متى يكون العبد صغيراً؟

شايع بن محمد الغبيشي
1445/06/15 - 2023/12/28 19:16PM

متى يكون العبد صغيراً؟

الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ))

إخوة الإيمان نقف اليوم مع دعاء عظيم مؤثر( وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وعند الله صغيراً )  دعا بها الصحابي الجليل عتبة بن غزوان رضي الله عنه ويرد على هذه الدعوة سؤالان : أحدهما: متى يكون العبد عظيمة عند الله ؟ وقد أجبنا عنه في خطبة ماضية والثاني: متى يكون العبد صغيراً عند الله ؟ وهو موضوع وهو موضع خطبتنا هذا اليوم: متى يكون العبد صغيراً عند الله؟ نعوذ بالله من ذلك: يكون العبد صغيراً عند الله:

أولا: إذا أشرك بالله عز وجل ولم يكن من أهل التوحيد قال تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] وقال جل وعلاك {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18]  إن غاية الضلال والخسران  أن يشرك العبد بربه جل وعلا قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } [النساء: 116] فهل هناك أعظم خسراناً وذلاً وهواناً وصغاراً ممن ينقاد للشيطان حتى يوقعه في الشرك بربه وخالقه ورازقه القائم بأمره والمدبر لشؤونه سبحانه {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء: 119]

ثانياً: يكون العبد صغيراً عند الله إذا هجر القرآن وأعرض عنه وغفل عن ذكر الله قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] قال الإمام السعدي رحمه الله: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فإنهم حرموا خير الدنيا والآخرة، وأعرضوا عمن كل السعادة والفوز في ذكره وعبوديته، وأقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة في الاشتغال به. ([1]) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت» . متفق عليه

ثالثاً: يكون العبد صغيراً عند الله بتضييع فرائض الله عز وجل وخاصة الصلاة فمن ضيعها خسر الدنيا والآخرة وكن مع أصغر خلق الله وأذلهم في الدنيا والآخرة قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } [الحج: 18]

وعن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلي الله عليه وسلم: أنه ذكرَ الصلاةَ يوماً، فقال: "‌من ‌حافظ ‌عليها كانتْ له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لمِ يحافظ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهانٌ ولا نجاةٌ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعونَ وهامانَ وأُبيِّ بن خلفٍ" رواه أحمد وصححه أحمد شاكر، فأي خسران أعظم من خسران من ضيع الصلاة وقطع صلته بالله عز وجل فتقلب في ظلمات الدنيا والآخرة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

رابعاً: يكون العبد صغيراً عند الله مقارفة الذنوب والمعاصي والإصرار عليها فإنها تورث صاحبها الذل والهوان والخيبة والخسارة قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} وعن حُذَيْفَةُ رضي الله قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُوداً عُوداً، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّاً كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ) رواه مسلم، فالذنوب تصيب القلب فيغشاه السواد ولا تزال تنكت فيه السواد حتى يعلوه السواد و توجب له الذل والهوان والوحشة بينه وبين الله وبينه وبين الخلق.قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُمْ وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:

رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا

وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا  ([2])

خامساً: يكون العبد صغيراً عند الله إذا أصابه الكبر فهو أول ذنب عصي الله به فنال به الشيطان الخزي والذل والهوان قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} البقرة: 34

والكبر سبب للحرمان من الجنة فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ) رواه مسلم

عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ» رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه الألبانيز والمستكبر لا ينظر الله إليه يوم القيامة فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم - قال أبو معاوية: ولا ينظر إليهم - ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" رواه مسلم "

الخطبة الثانية:

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ وأشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد ان محمد عبده ورسوله أما بعد: إخوة الإيمان متى يكون العبد صغيراً عند الله:

سادساً: يكون العبد صغيراً عند الله إذا ابتلي بسوء الخلق فيكون مبغوضاً عند الله ورسوله فعن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحبكم إلي و أقربكم مني أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقا ) رواه الطبراني وحسنه الألباني.

ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بربه من سوء الخلق فقال: (واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) رواه مسلم.

قال الأحنف بن قيس: ألا أخبركم بأدوأ الداء؟ قالوا: بلى، قال: الخلق الدنين واللسان البذي
وصدق شوقي إذ يقول:    وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ***  فأقم عليهم مأتما وعويلا

خامساً: يكون العبد صغيراً عند الله إذا كان مبغضاً ومعادياً للعلماء والدعاة والصالحين وأهل الخير:

فالعلماء ورثة الأنبياء والمبلغون عن عز وجل ينشرون الوحي بن الخلق ويذلون الخير للناس فمن عاداهم عاداه الله عز وجل وكان محارباً لله عز وجل فقد قال الله جل وعلا في الحديث القدسي: ( مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ ... ) رواه البخاري

وختاماً عباد الله فإن الطاعات وأعمال البر تجعل العبد عظيماً كبيراً عند الله وعند خلقه، والمعاصي والأثار تجعل العبد صغيراً حقيراً عند الله وعند خلقه ، تأمل قول ابن القيم رحمه الله : الْعَاصِي يَدُسُّ نَفْسَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَيُخْفِي مَكَانَهَا، يَتَوَارَى مِنَ الْخَلْقِ مِنْ سُوءِ مَا يَأْتِي بِهِ، وَقَدِ انْقَمَعَ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَانْقَمَعَ عِنْدَ اللَّهِ، وَانْقَمَعَ عِنْدَ الْخَلْقِ، فَالطَّاعَةُ وَالْبِرُّ تُكَبِّرُ النَّفْسَ وَتُعِزُّهَا وَتُعْلِيهَا، حَتَّى تَصِيرَ أَشْرَفَ شَيْءٍ وَأَكْبَرَهُ، وَأَزْكَاهُ وَأَعْلَاهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ أَذَلُّ شَيْءٍ وَأَحْقَرُهُ وَأَصْغَرُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبِهَذَا الذُّلِّ حَصَلَ لَهَا هَذَا الْعِزُّ وَالشَّرَفُ وَالنُّمُوُّ، فَمَا أَصْغَرَ النُّفُوسَ مِثْلُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَمَا كَبَّرَهَا وَشَرَّفَهَا وَرَفَعَهَا مِثْلُ طَاعَةِ اللَّه ([3]) عبد الله اللهج بهذا العظيم: اللهم إنا أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً يا حي يا قيوم.



([1]) تيسير الكريم الرحمن (ص: 314)

 
([2]) ـ الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي  (ص: 59)
([3]) ـ  الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي  (ص: 78)

المرفقات

1703780166_متى تكون صغيراً؟.pdf

1703780169_متى تكون صغيراً؟.docx

المشاهدات 1217 | التعليقات 0