متجددة.. تعظيم الصحابة للأمر والنهي
عبدالله يعقوب
1433/02/18 - 2012/01/12 15:03PM
الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.. نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد...
روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الآيَةَ. وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ أُمَّتِى أُمَّتِى) وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِى أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ). فانظروا رحمكم الله.. إلى هذه الرحمة والشفقة.. من هذا النبي العظيم.. الذي قال فيه ربه تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقال فيه: (وإنك لعلى خلق عظيم). فصلوات ربي وسلامه عليه...
أيها الفضلاء... حديثنا اليوم.. عن أعظم الناس.. براً بنا.. وإحساناً إلينا.. بعد نبينا r.
نعم... إنهم ذلك الجيل.. الذين حملوا هذا الدينَ العظيم.. وبلغوه ونشروه... حتى وصل إلينا خالصاً نقياً من الشوائب والمحدثات. فحقهم التقدير والاحترام، والإجلال والإعظام.
إنهم أصحابُ رسولِ الله r... كانوا أبرَ هذه الأمة قلوباً, وأعمقَها علماً, وأقلَها تكلفاً, وأقومَها هدياً, وأحسنَها حالاً... قومٌ اختارهم اللهُ لصحبةِ نبيه وإقامةِ دينه..
أثنى عليهم القرآنُ الكريم.. قال الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وزكاهم النبيُ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ فقال: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) متفق عليه.
ونهى النبيُ r عن إيذائهم بالقول فضلا عن الفعل، فقال: (لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ) متفق عليه.
فلا يُذكر أصحابُ نبينا محمدٍ r إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ.. فهو على غير السبيل.
أيها الفضلاء... هذه الفضائلُ والمحاسن، والمنازلُ العالية، والرتبُ الرفيعة، التي بلغها أصحابُ نبينا r ورضي عنهم، لها أسبابٌ عديدة. نذكر منها واحداً فقط، تميزوا به عن غيرهم من الناس، فلا يُلحقون فيه ولا يُدركون.
لا نذكره تعجيزاً للناس، وإنما لنبعثَ الهمم، ونحثَ السير في التأسي بهم، والاهتداء بهديهم...
أيها الفضلاء... لقد تميز صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، في سرعة مبادرتهم واستجابتهم لأوامر الشريعة الغراء... لا يتأخرون في الأعمال، ولا يتكاسلون في الامتثال... بل لا يكاد أحدُهم يسمعُ الأمرَ عن الله، أو عن رسوله r، إلا ويُبادر إلى فعله وتطبيقه.. والعنايةِ به...
لقد كان إيمانُهم.. إيمانَ صادقين... وحبُهم.. حبَ حقٍ ويقين.
ومن تأمل سيرَهم، وقرأ أخبارَهم.. رأى أحوالاً ومواقفَ.. تصدِّق ذلك وتؤكده، وتجلّيه واضحاً عياناً.
وسأذكر لكم أيها الكرامُ.. بعضَ غرائبِ الأخبار في ذلك..
عن أَنَسِ بن مالكٍ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ (خمراً) فَجَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا، فَأَهْرَقْتُهَا. متفق عليه.
نعم إنها الخمر... التي أحبوها وألفوها، حتى قالوا فيها القصائدَ الطوال، وأنشدوا فيها الأشعار، وعاشوا عليها دهراً بعيداً.. وزمناً طويلاً، شاب عليها الآباء، وشب في حبها الأبناء.. وعدوها من المفاخر والمآثر.. وباعوا واشتروا وتاجروا.. ومع ذلك.. لما نزل تحريم الخمر.. اهرقوها من دِنانها، وكسروا آنيتها، حتى سالتْ الخمرُ في طُرُقاتِ المدينة، كلُّ ذلك فعلوه لله.. رغبةً في ثوابه.. وخوفاً من عقابه.
فأين نحن من هذا الأدب الرفيع والامتثال السريع.. لأمر الله تعالى..
أخي المسلم.. يا من أكلت الربا.. أو وقعت في الزنا.. أو ابتليت بالتدخين.. أسأل الله أن يعافيك.. اجعل قدوتك هؤلاء الكرام، وتأس بهم في ترك المعصية والاقلاع عنها.. ولا تكن أسيرا ذليلاً لشهواتك وملذاتك...
