ما بين السطور في سر انشراح الصدور
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ للهِ بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، جَعَلَ شَهْرَ رَمَضَانَ مَوْسِمًا لِلطَّاعَاتِ، وَأَفَاضَ عَلَى الصَّائِمِينَ فِيهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَشَرَّفَ أَوْقَاتَهُ عَلَى سَائِرِ الأَوْقَاتِ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْبَرِيَّاتِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أُولِي الْفَضْلِ وَالْمَكْرُمَاتِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَنَحْنُ فِي هَذَا الشَّهْرِ قَدِ انْشَرَحَتْ صُدُورُنَا، وَتَغَيَّرَتْ أَحْوَالُنَا، وَزَانَتْ أُمُورُنَا، وَعَلَتْ هِمَمُنَا؛ وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ :
أَنَّنَا انْشَغَلْنَا وَتَفَرَّغْنَا فِيمَا لأَجْلِهِ خُلِقْنَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [ الداريات: 56-58 ]، فَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ تَعْمَلُهُ يَا عَبْدَ اللهِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ سَعَادَتِكَ، وَحَيَاتِكَ الطَّيِّبَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَتَنَوَّعُ الْعَمَلُ فِيهِ، وَتَتَعَدَّدُ الْفَضَائِلُ الَّتِي تَعْكِسُ حَقِيقَةَ وَأَهَمِّيَّةَ وَمَزَايَا هَذَا الشَّهْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ فَهَذَا الشَّهْرُ هُوَ شَهْرُ التَّوْحِيدِ ؛ يَظْهَرُ فِيهِ إِخْلاَصُ الْعَمَلِ للهِ تَعَالَى، وَالتَّسْلِيمُ الْكَامِلُ لأَحْكَامِ الدِّينِ، وَالاِنْقِيَادُ التَّامُّ، وَالْخُضُوعُ للهِ تَعَالَى، وَالْخُلُوصُ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾ [الزمر: 3] وَالصَّوْمُ هُوَ مِنْ أَكْثَرِ الأَعْمَالِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ فِيهَا الإِخْلاَصُ؛ لأَنَّهُ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَخَالِقِهِ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلِذَلِكَ أَخْفَى رَبُّ الْعَالَمِينَ أَجْرَهُ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ؛ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»
[ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ].
وَلاَ شَكَّ أَنَّ إِخْلاَصَ الأَعْمَالِ للهِ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَعَلَيْهِ مَدَارُهُ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي أَرْسَلَ اللهُ لأَجْلِهِ الرُّسُلَ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ بِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]
وَرَمَضَانُ أَيْضًا شَهْرُ الصَّلاَةِ وَالْقِيَامِ؛ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ فِي صَلاَةِ قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ رَمَضَانَ: لِتَقْوِيَةِ صِلَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ ، وَبِهَا تَحْصُلُ رَاحَتُهُم وَطُمَأْنِيِنَتُهُم ، وَيَتَحَقَّقُ مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ لِمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا.
وَرَمَضَانُ شَهْرِ الإِنْفَاقِ وَالْجُودِ؛ مِنْ حَيْثُ الصَّدَقَاتُ أَوْ زَكَاةُ الْمَالِ الْمَفْرُوضَةُ الَّتِي اعْتَادَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِخْرَاجَهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ، لِتُوَافِقَ شَرَفَ الزَّمَانِ، وَتَتَضَاعَفَ الأُجُورُ ، وَيَحْصُلَ التَّآلُفُ وَالتَّكَافُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أسْبَابِ انْشِرَاحِ الْصَّدْرِ .
فَكَمْ مِنَ الأُسَرِ الْمُحْتَاجَةِ بَيْنَنَا مَنَعَهَا التَّعَفُّفُ وَالْحَيَاءُ مِنْ سُؤَالِ النَّاسِ، وَهُمْ بِأَمَسِّ الْحَاجَةِ لِطَعَامٍ أَوْ مَلْبَسٍ أَوْ أَثَاثٍ أَوْ سَكَنٍ؛ لاَ سِيَّمَا وَقَدْ هَيَّأَتْ لَنَا دَوْلَتُنَا الْمُبَارَكَةُ: مِنَصَّاتٍ مَوْثُوقَةً لاِسْتِقْبَالِ مَا تَجُودُ بِهِ أَنْفُسُنَا لإِخْوَانِنَا؛ كَمِنَصَّةِ «جُود» الإِلِكْتُرُونِيَّةِ الَّتِي تُعْنَى بِتَوْفِيرِ الْوَحْدَاتِ السَّكَنِيَّةِ لِلأُسَرِ الأَكْثَرِ احْتِيَاجًا لِتَأْمِينِ الاِسْتِقْرَارِ وَالْحَيَاةِ الْكَرِيمَةِ فِي بَلَدِ النَّمَاءِ وَالْخَيْرِ وَالْعَطَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» [متفق عليه].
فَأَقْبِلُوا عَلَى رَبِّكُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ، فَفَلاَحُ الْعَبْدِ وَسَعَادَتُهُ وَعُلُوُّ دَرَجَتِهِ عِنْدَ خَالِقِهِ هُوَ إِيمَانُهُ وَإِخْلاَصُهُ وَكَثْرَةُ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَـٰتِ ءامِنُونَ﴾ [سبأ: 37].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ. أَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ قَدْ فَتَحَ لَكُمْ أَبْوَابَ الْخَيْرِ الْكَثِيرَةَ، وَجَعَلَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَأَتَمِّ الْمِنَحِ، وَأَجْزَلِ الْعَطَايَا لِلْعَبْدِ: أَنْ يُوَفَّقَ لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا، وَعَلَّقَ اللهُ الْفَلاَحَ وَالنَّجَاحَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].
وَمِنْ عَلاَمَاتِ تَوْفِيقِ اللهِ لِلْعَبْدِ: أَنْ يَرْزُقَهُ اللهُ تَعَالَى إِقْبَالاً عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَإِخْلاَصًا فِيهِ، وَمَحَبَّةً لِبَذْلِهِ قَبْلَ دُنُوِّ أَجَلِهِ، وَانْتِقَالِهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا؛ فَكَمْ كَانَ بَيْنَنَا مِنْ أَقْوَامٍ عَاشُوا مَعَنَا فِي سَنَوَاتٍ مَاضِيَةٍ، شَارَكُونَا صَوْمَنَا، وَجَالَسُونَا عَلَى مَوَائِدِ فِطْرِنَا، هُمُ الْيَوْمَ تَحْتَ التُّرَابِ ؛ يَأْمُلُونَ رَحْمَةَ الرَّبِّ الْوَهَّابِ، وَيَرْجُونَ عَفْوَ الْغَفُورِ التَّوَّابِ ؛ فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاسْتَدْرِكُوا مَا تَبَقَّى مِنْ شَهْرِكُمْ بِطَاعَةِ رَبِّكُمْ، فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَوْقَاتِ دَهْرِكُمْ، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ ، كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ الْقَائِلُ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق