ استشعارَ المسلمُ لأسماءِ الله، وتصورهِ لصفاتهِ، يمنحُهُ الرضا بما قضى، والطمأنينةَ بما قدّر، ولما القلقُ واللهُ علّامُ الغيوب، ورحمتُهُ وسعت كلّ شيءٍ، وبيدهِ وحدهُ مفاتيحُ الرحمةِ ومغاليقُها: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (سورة فاطر :2). ولما الخورُ والضجرُ وأزمّةُ الأمورُ كلّها بيدِ الله، فهو العليمُ وهو الحكيمُ، وهو الخبيرُ وهو اللطيفُ، وهو السميعُ البصير، وهو الجبّار القادرُ المتكبر.
المثبت الثالث: صدقِ الدعاء والتضرع لله: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (سورة الأنعام :43) (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) (سورة النمل :62) ومن هدي النبوة قبسٌ ودعاءٌ يُذهب الهمَّ والغمّ، ففي المسندِ وصحيح أبي حاتم، من حديثِ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصابَ عبدٌ همٌّ ولا حزن فقال: "اللهمَّ إنِّي عبدُك ابنُ عبدِك ابن أمتِك، ناصيتي بيديك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميتَ به على نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عنك، أن تجعلَ القرآن ربيعَ قلبي، ونور صدري، وجلاءَ حزني، وذهابَ همِّي وغمي، إلاَّ أذهبَ اللهُ همَّه وغمَّه، وأبدلهُ مكانهُ فرحاً، قالوا: يا رسولَ الله: أفلا نتعلمهنَّ؟ قال: بلى، ينبغي لمن سمعهنَّ أن يتعلَمّهُنَّ". فهلاّ تعلمّن هذا الدعاء بعد سماعه؟ وهلاّ عملنا به؟ وسنجد أثره في حياتنا بإذن الله!.
المثبت الرابع: التفاؤل للمستقبل: وعدمُ حبسِ النفسِ تحت ضغوطِ الواقعِ المؤلم، إذ كثيراً ما يتضايقُ المرءُ ويقلقُ ويضجر، نتيجةَ ما يراهُ حاضراً من أحداثٍ مؤلمةٍ، لكنهُ حين يتجاوزُ الحاضرَ، ويتفاءلُ بالمستقبل، يُري عن نفسهِ ويقودها للعملِ والإنتاج، والبهجةِ والسرور، فالأحزانُ لا تدوم، والضيقُ يعقبهُ الفرج، والصبرُ جسرٌ يعبرُ عليه الصابرون من حالٍ إلى حال، وهذا رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم حين ضاقت على أصحابهِ المهاجر، وجاءُوا إليه يشكُون ما يلقونَ من عنتِ المشركين، وقال قائلُهم: ألا تستنصرُ لنا ألا تدعو لنا؟ فتح لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بابَ الأملِ وبشَّرهم بمستقبلٍ مُشرق، بعد ترويضهم بالصبرِ واليقين: "والله ليتمنّ اللهُ هذا الأمر حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخافُ إلاَّ الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
المثبت الخامس: كثرةُ العبادةِ والاستمرارُ على الطاعة: إذا الأنفسُ تُشغل، والقلوبُ تضعف، والذهنُ يتشتتُ، ورُبما انشغل بعضُ الناسِ بالقيلِ والقال، وفَترَ عن عبادةِ ربَه، والمؤمنُ الذي يُداوي ذلك بكثرةِ العبادةِ لا شكَّ مُوفقٌ مروِّضٌ لنفسه، ولهذا يحثُّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى العبادةِ في الهرجِ، وعظّمَ أمرها فقال: "العبادةُ في الهرج كهجرة إلىّ". وفي الحديث الآخر: "بادروا بالأعمال فتناً كقطعِ الليل المظلم، يصبحُ الرجلُ مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبحُ كافراً، يبيعُ دينهُ بعرضٍ من الدنيا" والحديثان رواهما الإمام مسلم. ولا ريب معاشرَ المسلمين أنَّ من فعلَ ما يوعظُ به أنّسهُ اللهُ وثبّتهُ الله: (ولو أنَّهم فعلوا ما يُعظون به لكان خيراً لهم وأشدّ تثبيتا) [ النساء : 66].
