مُتْعَةٌ وإستمْتَاعٌ، بلا تَهْلُكَةٍ وإفْسَادٍ (موافقةٌ للتّعميم)
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ الحفيظِ العليمِ، الذي له ملكُ السمواتِ والأرضِ وهو العزيزُ الرحيمُ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الربُّ العظيمُ، والإله الكريمُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه؛ جاءَ بالدينِ القويمِ والشرعِ السليمِ، صلى الله وسلمَ عليه وعلى آله وصحابتِه أهلِ الرضا والتسليمِ، وعلى مَنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الشقاءِ أو النَّعِيْمِ..
أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، فَمَنِ اتقى اللهَ؛ انقادَ وسَلِمَ، وفازَ وغَنِمَ "إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ"
معاشرَ المؤمنينَ: جَبَلَ اللهُ البَشَرَ على حُبِّ السَحابِ والمَطَرِ، وعلى الاستبشارِ بهِ وتناقُلِ أخبارِه وأحْوَالِه قالَ تعالى: "اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون" وقالَ جلَّ شأنُه: "فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا"
جعلَ اللهُ في مشاهدَةِ هطولِ المطرِ، وجريانِ الأوديةِ والشِّعابِ، رغْبَةً لا تُقاومُ، ومُتْعَةً لا توصفُ، وسعادةً لا تُجارى، وفَرَحاً يخْتلجُ القلوبَ والأرْوَاحَ بلا إرادةٍ ولا اختيارِ، وهذا مِنْ معاني الاستبشارِ الفطريِّ الذي ذكرَه اللهُ في القرآنِ، إلّا أنَّ هذا الفرحَ يَجِبُ أنْ يُضبطَ بضوابِطِ الشرعِ الحكيْمِ المطهَّرِ؛ الذي لا تَصْلُحُ حياةُ البشرِ إلا به.
ومِنْ أهمِّ تلكَ الضَّوابطِ: نِسْبَةُ نزولِ المطرِ والغيثِ للهِ ربِّ العالمينَ، قالَ تعالى: "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" وعن زيدِ بنِ خالدٍ الجهنيِّ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: "صَلَّى لَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بالحُدَيْبِيَةِ علَى إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ علَى النَّاسِ، فَقالَ: هلْ تَدْرُونَ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: أصْبَحَ مِن عِبَادِي مُؤْمِنٌ بي وكَافِرٌ، فأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنَا بفَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ، فَذلكَ مُؤْمِنٌ بي وكَافِرٌ بالكَوْكَبِ، وأَمَّا مَن قالَ: بنَوْءِ كَذَا وكَذَا، فَذلكَ كَافِرٌ بي ومُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ" رواهُ البخاريُّ
ومِنْ تلكَ الضَّوابطِ: عدمُ المُخاطرةِ والمُجازَفةِ في عبورِ الأوْديَةِ حالَ جرَيانِها، فهذا العملُ مِنَ إلقاءِ النَّفسِ إلى التَّهْلُكَةِ ولا رَيْبَ؛ فكَمْ ذهبتْ بسببِ هذا التَّهوُّرِ مِنْ أرواحٍ؟! وكَمْ ترمّلتْ مِنْ زوجاتٍ؟! وكَمْ فُجِعَتْ مِنْ أُمّهاتٍ وآباءٍ؟! وكَمْ أشْغلَتْ مِنْ رِجالِ أمْنٍ وسُلُطاتٍ؟! وكَمْ أبْقتْ مِنْ حَسَراتٍ وغُصّاتٍ وعَبْرَاتٍ لا تنقشِعُ ولا تُقْلِعُ أو تَنْقَطِعُ؟! وكَمْ أتلفتْ مِنْ مُمْتلَكاتٍ بآلافٍ مؤلَّفةٍ مِنَ الريالاتِ؟! يقولُ الله تباركَ وتعالى: "وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" قالَ البغويُّ رحمه اللهُ: (وقِيْلَ: التّهْلُكَة؛ ما يُمْكِنُ الاحترازُ، عنه والهَلاكُ: ما لا يُمْكِنُ الاحترازُ عنه) انتهى كلامُه رحمَه اللهُ.
ومثلُ هذه المُخاطرةِ والمُجازفةِ؛ التّساهلُ بالنَّومِ في مجاري الأوديةِ والشِّعَابِ خاصَّةً في أوقاتِ جرينِها، والأيامِ التي تُحذِّرُ فيها الجهاتُ المسؤولةُ المعنيّةُ مِنْ هطولِ الأمطارِ وجريانِ الأوديةِ وتؤكدُ على تجَنُّبِها، وهذه الجهاتُ مُفوَّضةٌ مِنْ وليِّ الأمرِ في هذا الشأنِ، فيجبُ الأخذُ بها بجدِّيَّةٍ، والتّعاملُ معها بواقعيّةٍ، وفي السيرةِ النّبويةِ قصةٌ تدلُّ على أنَّ مخالفةَ وليِّ الأمرِ في مِثْلِ هذا الشأنِ؛ توْقعُ في عواقبَ وخيمَةٍ، ومهَالكَ محقَّقَةٍ، فعنْ أبي حُميْدٍ السّاعديِّ رضي اللهُ عنهُ قالَ: "غَزَوْنَا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ قالَ: أَما إنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فلا يَقُومَنَّ أَحَدٌ، ومَن كانَ معهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ. فَعَقَلْنَاهَا، وهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ، فألْقَتْهُ بجَبَلِ طَيِّئٍ .. إلى آخر الحديثِ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ، وهذا جُزءٌ مِنْ لفظُ البخاريِّ.
ومِنْ تلكَ الضَّوابطِ: المحافظةُ على نباتِ الأرضِ الذي يكسُوها بهاءً وزينةً، ورَوْنَقاً أخَّاذاً، ويُبْقِيها متماسكةً ثابتةً لا تُحرِّكُها الرياحُ، ولا تجرُفُها السيولُ، وتَعْتَاشُ بها البَهَائمُ ودوابُّ الأرضِ وهوَامُّهَا وتَنْتَفِعُ بها؛ إذْ بهذا النَّباتِ قِوَامُها وحيَاتُها، وهذا النّباتُ آيةٌ مِنْ آياتِ اللهِ؛ ضَرَبَ لنا فيه المِثالَ للتّذكُّرِ والاعتبارِ؛ فقالَ سبحانه: "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا" وقالَ سبحانه "إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"
وأشدُّ من إفسادِ نباتِ الأرضِ؛ قطعُ الأشجارِ أو إتلافُها والتعدّي عليها بالتكسيرِ، أو التحْرِيقِ، أو سَكْبِ الموادِ المتلفَةِ لها مِنْ زيوتٍ وغيرِها، وفاعلُ ذلكَ مُعَرَّضٌ للعقوبَةِ والعذابِ؛ عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنْها قالتْ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: " إنَّ الذينَ يَقْطَعُوْنَ السِّدْرَ يُصَبُّوْنَ في النَّارِ على رءوسِهِمْ صَبّاً" رواهُ البيهقيُّ وحسَّنَهُ الألبانيُّ
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسّنَة، ونفعنا بما صرّف فيهما مِنَ العِبَرِ والحكمةِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنّه كانَ غفَّارا.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ الكافي، والشكرُ للهِ الشّافي، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لاشريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبده ورسولُه العبدُ الشكورُ الوافي، صلى الله وسلمَ عليه وعلى آله وصحابتِه ومَنْ تَبِعهم بإحسانٍ بلا صدودٍ ولا تجافٍ ..
أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"
معاشرَ المؤمنينَ: علاقةُ الإنسانِ بالأرضِ علاقةٌ وطيدةٌ، وارتباطُه بها ارتباطٌ وثيقٌ، منها خُلِق، وعليها يعيشُ، وفيها يُدفَنُ، ومنها يُبْعَثُ، ومصالحُ معاشِه كلُّها في الأرضِ ومِنَ الأرضِ، قالَ تعالى: "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ" وقالَ جلَّ شأنُه: "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" وقالَ جلَّ شأنُه: "وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ" وقدْ نهى اللهُ عن الإفسادِ في الأرضِ في آياتٍ كثيرةٍ مِنْ كتابِه العزيزِ، قالَ تعالى: "وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" والحفَاظُ على بيئةِ الأرضِ سليمةً نظيفةً؛ أمانةٌ مِنَ الأماناتِ، ومسؤوليَّةٌ مِنَ المسؤولياتِ.
الأرضُ وبيئتُها ــ عبادَ اللهِ ــ ليستْ لجيلٍ واحدٍ، ولا لأهلِ عصرٍ مِنَ العصورِ، بلْ هيَ للبشريَّةِ على تعاقُبِ أجيالِها، ومرِّ عصورِها، وبقيتْ هذه الأرضُ وبيئتُها نظيفةً سليمةً منذُ خَلَقَها اللهُ حتى عصرنِا الحاضرِ الذي تتعرَّضُ فيه الأرضُ وبيئتُها للتلوُّثِ والإيسَاخِ، وإلقاءِ القَمَائِمِ والزُبالاتِ في وهَادِهَا، وأوديتِها، وفي سُهُولِها، وجبالها، وفي مُنْتَزَهَاتِها وحدائقِها، ولا شكَّ أنَّ هذا ضربٌ مِنْ ضروبِ الإفسادِ في الأرضِ؛ سبَبُه الجهلُ، وضحالةُ التفكيرِ في العواقبِ، وضعفُ الوعيِ والثقافةِ، والخللُ في القُدْوَةِ مِنْ أولادٍ وجيلٍ؛ لمْ يَرَ مِنْ قُدواتِه الحفاظَ على البيئةِ، والحرصَ على نظافتِها، والاهتمامَ بِها وبإصلاحِها.
عبادَ اللهِ: تلويثُ البيئةِ وتوسيخُها وإفسادُها؛ ذنبٌ قدْ يصلُ إلى كبيرةٍ مِنَ الكبائرِ، فعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه: "أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قالَ: اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ قالوا: وَما اللَّعَّانَانِ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: الذي يَتَخَلَّى في طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ في ظِلِّهِمْ" رواه مسلمٌ
وممّا يُفسِدُ البيئةَ ويُعرَّضُها للدّمارِ؛ إشعالُ النِّارِ في كلِّ مكانٍ، وبدونِ احتياطاتٍ ولا التزامٍ بالتعليماتِ، ويزدادُ الخطَرُ حينَ تُتْركُ بلا إخمادٍ عندَ النَّومِ، أو مُغادَرَةِ المكانِ، وهذا ممَّا نهى عنه الشرعُ المطّهَّرُ، عن أبي موسى الأشعريِّ رضيَ الله عنه قالَ: "احْتَرَقَ بَيْتٌ بالمَدِينَةِ علَى أهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ بشَأْنِهِمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ: إنَّ هذِه النَّارَ إنَّما هي عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فأطْفِئُوهَا عَنْكُمْ" رواه البخاريُّ
وبعدُ عبادَ اللهِ: إنَّ الالتزامَ بالأنظمةِ والتعليماتِ التي وَضَعَتْها الدولةُ؛ سلامةٌ لنا ولبيئَتِنا وأرضِنا، فلنتعاون على ذلك فهو من البرِّ والخيرِ، ولنكنْ إيجابيينَ مُصْلِحينَ، نعْمُرُ الأرضَ، ونحفَظُها، ونحتسِبُ ذلكَ عندَ اللهِ.
هذا وصلّوا وسلموا على مَنْ أمركم بالصلاة والسلامِ عليه اللهُ ...