بل استعن بالله وتوكل عليه وأعلنها توبة وإنابة منذ الآن..
ومتى أخلصت النية لله.. وفقك لترك المعصية.. كما تركها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم... الذين كانوا في سرعة استجابتهم لله ورسوله عجباً من العجب..
هذا هو رسول الله r يجلس على المنبر يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثم يقول للناس: (اجْلِسُوا)، فَسَمِعَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَجَلَسَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ r فَقَالَ: (تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُود). رواه أبو داود عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه.. فتأملوا.. كيف سمع ابنُ مسعود رضي الله عنه أمرَ النبي r وهو خارج المسجد، فبادر إلى الجلوس مباشرة، رغم أنه ليس المقصود بالخطاب.. وخشي إنْ تقدم بعد سماعه للأمر بالجلوس.. أن يكون قد عصى اللهَ ورسوله.. فجلس حين سمع الخطاب وهو خارج المسجد رضي الله عنه وأرضاه.
فأين أنت عبدالله من هذا الأدب العظيم... كم مرةٍ في حياتك.. تسمع نداء الله لكِ بـ (يا أيها الذين آمنوا)... وكم مرةٍ تسمع أوامرَ رسول الله r افعل كذا وافعل كذا... فأين الطاعةُ والامتثال ؟
بل أين كمالُ الحبِ والتعظيمِ لله جل جلاله ؟
وأين حُسْن الاتباعِ للنبي الكريم r ؟
يقول أبو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِى خَلِيلِى بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ. متفق عليه
تأملْ قولَه: (لا أدعهن حتى أموت) مع أنها من نوافل الطاعات.
فأين المحافظةُ على الطاعات والقربات.. السنين الطوال..
وأين المسارعة.. إلى التسليم والامتثال..
وقصة أخرى - أعجب من سابقاتها - في سرعة المبادرة والامتثال لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم..
إنه حَنْظَلَةُ بْنَ أَبِى عَامِرٍ.. رضي الله عنه.. أصبح ذلك اليوم.. ولا أحدٌ أسعدَ منه.. يومٌ لا كالأيام.. يومُ أنسٍ وحبور.. وفرحٍ وسرور... لقد كان يومَ زواجه ودخوله بأهله..
وفي المساء يأتي الخبر... قُتل حنظلةُ شهيداً.. فيا لله.. ما أرفعها من منزلة.
سقط شهيداً في معركة أحد... ولكن.. هل انتهى الأمر ؟ كلا.
فها هنا شهادةٌ عظيمةٌ من النبي r.. تخبر عن خصوصية وميزة لم يشاركه فيها أحد.. نعم.. قَالَها رَسُولُ اللَّهِ r : (إِنَّ صَاحِبَكُمْ تَغْسِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ.. فَاسْأَلُوا صَاحِبَتَهُ)... تغسله الملائكة في صحاف الفضة بين السماء والأرض.. ولم تغسل أحداً سواه.. فيا لله العجب.. ما شأنه وخبره.
سألوا زوجه.. فجاء الخبر العجيب.. قَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ.. لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَةَ (الدعوةَ للقتال). فَقَالَ r: ( لِذَلِكَ غَسَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ). صححه ابن حبان والحاكم.
الله أكبر.. لم يعط حنظلةُ t لنفسه وقتاً ولو يسيراً ليغتسل.. خشية أن يتأخر عن الإجابة لداعي الجهاد.. رضي الله عنه وأرضاه.
فما سرعة استجابتك أنت أيها المسلم لأوامر الله ورسوله r .
ما سرعة استجابتك لأداء الصلاة المفروضة ؟.
ما منزلة بر الوالدين عندك ؟. هل تصل الرحم طاعة لله.. وابتغاء رضوانه.
إن المنازل العالية في الجنة.. لا تنال إلا بالمسارعة إلى طاعة الله ومرضاته.
ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض)، وقال تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض).. فهنيئاً لمن سارع وسابق ونافس.. وشد وجد واجتهد.. فالسباق إلى الله ليس له نهاية إلا في الجنة.. نسأل الله أن يجعلنا ووالدينا من أهل الجنة.
ومع قصة أخرى – عباد الله - من قصص الاستجابة لله..
