متى تكون من عجائب الدنيا؟ (الهمة العالية)

سامي بن محمد العمر
1438/01/20 - 2016/10/21 16:06PM
متى تكون من عجائب الدنيا؟
(الهمة العالية)

أما بعد:
ف (قد رأيت بمصر ثلاث عجائب: النيلَ، والأهرامَ، وسعيدَ بن عُفير). القائل: إمام المحدثين يحيى بن معين.
ربما تشوقتم للتعرف على سعيدٍ هذا، فدونكم كتب التراجِم( 1).
ولكن: ما الذي أوصل سعيدَ بن عُفير إلى منزلة ينبهر بها إمام المحدثين يحيى بن معين؟ ما الذي يوصل المرء إلى أن يُقرن بعجائب الدنيا؟
إنها تركيبة من: الإيمانِ بالله، والإخلاصِ له، وعزةِ النفس، ولزومِ الصدق، وإباءِ الضيم، والغيرةِ الصادقة، والتفاؤلِ، والصبرِ والمصابرةِ، وقوةِ الإرادة، وانتهازِ الفرص، واغتنامِ الأوقات، وقِصَرِ الأمل، ومصاحبةِ الأخيار، مع الشجاعةِ والإقدام، والإقبالِ على ما ينفع.
ويقود لذلك أيضاً: تركُ الكسلِ والتكلفِ والتصنعِ، والإغراقِ في المظهريات الجوفاء، والإنهماكِ في الترف، والاشتغالِ بسفاسف الأمور، وتركُ التسويفِ والتأجيلِ، ومجالسةِ السفهاء، وكثرةِ المزاح، وقلةِ الحياء، وتتبعِ العثرات والفرحِ بالزلات.
إنها باختصار (الهمة العالية) : (استصغارُ ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلبُ المراتب السامية)( 2).
** تلك الهمة التي ربَّى الله عليها نبيه صلى الله عليه وسلم فأوصاه - وأمته من بعده - بالاقتداء بأصحاب الهِمَم العالية من الأنبياء والمُرسَلين، فقال: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]. وأمرهم بالتنافس في المعالي: فقال ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148].
وبالتنافس في الطاعات فقال -عز وجل-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) [الحديد:21]، وقال: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ) [الصافات:61]، وقال: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26].
** وربى عليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه:
- فقال صلى الله عليه وسلم : «إن في الجنةِ مائة درجة، أعدَّها الله للمُجاهِدين في سبيلِه، كل درجتين بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتُم اللهَ فاسألُوه الفِردوس؛ فإنه أوسطُ الجنة، وأعلى الجنة، وفوقَه عرشُ الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهارُ الجنة»؛ أخرجه البخاري.
- عن أبي سلمة قال: حدثني ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله لآتيه بوضوئه وحاجته فقال لي: ((سَلْ))، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: ((أوَغير ذلك؟)) قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)).
- عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟)) .
قلتُ: أسألك أن تعلمني مما علمك الله. فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه، حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال: (اجمعها، فصُرها إليك) . فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني( 3).
** وتشربها من بعد ذلك التابعون والعلماء والمصلحون:
- اجتمع عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: "تمنَّوا"، فقالوا: "ابدأ أنت"، فقال: "وِلاية العراق، وتزوُّج سكَِينة ابنة الحسين، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله"، فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم، وجهَّزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يُحمل عنه الحديثُ، فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة، فنالها"، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة( 4).
- وارتحل يحيى بن يحيى الليثي من الأندلس إلى الإمام مالك ولازمه، فبينما هو عنده في مجلسه مع جماعة من أصحابه إذ قال قائل: حضر الفيل، فخرج أصحابُ مالكٍ كلُّهم، ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: ما لك لم تخرج وليس الفيل في بلادك فقال: إنّما جئت من الأندلس لأنظر إليك، وأتعلّم من هديك وعلمك، ولم أكن لأنظر إلى الفيل، فأعجب به مالك، وقال: هذا عاقل الأندلس( 5).
والشواهد على ذلك من تراجِم السلف يصعب حصرها، ويطول المقام بذكرها.

