مُتَابَعَةُ السِّيرَةِ الشَّرِيفَةِ 7 ذِي القَعْدَةِ 1434 هـ

محمد بن مبارك الشرافي
1434/11/05 - 2013/09/11 15:39PM
مُتَابَعَةُ السِّيرَةِ الشَّرِيفَةِ 7 ذِي القَعْدَةِ 1434 هـ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى أَفْضَلِ رُسُلِهِ وَخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الأَمِين، الْمَبْعُوثِ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ , وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنَ الأَئِمَّةِ الْهُدَاةِ وَالأَتْقِيَاءِ الصَّالِحِين، وَعَلَى كُلِّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّين , وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً .
أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ كُنَّا تَكَلَّمْنَا فِي الْخُطْبَةِ السَّابِقَةِ عَنْ بِدَايَةِ حَيَاةِ رَسُولِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهَا نَحْنُ الْيَوْمَ نُكْمِلُ تِلْكَ السِّيرَةَ الْعَطِرَةَ , فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاةِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ شَقِيقُ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ , ثُمَّ إِنَّ جَدَّهُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَوْصَى بِهِ إِلَيْه , فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الذِي يَلِي أَمْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَاشَ مَعَهُ ، وَكَانَ يُحِبُّهُ حُبَّاً شَدِيدَاً لا يُحِبُّهُ وَلَدَهُ ، وَكَانَ لا يَنَامُ إِلَّا إِلَى جَنْبِهِ ، وَيَخْرُجُ فَيَخْرُجَ بِهِ مَعَهُ .
وَقَدْ وَصَلَتْ بَرْكَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كُلِّ مَنْ خَالَطَهُ , فَكَانَ عِيَالُ أَبِي طَالِبٍ إِذَا أَكَلُوا جَمِيعَاً أَوْ فُرَادَى لَمْ يَشْبَعُوا ، وَإِذَا أَكَلَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبِعُوا , فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ إِذَ أَرَادَ أَنْ يُغَدِّيَهِمْ قَالَ : كَمَا أَنْتُمْ حَتَّى يَأْتِي وَلَدِي , فَيَأْتِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْكُلَ مَعَهُمْ فَكَانُوا يُفْضِلُونَ مِنْ طَعَامِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ لَمْ يَشْبَعُوا ، فَيَقُولُ أَبُو طَالِبٍ : إِنَّكَ لَمُبَارَكٌ ! وَكَانَ الصِّبْيَانُ يُصْبِحُونَ رُمْصَاً شُعْثَاً ، وَيُصْبِحُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَهِينَاً كَحِيلاً !
وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يُقَرِّبُ إِلَى الصِّبْيَانِ صَفْحَتَهُمْ أَوَّلَ الْبُكْرَةِ ، فَيَجْلِسُونَ وَيَنْتَهِبُونَ , وَيَكُفُّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَلا يَنْتَهِبُ مَعَهُمْ , فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمَّهُ عَزَلَ لَهُ طَعَامَهُ عَلَى حِدَة .
أَيُّهَاالْمُؤْمِنُونَ :
ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ فِي رَكْبٍ تَاجِرَاً إِلَى الشَّام ,
فَلَمَّا تَهَيَّأَ لِلرَّحِيلِ وَأَجْمَعَ السَّيْرَ تَعَلَّقَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! فَرَقَّ لَهُ أَبُو طَالِبٍ , وَقَالَ : وَاللهِ لَأَخْرُجَنَّ بِهِ مَعِي وَلا أُفَارِقُهُ وَلا يُفَارِقُنِي أَبَدَاً , فَخَرَجَ بِهِ !
فَلَمَّا نَزَلَ الرَّكْبُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَكَانَ بِهَا رَاهِبٌ يُقَالُ لَهُ: (بَحِيْرَى) فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ , وَكَانَ إِلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ ، وَكَانَتْ قُرَيْشُ كَثِيرَاً مَا يَمُرُّونَ بِهِ فَلا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَعْرِضُ لَهُمْ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ , حَتَّى كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ , فَلَمَّا نَزَلُوا قَرِيبَاً مِنْ صَوْمَعَتِهِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامَاً كَثِيرَاً وَدَعَاهُمْ إِلَيْه , وَذَلِكَ عَنْ شيْءٍ رَآهُ مِنْهُمْ وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ ، فَرَأَى غُلامَاً فِي الرَّكْبِ حِينَ أَقْبَلُوا وَغَمَامَةٌ تُظَلِّلُهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ . وَلَمَّا نَزَلُوا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبَاً مِنْهُ نَظَرَ إِلَى غَمَامَةٍ قَدْ أَظَلَّتْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ , وَالشَّجَرَةُ تَهَصَّرَتْ أَغْصَانُهَا عَلَى ذَلِكَ الْغُلَامِ حَتَّى اسْتَظَلَّ تَحْتَهَا .