المثبت السادس: الدعوةُ إلى الله: فلاحٌ ومثبّت إيجابي في الأزماتِ كذلك، بل مفتاحٌ لحلّها بإذنِ الله، وفي ذلك إشغالٌ للنفسِ بما ينفع. إنَّ الفارغَ من العملِ المثمرِ يقضي وقتَه بالتفكيرِ والتحسُّرِ السلبي، لكن إذا صرفَ همّتهُ للدعوةِ ونفعِ الناس، نفعَه الله ونفع الناسَ به، ومن تأملَ سيرةَ النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معهُ، وجدهم في أشدّ الضيقِ والأذى يُمارسُون الدعوةَ إلى اللهِ، وعجبت قريشٌ وهي تضايقهم، وأفرادٌ من المعدودينَ منهم يستجيبون للدعوة، وينضَّمون لقافلةِ المؤمنين، ومن أبرزِ هؤلاءِ حمزةُ وعمرُ بن الخطاب، وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين، بل ومن خارجِ مكة. فهل يا تُرى ينشطُ المسلمون في الدعوةِ إلى اللهِ، وفي وقتِ الأزماتِ خاصةً، ليغيظوا الكفَّار والمنافقين من جانب، وليطردوا عن أنفسهمُ الضيقُ والضجر واليأسُ والإحباطُ من جانبٍ آخر؟! وينشروا الخير ويضاعفوا من أعدادِ المسلمين.
المثبت السابع: الصدقةُ والإحسانُ: سبيلٌ لرفعِ الأزماتِ والكروب، كيفَ لا وقد صحَّ الخبرُ: "أنَّ صنائعَ المعروفِ تقي مصارعَ السُوء، والصدقةُ خفياً تُطفي غضبُ الرب، وصلةُ الرحمِ زيادةٌ في العمر، وكلُّ معروفٍ صدقة، وأهلُ المعروفِ في الدنيا هُم أهلُ المعروف في الآخرة". رواه الطبراني في الأوسط.
والصدقةُ برهانٌ على حبِّ الخير، وهي شارحةٌ للصدور، منفِّسةٌ للكروب، مبعدةٌ للشُّح، وفي القرآنِ مُذهبةٌ للخوفِ والحزن: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون) (سورة البقرة :262) الصدقةُ يُداوى بها المرضى، وينتفعُ بها الموتى، ويُتقى بها من الشحِّ والبخل والأثرةِ للأحياء، فإنَّ المتصدقين يُواسون إخوانهم المسلمين، وبها يُداوون مرضاهم ويحسنوا إلى أنفسهم وموتاهم، واللهُ تعالى يجزي المتصدقين، ويخلفُ على المنفقين.

بارك الله ..


الخطبة الثانية :
الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: وحين يكونُ الحديثُ عن ما يعين المسلم ويثبته في الأزماتِ، فإضافة إلى ما سبق:
المثبت الثامن: العلمِ النافع: تعلّما وتعليماً ونشراً، فالعلمُ نورٌ يضيءُ للسالكين، وهو خشيةٌ يقطعُ الخوفُ إلاَّ من ربِّ العالمين، والعلمُ طريقٌ إلى الجنة، وهو سببٌ للأمن والطمأنينة، والعلماءُ الربانيون أعرف الناسِ في الفَتن، وأقدرُهم على تسكينِ الناسِ حين المخاوف والمحن: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (سورة النساء :83). والعلماءُ أعرفُ الناسِ بسننِ اللهِ في الكون، وأعلمُ الناسِ بحركةِ التاريخ ومصائرِ الأمم، ولذا فتعلمُ العلم ونشرُه، والقربُ من العلماءِ ومشورتُهم، كلّ ذلك يعين المسلم في الأزمات، وهو في غيرها من بابِ أولى.
المثبت التاسع: ليس كلُّ ما يُسمعُ بصحيح، فلا بد من التثبتُ في الأخبارِ والتروي: ولوسائلِ الإعلامِ أثرُها في الإرجافِ والتخويفِ، ولا سيما إذا كان العدوُّ مستحوِذاً على المعلومةِ، ينشرُ منها ما يشاء، فاحذروا التهويلَ الإعلامي، ولا تكونوا أداةً للترويج والترويعِ بما لا يصحُّ ولا يثبت، وحَسْبُ المرءِ كذباً أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمع، وفي القرآن تنويهٌ وتوجيه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (سورة الحجرات) توكلوا على اللهِ وآمنوا به، وكونوا كمن قال اللهُ عنهم: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل) (سورة آل عمران : 173 ) فلا تستفزنَّكم الأخبار الكاذبة، ولا يستخفنَّكم الذين لا يُوقنون.