روى الإمامُ مسلمٌ في صحيحه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وَقَالَ: (يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِى يَدِهِ). فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ r : خُذْ خَاتَمَكَ وانْتَفِعْ بِهِ. قَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ r.
لقد كان للرجل حقٌ في أخذه والانتفاع به.. بيعاً أو إهداءً لو فعل..
ولكنه الإيمانُ الذي يملأ القلب.... ندماً وإشفاقاً من هذا الذنب.
فأين أنتم أيها الناس من هذا الأدب العظيم... وفينا ومنا.. من يأكل الربا، ويقامر، ويأخذُ المال من أي وجه كان، وربما جادل بالباطل، وظلم الناس وخاصة المستضعفين منهم، كالخدم والسائقين.. ولا يبالي. فالله المستعان.
عباد الله.. وموقف آخر.. في الامتثال لأمر الله ورسوله.. موقف لطيف وصغير .. وهو على صغره.. لا يستطيعه كلُّ أحد.. روى أبو داود عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: (لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ). قَالَ نَافِعٌ: فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ.
أرأيتم كيف تكون الاستجابة والامتثال لأمر الله تعالى وأمر رسوله r إلى آخر العمر.
ليست القضيةُ في الدخولِ من بابٍ.. أو تركِ الدخول منه..
وإنما القضية في الاتباع والتأسي حتى في أدق الأمور وأصغرها..
وما ذلك إلا تعظيماً لأمر النبي r واستجابة له..
اللهم اجعلنا من المعظمين لأمر نبيك r ..
المتبعين له.. حباً وإجلالاً وتقديراً.
عباد الله.. وموقف آخر عجيب ... في دوام الامتثال لأمر النبي الحبيب.. صلى الله عليه وسلم...
نعم.. إنها فاطمةُ بنت محمد.. سيدةُ نساء هذه الأمة.. تأتي بيتَ أبيها.. فلا تجده.. وتجد أمَ المؤمنين عائشةَ.. الطاهرةَ المطهرة.. وأخبرتها برغبتها في خادم.. تحمل عنها مؤونة العمل في المنزل..فقد أضناها التعب والمشقة.. وتريد أن ترتاح.. وترفع عائشةُ الأمرَ إلى النبي الكريم.. والأبِ العطوف الرحيم.. r.. فيذهب إلى بيت ابنته فاطمة.. ويجدها مع زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتهيئان للنوم.
فيدخل عليهما.. ويجلس بينهما.. ويدلهما على كنز ثمين.. وباب خير عظيم... أمرهما أن يسبحا الله قبل النوم ثلاثاً وثلاثين... وأن يحمدا الله ثلاثاً وثلاثين.. وأن يكبرا الله أربعاً وثلاثين.. فذلك خير لهما من خادم..
ويخرج عليه الصلاة والسلام... وتمضي الأيام.. وتمر الأعوام..
ويحدِّث عليٌ رضي الله عنه بهذه القصة بعد ثلاثين عاماً أو أكثر..
يحدِّث بها في آخر حياته.. ويبين للناس أمراً مهماً.. وهو أنه لم يترك هذا الذكر على الإطلاق.. فقال له رجل: ولا ليلةَ صفين؟ قال: ولا ليلةَ صفين.
فمن كمال حبه واتباعه وامتثاله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم..
لم يترك هذا الذكر حتى ليلة المعركة العظيمة الهائلة، معركة صفين.. التي وقعت بين مسلمي العراق ومسلمي الشام.. مما يدل على عظمة هذه النفوس.. التي أشربت حباً لنبيها صلى الله عليه وسلم..
أيها الناس.. من طرائف الأخبار في الاستجابة لأمر الله ورسوله r..
أن النَّبِىُّ r لَمَّا رَجَعَ مِنَ الخندق بعد حصارِ الأَحْزَابِ له، أتاه جبريل فقال: يا محمد.. هل وضعتم السلاح؟ لكنا معشر الملائكة ما وضعنا أسلحتنا. قم إلى بني قريظة.. ((وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة وخانوا العهد.. واشتركوا مع المشركين في حصار المسلمين)).
فقال النبي r لأصحابه محفزاً: (لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ).