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ بَحِيْرَى أَمَرَ بِطَعَامٍ فَصُنِعَ وَنَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ , ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ : إِنِّي صَنَعْتُ لَكُمْ طَعَامَاً يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَحْضُرُوا كُلُّكُمْ ، كَبِيرُكُمْ وَصَغِيرُكُمْ ، عَبْدُكُمْ وَحُرُّكُمْ . فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ : وَاللهِ يَا بَحِيْرَى إِنَّ لَكَ لَشَأْنَاً الْيَوْمَ ! مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا بِنَا , وَقَدْ كُنَّا نَمُرُّ بِكَ كَثِيرَاً فَمَا شَأْنُكَ الْيَوْمَ ؟ قَالَ لَهُ بَحِيْرَى : صَدَقْتَ قَدْ كَانَ مَا تَقُول، وَلَكِنَّكُمْ ضَيْفٌ وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُكْرِمَكُمْ وَأَصْنَعَ لَكُمْ طَعَامَاً فَتَأْكُلُوا مِنْهُ كُلُّكُمْ ... فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ ، وَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ ، لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ فِي رِحَالِ الْقَوْمِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ !
فَلَمَّا حَضَرُوا جَعَلَ بَحِيْرَى يَتَأَمُّلُهُمْ وَيَتَفَحُّصُهُمْ فَلَمْ يَرَ الصِّفَةَ التِي يَعْرِفُ وَيَجِدُهَا عِنْدَهُ ! فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لا يَتَخَلَّفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ طَعَامِي ! قَالُوا : يَا بَحِيْرَى مَا تَخَلَّفَ أَحَدٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَكَ إِلَّا غُلامٌ ، وَهُوَ أَحْدَثُنَا سِنَّاً فَتَخَلَّفَ فِي رِحَالِنَا . قَالَ : لا تَفْعَلُوا !!! ادْعُوهُ فَلْيَحْضُرْ هَذَا الطَّعَامَ مَعَكُمْ !!! فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ الْقَوْمِ : إِنَّ كَانَ لَلُؤْماً بِنَا أَنْ يَتَخَلَّفَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ طَعَامٍ مِنْ بَيْنِنَا !!! ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ وَأَحْضَرَهُ وَأَجْلَسَهُ إِلَى جَنْبِهِ مَعَ الْقَوْمِ !!! فَلَمَّا رَآهُ بَحِيْرَى جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظَاً شَدِيدَاً وَيَنْظُرُ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ ، قَدْ كَانَ يَجِدُهَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْقَوْمُ مِنْ طَعَامِهِمْ وَتَفَرَّقُوا , قَامَ إِلَيْهِ بَحِيْرَى وَقَالَ لَهُ يَا غُلامُ : أَسْأَلُكَ بِحَقِّ اللَّاتِ وَالْعُزَّى إِلَّا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ . وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ بَحِيْرَى ذَلِكَ اخْتَبَارَاً لَهُ , أَوْ لِأَنَّهُ سَمِعَهُمْ يَحْلِفُونَ بِهَا , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ : لا تَسْأَلْنِي بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى شَيْئَاً , فَوَاللهُ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئَاً قَطُّ بُغْضَهُمَا ! فَقَالَ لَهُ بَحِيْرَى : فَبِاللهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ ؟ فَقَالَ لَهُ سَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ !
فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ مِنْ نَوْمِهِ وَهَيْئَتِهِ وَأُمُورِهِ , فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ , فَوَافَقَ ذَلِكَ مَا عِنْدَ بَحِيْرَى مِنْ صِفَتِهِ !!! ثُمَّ نَظَرَ إِلَى ظَهْرِهِ فَرَأَى خاَتَمَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَى الصِّفَةِ التِي عِنْدَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ : مَا هَذَا الْغُلامُ مِنْكَ ؟ قَالَ : ابْنِي قَالَ بَحِيْرَى : مَا هُوَ بِابْنِكَ وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلامِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيَّاً، قَالَ : فَإِنَّهُ ابْنُ أَخِي ! قَالَ فَمَا فَعَلَ أَبُوهُ ؟ قَالَ مَاتَ وَأُمُّهُ حُبْلَى بِهِ ، قَالَ صَدَقْتَ ! ارْجِعْ بِابْنِ أَخِيكَ إِلَى بَلَدِهِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ الْيَهُودَ فَوَاللهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ لَيَبْغُنَّهُ شَرَّاً ، فَإِنَّهُ كَائِنٌ لابْنِ أَخِيكَ هَذَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فَأَسْرِعْ بِهِ إِلَى بِلادِهِ ... فَخَرَجَ بِهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعَاً حَتَّى أَقْدَمُهُ مَكَّةَ حِينَ فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ بِالشَّامِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَشَبَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْلَؤُهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيْحَفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَعَائِبِهَا , لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ حَتَّى بَلَغَ أَنَّ كَانَ رَجُلاً أَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقَاً، وَأَكْرَمَهُمْ مُخَالَطَةً، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارَاً، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمَاً وَأَمَانَةً، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثَاً، وَأَبْعَدَهُمْ مِنَ الْفُحْشِ وَالأَذَى . فَمَا رُؤِيَ مُلاحِيَاً أَحَدَاً وَلا مُمَارِيَاً ، حَتَّى سَمَّاهُ قَوْمُهُ الأَمِينَ , لِمَا جَمَعَ اللهُ فِيهِ مِنَ الأُمُورِ الصَّالِحَةِ .
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِغَرِهِ يَرْعَى الْغَنَمَ بِالأُجْرَةِ لِيُعِينَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ عَلَى تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ أَوْلَادِهِ وَمَعِيشَتِهِمْ , وَلِمَا أَرَادَ اللهُ بِهِ مِنْ تَرْبِيَةِ أُمَّتِهِ , حَيْثُ إِنَّ رَعْيَ الْغَنَمِ بِخُصُوصِهَا يُعَلِّمُ الرَّحْمَةَ والرِّفْقَ وَالصَّبْرَ وَحُسْنَ الرِّعَايَةِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ) فَقَالَ أَصْحَابُهُ : وَأَنْتَ ؟ فَقَالَ (نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : ثُمَّ لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ , اشْتَغَلَ فِي تِجَارَةٍ مَعَ أَعْمَامِهِ مُدَّةً , وَاشْتُهَرَتْ أَمَانَتُهُ وَصِدْقُهُ . وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ الأَسَدِيَّةِ امْرَأَةً حَازِمَةً شَرِيفَةً تَاجِرَةً ذَاتَ مَالٍ تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ عَلَى مَالِهَا مُضَارَبَةً , فلَمَّا بَلَغَهَا مِنْ صِدْقِ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ بَعَثَتْ إِلَيْهِ، وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالٍ لَهَا تَاجِرَاً إِلَى الشَّامِ وَتُعْطِيَهُ أَفْضَلَ مَا تُعْطِي غَيْرَهُ مِنَ التُّجَّارِ , مَعَ غُلامٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةُ ! فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَخَرَجَ فِي مَالِهَا ذَلِكَ، وَخَرَجَ مَعَهُ غُلامُهَا مَيْسَرَةُ حَتَّى نَزَلَ الشَّامَ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبَاً مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنَ الرُّهْبَانِ اسْمُهُ نَسْطُورَا , فَاطَّلَعَ هَذَا الرَّاهِبُ إِلَى مَيْسَرَةَ , فَقَالَ : مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الذِي نَزَلَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ؟ فَقَالَ : مَيْسَرَةُ هَذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْش مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ! فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ : مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا نَبِيٌّ , يَعْنِي : أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ نَبِيٌّ , وَذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْ صِفَاتِهِ التِي يِجِدُهَا عِنْدَهُ فِي كِتَابِهِمْ الإِنْجِيل . وَكَانَتْ صِفَاتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجُودَةً فِي كُتُبِهِمْ لَكِنَّهُمْ حَرَّفُوهَا وَكَتَمُوهَا , قَالَ اللهُ تَعَالَى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ , وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم .

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الأَمِينِ , وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ بِضَاعَتَهُ التِي خَرَجَ بِهَا وَاشْتَرَى مَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِي ... ثُمَّ أَقْبَلَ قَافِلاً إِلَى مَكَّةَ , فَكَانَ مَيْسَرَةُ إِذَا كَانَتِ الْهَاجِرَةُ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ، يَرَى مَلَكَيْنِ يُظِلَّانِهِ مِنَ الشَّمْسِ وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى بَعِيرِهِ ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ عَلَى خَدِيجَةَ بِمَالِهَا بَاعَتْ مَا جَاءَ بِهِ فَتَضَاعَفَ رِبْحُهَا , فَسَرَّهَا ذَلِكَ ، ثُمَّ إِنَّ غُلامَهَا مَيْسَرَةَ حَدَّثَهَا عَنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ وَعَمَّا كَانَ يَرَى مِنْ إِظْلَالِ الْمَلائِكَةِ إِيَّاهُ .
فَأَعْجَبَهَا ذَلِكَ , وَكَانَتْ خَدِيجَةُ امْرَأَةً عَاقِلَةً حَصِيفَةً ، مَعَ مَا أَرَادَ اللهُ بِهَا مِنْ كَرَامَتِهَا . فَرَغِبَتْ فِي الزَّوَاجِ مِنْهُ , فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ لَهُ : يَا ابْنَ عَمِّ إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِيكَ لِقَرَابَتِكَ وَفَضْلِكَ فِي قَوْمِكَ وَأَمَانَتِكَ وَحُسْنِ خُلُقِكَ وَصِدْقِ حَدِيثِكَ ،,, ثُمَّ عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ ، وَكَانَتْ هِيَ فِي نَفْسِهَا أَوْسَطَ نِسَاءِ قُرْيشٍ نَسَبَاً وَأَعْظَمَهُنَّ شَرَفًا وَأَكْثَرَهُنَّ مَالاً , وَكُلُّ رَجُلٍ فِي قَوْمِهَا كَانَ حَرِيصَاً عَلَى الزَّوَاجِ مِنْهَا لَوْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ !
فَلَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ لِرَسُول ِاللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهَا لِأَعْمَامِهِ ، فَخَرَجُوا مَعَهُ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ فَخَطَبُوهَا مِنْهُ , فَفَرِحَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي الْمُوَافَقَةِ لِمَا عَرَفَ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْخَاطِبِ , فَتَزَوَّجَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَصْدَقَهَا عِشْرِينَ بَكْرَةً , فَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا حَتَّى مَاتَتْ. وَكَانَ عُمُرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ خَمْسَاً وَعِشْرِينَ سَنَةً , وَكَانَ عُمُرُهَا إِذْ ذَاكَ أَرْبَعِينَ سَنَةً , فَوَلَدَتْ لَهُ الْقَاسِمَ وَكَانَ بِهِ يُكْنَى ، وَالطَّيَّبَ وَالطَّاهِرَ ، وَزَيْنَبَ ، وَرُقَيَّةَ ، وَأُمَّ كُلْثُومٍ ، وَفَاطِمَةَ , وَأَمَّا وَلَدُهُ إِبْرَاهِيمُ فَمِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ وَلَيْسَ مِنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ , لَكِنَّ أَوْلادَهُ الذُّكُورَ مَاتُوا جَمِيعَاً فِي صِغَرِهِمْ , وَذَلِكَ حِكْمَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ لِئَلَّا يَحْصُلَ الْغُلُوُّ بِهِمْ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ , وَأَمَا بَنَاتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ فَأَدْرَكْنَ الْبِعْثَةَ وَدَخَلْنَ فِي الإِسْلامِ وَهَاجَرْنَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُصَلِّيَ وَيسَلِّمَ عَلَى رَسُولِنَا وَعَلَى زَوْجَاتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ , وَأَنْ يَجْمَعَنَا بِهِمْ فِي جَنَّتِهِ وَأَنْ يُمَتِّعَنَا بِلِقَائِهِمْ كَمَا أَحْبَبْنَاهُمْ وَلَمْ نَرَهُمْ . رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ .
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ، اللَّهُمَّ أَقِلْ عَثَرَاتِنَا ، وَاغْفِرْ زَلاَّتِنَا ، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا ، وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ . اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ .

المرفقات

مُتَابَعَةُ السِّيرَةِ الشَّرِيفَةِ 7 ذِي القَعْدَةِ 1434 هـ ‫‬.doc

مُتَابَعَةُ السِّيرَةِ الشَّرِيفَةِ 7 ذِي القَعْدَةِ 1434 هـ ‫‬.doc

المشاهدات 2968 | التعليقات 3

جزاك الله كل خير ونفع بعلمك


نفع الله بعلمك شيخ محمد مختصر سريع ومرور كريم لسيرة المعصوم والخاتم أفضل عباده علويهم وسفليهم فلله در القائل فيه:

من نحنُ بلـك إلا نقطـةٌ غرقـت *** في اليم بل دمعةٌ خرساءُ في القِـدَمِ
أكاد أقتلـعُ الآهـات مـن حُرقـي *** إذا ذكرتُك أو أرتـاعُ مـن ندمـي
لما مدحتكُ خِلـتُ النجـم يحمُلنـي *** في خاطرٍ بالسنا كالجيـش محتـدمِ
أقسمـتُ بالله أن أشــدو بقافـيـةٍ *** من القريض كوجهِ الصبـح مبتسـمِ


جزاك الله خير الجزاء