إن عالي الهمة: هو من يعرف قدر نفسه في غير كبرٍ ولا غرور، قد صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تهان، ونزَّهها عن دنايا الأمور، وجنَّبها مواطنَ الذل، بأن يُحمِّلها ما لا تطيق، أو يضعها فيما لا يليق ، فتبقى نفسه في حصنٍ حصينٍ وعزٍّ منيع، لا تعطي الدَّنِية ولا ترضى بالنقص ولا تقنعُ بالدون.
وفي بعض كتب الحكمة: "ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوًّا، كالشعلة من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتَفاعًا"( 6).
يقول ابن الجوزي رحمه الله: " الهمم تَتَفَاوَت فِي جَمِيع الْحَيَوَانَات:
العنكبوتُ من حِين يُولد ينسج لنَفسِهِ بَيْتاً وَلَا يقبل منَّةَ الْأُم، والحية تطلب مَا حفره غَيرهَا إِذْ طبعها الظُّلم.
الْغُرَاب يتبع الْجِيَف، والأسد لَا يَأْكُل البايت، الْكَلْب يُنَضنِضُ( 7) لترمى لَهُ لقْمَة، والفيل يتملق حَتَّى يَأْكُل! ...والخنفساء تطرد فتعود!
الاختبار يظْهر جَوَاهِر الرِّجَال: بعثت بلقيس إِلَى سُلَيْمَان هَدِيَّة لتسبر بهَا قدر همته فَإِن رأتها قَاصِرَة علمت أَنَّهَا لَا تصلح للمعاشرة وَإِن رأتها عالية تطلب مَا هُوَ أَعلَى تيقنت أَنه يصلح.
يَا هَذَا الدُّنْيَا هَدِيَّة بلقيس فَهَل تقبلهَا أَو تطلب مَا هُوَ أنفس؟؟" وَيحك أحسن مَا فِي الدُّنْيَا قَبِيح لِأَنَّهُ يشغل عَمَّا هُوَ أحسن مِنْهُ"(8 ).
أيها الأخ المبارك: إن الهمّة التي تحملها بين جنبيك تحدد قيمتك في سوق الرجال، ومن أصاب همته زكام، فلن يشم رائحة الفضائل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....

الخطبة الثانية
أما بعد: فإننا في كل وقت بحاجة إلى دعم أصحاب الهمم العالية من أبنائنا وبناتنا، والأخذ بأيديهم للرقي والتميز، ونفع دينهم وبلادهم وأنفسهم.
وتذكير الذين صُرفوا منهم عن المعالي، وغُيِّبوا عن الفضائل، وأُبعدوا عن كريم الشمائل، ورضوا بسبلِ الرذائل، بأن عقلاء أمة قد أجمعوا:
" على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة، فاتته الراحة، وأنَّ بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هَمَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلًا، استراح طويلًا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله"( 9). انتهى من كلام ابن القيم رحمه الله.
نَهارُكَ يا مَغْرورُ سَهوٌ وَغَفْلَة ... وَلَيْلُكَ نومٌ والرَّدى لَكَ لازِمُ
وَتَكْدَح فيما سَوْفَ تُنْكِرُ غِبَّهُ ... كَذلكَ في الدُّنيا تعيشُ البهائمُ
تُسَرُّ بما يَفْنى، وَتَفرَحُ بالْمُنَى ... كما غُرَّ باللَّذاتِ في النومِ حالمُ.
أيها الأخ المبارك: تأمل في الحديث الذي له شواهد تحسنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، سخّاب بالأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة)( 10).
والجعظري: الفظ الغليظ المتكبر، وقيل: هو الذي ينتفخ بما ليس عنده وفيه قصر.
والجواظ: الجموع المنوع. وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته.
والسخب والصخب: بمعنى الصياح.
إنَّ من علت همته، وسما قصدُه ومطلبُه، عَلِم يقيناً أن أمته بحاجة إليه، وأن وطنه يتطلع لأن يشرف به.. فلن تراه إذاً في زُمَر الفارغين، وأصحاب اللهو المفرطين ...
ولكنه هناك .. (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)
فاصبروا أنفسكم معهم ..
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) سير أعلام النبلاء (10/ 584)
( 2) تهذيب الأخلاق للجاحظ ص 28، نقلا من الهمة العالية ص16.
( 3) سير أعلام النبلاء (2/ 594) وفي الحاشية: رجاله ثقات، والنمرة: شملة فيها خطوط بيض وسود.
( 4) علو الهمة (ص: 24)
( 5) نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس (2/ 9)
(6 ) علو الهمة (ص: 16)
( 7) نضنض لسانه: حركه . (لسان العرب (7/238)
( 8) المدهش (ص: 169)
( 9) مفتاح دار السعادة ص (366 - 367).
(10 ) صحيح ابن حبان (1/ 274) وفي الحاشية: إسناده صحيح على شرط مسلم.
المشاهدات 1291 | التعليقات 0