فَأَدْرَكَتْ بعضَهم صلاةُ العصر في الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِي بني قريظة، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي الآن.. فصلى بعضُهم صلاةَ العصر في وقتها في الطريق. وأخَّر بعضُهم صلاةَ العصر.. فلم يصلوها إلا عندما وصلوا بني قريظة بعد العشاء.. وقد ذُكِرَ له صلى الله عليه وسلم هذا الأمرُ.. فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ. متفق عليه.
هذا الأمر يدلك على شدة امتثالهم لأمره عليه الصلاة والسلام فورياً وحرفياً.. فأين أنتم من هذا معاشر الرجال.. أين أنتم من هذا الامتثال والمبادرة للطاعات والقربات، الذي لم يكن هو حال الرجال فقط، بل كن نساءُ الصحابة رضي الله عنهن كذلك.
فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: (يا أيها النبيُ قُلْ لأزواجك وبناتك ونساءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ) خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنَ الأَكْسِيَةِ. رواه أبو داود.
فالمرأة المسلمة.. الحرة العفيفة الشريفة، أعزها الإسلام بحجابها, وأمرها بستر جمالها ومحاسنها عن الناس... فلماذا تأبى قلة من النساء اليوم إلا نزع الحجاب، والإخلال بهذه الآداب؟؟؟
لقد كان نساءُ الصحابة رضي الله عنهن من أتقى النساء، وأرجحهن عقلاً، وكن في جيل الصفوة والطهر خيرِ القرون, ومع ذلك.. التزمن أمر الله تعالى بالحجاب.
ونحن في هذا الزمن المتأخر.. الذي كثرتْ فيه الفتن.. وكثر فيه أصحابُ الشهوات.. تخلتْ بعضُ النساء عن الحجاب، ولبسن ما لا يليق من الثياب!!
تركن هدي خديجةَ وأمِ سلمةَ وعائشةَ وحفصة.. وتشبهن بالغانيات والساقطات.. والمرأة العاقلة.. لا ترضى لنفسها أن تكون تابعة لامرأة ساقطة.. بل تعتز وتفخر بأنها تنتمي لمدرسة أمهات المؤمنين.. وسيدات نساء العالمين.. رضي الله عن الجميع..
أيها الفضلاء.. هؤلاء هم القوم.. لا يُمل حديثُهم، ولا سماعُ أخبارهم، فهم النور للسالكين، وهم النجوم للسائرين، فبهم نقتدي وعلى دربهم نسير.
فهلا درسنا سيرهم.. وقرأنا أخبارهم.. وطبقنا شيئاً من أحوالهم..
اللهم اجعلنا للخيرات مسارعين مسابقين.. وللمنكرات والمحرمات مجتنبين مبتعدين... واجعلنا من عبادك الصالحين.. ومن أوليائك المتقين.. ومن حزبك المفلحين.. واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.. فتوبوا إليه واستغفروه إنه هو التواب الرحيم
الخطبة الثانية..
أيها الكرام... يحسن التنبيه هنا.. إلى أن من أسباب امتثال الصحابة للأوامر الشرعية.. بهذه الصورة الفذة.. أنهم كانوا إذا سمع أحدهم الآية.. فكأنه هو المخاطب بها دون غيره، وكأنه هو المعني وحده دون سواه..
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم لا يرضون بمجرد الفعل والتطبيق، حتى يبلغ أحدهم من الخير ذروته وأعلاه.. وهذا الامتثال.. هذه الاستجابة.. هذه المبادرة إلى فعل المأمور وترك المحظور.. أمرٌ جليٌ واضحٌ.. كانوا عليه في حياتهم، ولذا أعزّهم الله، ورفع قدرهم، وجعلهم رموزاً يُقتدى بهم.. ومناراتٍ يُهتدى بهم..
ومتى أردنا العزة والرفعة فعلينا أن نعرف لهم حقهم وسابقتهم.. أن نعرف لهم منزلتهم وقدرهم..
أن نحبهم.. ونترضى عليهم.. ونهتدي بهديهم.. ونقتدي بمنهجهم..
اللهم ألحقنا بنبينا r وأنت راضٍ عنا غير غضبان... واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين..
اللهم أذل الشرك والمشركين.. ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر هذا الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد...
روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الآيَةَ. وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ أُمَّتِى أُمَّتِى) وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِى أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ). فانظروا رحمكم الله.. إلى هذه الرحمة والشفقة.. من هذا النبي العظيم.. الذي قال فيه ربه تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقال فيه: (وإنك لعلى خلق عظيم). فصلوات ربي وسلامه عليه...
جزاهُ الله عنـَّا كُلَّ خير ٍ ولاقَتْهُ المسَرَّةُ والسَّلامُ
وأسْكَننا بصُحْبتِهِ جِنانا ً تَحِيَّةُ أهلِها فيها السَّلامُ
أيها الفضلاء... حديثنا اليوم.. عن أعظم الناس.. براً بنا.. وإحساناً إلينا.. بعد نبينا r.
نعم... إنهم ذلك الجيل.. الذين حملوا هذا الدينَ العظيم.. وبلغوه ونشروه... حتى وصل إلينا خالصاً نقياً من الشوائب والمحدثات. فحقهم التقدير والاحترام، والإجلال والإعظام.
إنهم أصحابُ رسولِ الله r... كانوا أبرَ هذه الأمة قلوباً, وأعمقَها علماً, وأقلَها تكلفاً, وأقومَها هدياً, وأحسنَها حالاً... قومٌ اختارهم اللهُ لصحبةِ نبيه وإقامةِ دينه..
أثنى عليهم القرآنُ الكريم.. قال الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وزكاهم النبيُ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ فقال: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) متفق عليه.
ونهى النبيُ r عن إيذائهم بالقول فضلا عن الفعل، فقال: (لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ) متفق عليه.
فلا يُذكر أصحابُ نبينا محمدٍ r إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ.. فهو على غير السبيل.
أيها الفضلاء... هذه الفضائلُ والمحاسن، والمنازلُ العالية، والرتبُ الرفيعة، التي بلغها أصحابُ نبينا r ورضي عنهم، لها أسبابٌ عديدة. نذكر منها واحداً فقط، تميزوا به عن غيرهم من الناس، فلا يُلحقون فيه ولا يُدركون.
لا نذكره تعجيزاً للناس، وإنما لنبعثَ الهمم، ونحثَ السير في التأسي بهم، والاهتداء بهديهم...
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ** إن التشبه بالكرام فلاح
لقد كان إيمانُهم.. إيمانَ صادقين... وحبُهم.. حبَ حقٍ ويقين.
ومن تأمل سيرَهم، وقرأ أخبارَهم.. رأى أحوالاً ومواقفَ.. تصدِّق ذلك وتؤكده، وتجلّيه واضحاً عياناً.
وسأذكر لكم أيها الكرامُ.. بعضَ غرائبِ الأخبار في ذلك..
عن أَنَسِ بن مالكٍ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ (خمراً) فَجَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا، فَأَهْرَقْتُهَا. متفق عليه.
نعم إنها الخمر... التي أحبوها وألفوها، حتى قالوا فيها القصائدَ الطوال، وأنشدوا فيها الأشعار، وعاشوا عليها دهراً بعيداً.. وزمناً طويلاً، شاب عليها الآباء، وشب في حبها الأبناء.. وعدوها من المفاخر والمآثر.. وباعوا واشتروا وتاجروا.. ومع ذلك.. لما نزل تحريم الخمر.. اهرقوها من دِنانها، وكسروا آنيتها، حتى سالتْ الخمرُ في طُرُقاتِ المدينة، كلُّ ذلك فعلوه لله.. رغبةً في ثوابه.. وخوفاً من عقابه.
فأين نحن من هذا الأدب الرفيع والامتثال السريع.. لأمر الله تعالى..
أخي المسلم.. يا من أكلت الربا.. أو وقعت في الزنا.. أو ابتليت بالتدخين.. أسأل الله أن يعافيك.. اجعل قدوتك هؤلاء الكرام، وتأس بهم في ترك المعصية والاقلاع عنها.. ولا تكن أسيرا ذليلاً لشهواتك وملذاتك...
بل استعن بالله وتوكل عليه وأعلنها توبة وإنابة منذ الآن..
ومتى أخلصت النية لله.. وفقك لترك المعصية.. كما تركها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم... الذين كانوا في سرعة استجابتهم لله ورسوله عجباً من العجب..