المثبت العاشر: تثمينُ المكاسبِ الحاصلةِ في هذهِ الأزمات: وتقديرُ المنحِ الربانيةِ على إثرِ المحنِ والنكبات، فما من شرٍ صرفٍ، وقد يبتلى اللهُ عبادَهُ بالضراءِ ليعافيهم، ويجزيَهم ويرفع درجاتهم، فضلاً عمَّا يقعُ في هذه النكباتِ من خيرٍ عامٍ للمسلمين، تتوحدُ كلمتُهم، وتتقاربُ قلوبُهم، ويتوبون إلى ربهم، ويدعُونه خوفاً وطمعاً، ويستغفرونهُ سِراً وجهراً، ويصححون مسارهم، ويتفقدونَ مسيرتهم، ويُخططون بوعيٍ لمستقبلهم، وهذهِ المكاسبُ وأمثالهما إذا ثُمّنت ورُوعيت، كانت من أعظمِ وأقوى العلاجاتِ، وفي التنـزيل: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين) (سورة آل عمران :142,141). قال الله تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم) (سورة البقرة : 216).
المثبت الحادي عشر: معرفةُ الأعداءِ على حقيقتهم: والحذرُ منهم، والاستعدادُ لهم، فللأمةِ المسلمةِ أعداءٌ ينكشفون أكثرَ في الأزمات، منهم الظاهرُ بعداوته، ومنهم المنافقُ، وإذا كان خيرُ القرون قيلَ لهم: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين) (سورة آل عمران :166 ) فغيرُهم من بابِ أولى، ففي الأزمات يُميزُ اللهُ الخبيثَ من الطيب، ويتبينُ الصادقُ من الكاذب، وهكذا تستبينُ سبيلُ المجرمين، ويطمأنُ لقضاءِ اللهِ وقدره المؤمنون، وتسكنُ النفوسُ إذ تعرفُ أعداءَها، وتستعدُّ لمقاومتهم.
المثبت الثاني عشر: الوقوفُ على سير الأنبياءِ وجهادِهم وثباتِهم: وما تعرَّض لهُ المؤمنون في تاريخهم، وإدراك سُنَّةِ اللهِ في الابتلاءِ والحكمةِ من ورائها: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين) (سورة العنكبوت : 2,3).
المثبت الثالث عشر: وأخيراً وليس آخراً دونكم هذا المثبّت، فتدبروه ولازموه، إنَّهُ حبلُ الله المتين، وكتابُهُ المبين، هدىً وشفاء، ونورٌ وبرهان، بصائرُ للناس، ورحمةٌ للعالمين: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين) (سورة النحل : 102). قال الله تعالى: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (سورة الفرقان : 32). آهٍ على المسلمين كم ضيعوا كتابَ ربِّهم، وفيه ذكرُهم وتقواهم، وسرُّ تفوقُهم، ودليلُ أعدائهم، كم هجروهُ تلاوةً أو حكماً أو كليهما، وهو المنقذُ لهم في الأزمات، والهادي لمسيرتهم حين تدلهمُ الخُطوبُ، وتحلولكُ الظلمات، يُتلى على مسامعهم صباحَ مساء، ولكنَّ القلوبَ عنهُ شاردة، وكم يتقدمون به في مُناسباتهم، ولكنَّهم يغيبون عنهُ حين أزماتهم، يخافُ منهُ الأعداء ولا يُثمِّنَ المسلمونَ خوفَ الأعداء منه، إنَّهُ كتابٌ مفتوح، يقرأ المسلمون فيه أسبابَ النصر، وعواملَ الهزيمة، وسِرَّ النجاح، وأسبابَ الفشل، ومصدرَ القوةِ، ومكمنَ الخطرِ، ناصحٌ للمؤمنين، ومبشرٌ لهم، ومغيظٌ للكفار، ومتوعدٌ لهم، فهل يتمسكُ المسلمون بالذي أوحيَّ إلى نبيهم؟ وهل يتذكرونَ أنَّهم سيُسألون عنه؟ وهل تكونُ الأزماتُ سبباً لمزيدِ إقبالهم عليه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (سورة محمد :24).
هذه معاشرَ المسلمين بعض المثبتات للمسلم في الأزمات، وهي كذلك أمورٌ إيجابيةٌ في جميع الحالات، إنَّها تثبت ولا تفتِّر، وتُطمأنُ وتُثمر، ولا تدعو للإتكاليةِ والكسل، وهي ليست ظنيةً تُصدِقها التجارب، بل ثابتةً أكيدةَ المفعول، ولكنّ شرطها الإيمانُ والتصديقُ، فخذوها بقوةٍ، ولتكن سنداً للعملِ المثمر في الدنيا وزاداً للآخرة.

اللهم ..
المشاهدات 1209 | التعليقات 0