هذا هو رسول الله r يجلس على المنبر يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثم يقول للناس: (اجْلِسُوا)، فَسَمِعَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَجَلَسَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ r فَقَالَ: (تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُود). رواه أبو داود عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه.. فتأملوا.. كيف سمع ابنُ مسعود رضي الله عنه أمرَ النبي r وهو خارج المسجد، فبادر إلى الجلوس مباشرة، رغم أنه ليس المقصود بالخطاب.. وخشي إنْ تقدم بعد سماعه للأمر بالجلوس.. أن يكون قد عصى اللهَ ورسوله.. فجلس حين سمع الخطاب وهو خارج المسجد رضي الله عنه وأرضاه.
فأين أنت عبدالله من هذا الأدب العظيم... كم مرةٍ في حياتك.. تسمع نداء الله لكِ بـ (يا أيها الذين آمنوا)... وكم مرةٍ تسمع أوامرَ رسول الله r افعل كذا وافعل كذا... فأين الطاعةُ والامتثال ؟
تعصي الإلهَ وأنتَ تزعم حُبَّه هذا لعمرك في القياسِ بديعُ
لو كان حُبُّك صادقاً لأطعته إنَّ المحبَ لمن يُحبُ مُطيعُ
وأين حُسْن الاتباعِ للنبي الكريم r ؟
يقول أبو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِى خَلِيلِى بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ. متفق عليه
تأملْ قولَه: (لا أدعهن حتى أموت) مع أنها من نوافل الطاعات.
فأين المحافظةُ على الطاعات والقربات.. السنين الطوال..
وأين المسارعة.. إلى التسليم والامتثال..
وقصة أخرى - أعجب من سابقاتها - في سرعة المبادرة والامتثال لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم..
إنه حَنْظَلَةُ بْنَ أَبِى عَامِرٍ.. رضي الله عنه.. أصبح ذلك اليوم.. ولا أحدٌ أسعدَ منه.. يومٌ لا كالأيام.. يومُ أنسٍ وحبور.. وفرحٍ وسرور... لقد كان يومَ زواجه ودخوله بأهله..
وفي المساء يأتي الخبر... قُتل حنظلةُ شهيداً.. فيا لله.. ما أرفعها من منزلة.
سقط شهيداً في معركة أحد... ولكن.. هل انتهى الأمر ؟ كلا.
فها هنا شهادةٌ عظيمةٌ من النبي r.. تخبر عن خصوصية وميزة لم يشاركه فيها أحد.. نعم.. قَالَها رَسُولُ اللَّهِ r : (إِنَّ صَاحِبَكُمْ تَغْسِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ.. فَاسْأَلُوا صَاحِبَتَهُ)... تغسله الملائكة في صحاف الفضة بين السماء والأرض.. ولم تغسل أحداً سواه.. فيا لله العجب.. ما شأنه وخبره.
سألوا زوجه.. فجاء الخبر العجيب.. قَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ.. لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَةَ (الدعوةَ للقتال). فَقَالَ r: ( لِذَلِكَ غَسَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ). صححه ابن حبان والحاكم.
الله أكبر.. لم يعط حنظلةُ t لنفسه وقتاً ولو يسيراً ليغتسل.. خشية أن يتأخر عن الإجابة لداعي الجهاد.. رضي الله عنه وأرضاه.
فما سرعة استجابتك أنت أيها المسلم لأوامر الله ورسوله r .
ما سرعة استجابتك لأداء الصلاة المفروضة ؟.
ما منزلة بر الوالدين عندك ؟. هل تصل الرحم طاعة لله.. وابتغاء رضوانه.
إن المنازل العالية في الجنة.. لا تنال إلا بالمسارعة إلى طاعة الله ومرضاته.
ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض)، وقال تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض).. فهنيئاً لمن سارع وسابق ونافس.. وشد وجد واجتهد.. فالسباق إلى الله ليس له نهاية إلا في الجنة.. نسأل الله أن يجعلنا ووالدينا من أهل الجنة.
ومع قصة أخرى – عباد الله - من قصص الاستجابة لله..
روى الإمامُ مسلمٌ في صحيحه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وَقَالَ: (يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِى يَدِهِ). فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ r : خُذْ خَاتَمَكَ وانْتَفِعْ بِهِ. قَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ r.
لقد كان للرجل حقٌ في أخذه والانتفاع به.. بيعاً أو إهداءً لو فعل..
ولكنه الإيمانُ الذي يملأ القلب.... ندماً وإشفاقاً من هذا الذنب.
فأين أنتم أيها الناس من هذا الأدب العظيم... وفينا ومنا.. من يأكل الربا، ويقامر، ويأخذُ المال من أي وجه كان، وربما جادل بالباطل، وظلم الناس وخاصة المستضعفين منهم، كالخدم والسائقين.. ولا يبالي. فالله المستعان.
عباد الله.. وموقف آخر.. في الامتثال لأمر الله ورسوله.. موقف لطيف وصغير .. وهو على صغره.. لا يستطيعه كلُّ أحد.. روى أبو داود عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: (لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ). قَالَ نَافِعٌ: فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ.
أرأيتم كيف تكون الاستجابة والامتثال لأمر الله تعالى وأمر رسوله r إلى آخر العمر.
ليست القضيةُ في الدخولِ من بابٍ.. أو تركِ الدخول منه..
وإنما القضية في الاتباع والتأسي حتى في أدق الأمور وأصغرها..
وما ذلك إلا تعظيماً لأمر النبي r واستجابة له..
اللهم اجعلنا من المعظمين لأمر نبيك r ..
المتبعين له.. حباً وإجلالاً وتقديراً.
عباد الله.. وموقف آخر عجيب ... في دوام الامتثال لأمر النبي الحبيب.. صلى الله عليه وسلم...
نعم.. إنها فاطمةُ بنت محمد.. سيدةُ نساء هذه الأمة.. تأتي بيتَ أبيها.. فلا تجده.. وتجد أمَ المؤمنين عائشةَ.. الطاهرةَ المطهرة.. وأخبرتها برغبتها في خادم.. تحمل عنها مؤونة العمل في المنزل..فقد أضناها التعب والمشقة.. وتريد أن ترتاح.. وترفع عائشةُ الأمرَ إلى النبي الكريم.. والأبِ العطوف الرحيم.. r.. فيذهب إلى بيت ابنته فاطمة.. ويجدها مع زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتهيئان للنوم.
فيدخل عليهما.. ويجلس بينهما.. ويدلهما على كنز ثمين.. وباب خير عظيم... أمرهما أن يسبحا الله قبل النوم ثلاثاً وثلاثين... وأن يحمدا الله ثلاثاً وثلاثين.. وأن يكبرا الله أربعاً وثلاثين.. فذلك خير لهما من خادم..
ويخرج عليه الصلاة والسلام... وتمضي الأيام.. وتمر الأعوام..
ويحدِّث عليٌ رضي الله عنه بهذه القصة بعد ثلاثين عاماً أو أكثر..
يحدِّث بها في آخر حياته.. ويبين للناس أمراً مهماً.. وهو أنه لم يترك هذا الذكر على الإطلاق.. فقال له رجل: ولا ليلةَ صفين؟ قال: ولا ليلةَ صفين.
فمن كمال حبه واتباعه وامتثاله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم..
لم يترك هذا الذكر حتى ليلة المعركة العظيمة الهائلة، معركة صفين.. التي وقعت بين مسلمي العراق ومسلمي الشام.. مما يدل على عظمة هذه النفوس.. التي أشربت حباً لنبيها صلى الله عليه وسلم..
أيها الناس.. من طرائف الأخبار في الاستجابة لأمر الله ورسوله r..
أن النَّبِىُّ r لَمَّا رَجَعَ مِنَ الخندق بعد حصارِ الأَحْزَابِ له، أتاه جبريل فقال: يا محمد.. هل وضعتم السلاح؟ لكنا معشر الملائكة ما وضعنا أسلحتنا. قم إلى بني قريظة.. ((وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة وخانوا العهد.. واشتركوا مع المشركين في حصار المسلمين)).
فقال النبي r لأصحابه محفزاً: (لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ).
فَأَدْرَكَتْ بعضَهم صلاةُ العصر في الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِي بني قريظة، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي الآن.. فصلى بعضُهم صلاةَ العصر في وقتها في الطريق. وأخَّر بعضُهم صلاةَ العصر.. فلم يصلوها إلا عندما وصلوا بني قريظة بعد العشاء.. وقد ذُكِرَ له صلى الله عليه وسلم هذا الأمرُ.. فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ. متفق عليه.
هذا الأمر يدلك على شدة امتثالهم لأمره عليه الصلاة والسلام فورياً وحرفياً.. فأين أنتم من هذا معاشر الرجال.. أين أنتم من هذا الامتثال والمبادرة للطاعات والقربات، الذي لم يكن هو حال الرجال فقط، بل كن نساءُ الصحابة رضي الله عنهن كذلك.
فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: (يا أيها النبيُ قُلْ لأزواجك وبناتك ونساءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ) خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنَ الأَكْسِيَةِ. رواه أبو داود.
فالمرأة المسلمة.. الحرة العفيفة الشريفة، أعزها الإسلام بحجابها, وأمرها بستر جمالها ومحاسنها عن الناس... فلماذا تأبى قلة من النساء اليوم إلا نزع الحجاب، والإخلال بهذه الآداب؟؟؟
لقد كان نساءُ الصحابة رضي الله عنهن من أتقى النساء، وأرجحهن عقلاً، وكن في جيل الصفوة والطهر خيرِ القرون, ومع ذلك.. التزمن أمر الله تعالى بالحجاب.
ونحن في هذا الزمن المتأخر.. الذي كثرتْ فيه الفتن.. وكثر فيه أصحابُ الشهوات.. تخلتْ بعضُ النساء عن الحجاب، ولبسن ما لا يليق من الثياب!!
تركن هدي خديجةَ وأمِ سلمةَ وعائشةَ وحفصة.. وتشبهن بالغانيات والساقطات.. والمرأة العاقلة.. لا ترضى لنفسها أن تكون تابعة لامرأة ساقطة.. بل تعتز وتفخر بأنها تنتمي لمدرسة أمهات المؤمنين.. وسيدات نساء العالمين.. رضي الله عن الجميع..
أيها الفضلاء.. هؤلاء هم القوم.. لا يُمل حديثُهم، ولا سماعُ أخبارهم، فهم النور للسالكين، وهم النجوم للسائرين، فبهم نقتدي وعلى دربهم نسير.
فهلا درسنا سيرهم.. وقرأنا أخبارهم.. وطبقنا شيئاً من أحوالهم..
اللهم اجعلنا للخيرات مسارعين مسابقين.. وللمنكرات والمحرمات مجتنبين مبتعدين... واجعلنا من عبادك الصالحين.. ومن أوليائك المتقين.. ومن حزبك المفلحين.. واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.. فتوبوا إليه واستغفروه إنه هو التواب الرحيم
الخطبة الثانية..
أيها الكرام... يحسن التنبيه هنا.. إلى أن من أسباب امتثال الصحابة للأوامر الشرعية.. بهذه الصورة الفذة.. أنهم كانوا إذا سمع أحدهم الآية.. فكأنه هو المخاطب بها دون غيره، وكأنه هو المعني وحده دون سواه..
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم لا يرضون بمجرد الفعل والتطبيق، حتى يبلغ أحدهم من الخير ذروته وأعلاه.. وهذا الامتثال.. هذه الاستجابة.. هذه المبادرة إلى فعل المأمور وترك المحظور.. أمرٌ جليٌ واضحٌ.. كانوا عليه في حياتهم، ولذا أعزّهم الله، ورفع قدرهم، وجعلهم رموزاً يُقتدى بهم.. ومناراتٍ يُهتدى بهم..
ومتى أردنا العزة والرفعة فعلينا أن نعرف لهم حقهم وسابقتهم.. أن نعرف لهم منزلتهم وقدرهم..
أن نحبهم.. ونترضى عليهم.. ونهتدي بهديهم.. ونقتدي بمنهجهم..
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ
اللهم أعز الإسلام والمسلمين..
اللهم أذل الشرك والمشركين.. ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر هذا الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
المشاهدات 6575 | التعليقات 4
خطبة جميلة ورائعة، كم نحن في حاجة امثلها تأكيدا وتنبها
بارك الله فيك، وجزاك خيرا
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
وبارك الله فيكم ونفع بكم وسدد على طريق الخير خطاكم
وشكر لكم حسن ظنكم بأخيكم
عبدالرحمن اللهيبي
والله رائعة ومؤثرة يا أبا معاذ فتح الله عليك وبارك فيك
تعديل التعليق