ما بين الايثار وحب الذات

د. منال محمد أبو العزائم
1446/01/20 - 2024/07/26 09:34AM

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

إن الأنانية من الصفات الذميمة الموجود في بني البشر منذ الأزل، وهي مرتبطة بحب الذات. والطيب من الناس يتحكم فيها ولا يجعلها تطغى على أفعاله وتصرفاته. فالإنسان بطبعه يحب نفسه أكثر من أي شيء آخر إلا من رحم ربي واستطاع تهذيب نفسه بالإيمان، وقدَّم حب الله ورسوله على ذاته. قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يقذف في النار أحب إليه من أن يعود في الكفر، بعد إذ نجاه الله منه، ولا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده والناس أجمعين)[1]. فإذن الإيمان يهذب حب النفس ولا ينفيه. فمن لا يحب نفسه لا يحب غيره ولا يستطيع العيش بسلام معها ومع الآخرين. وذلك لأن كراهية الذات تولد الاكتئاب ومقت الحياة وما فيها؛ وقد تؤدي بالمرء إلى نتائج غير محمودة مثل ارتكاب الجرائم وتدمير البيئة وحرق المزارع واهدار الموارد وغيرها من الأفعال الشريرة التي تؤثر سلبا على الفرد والمجتمع. وربما يقوم بأفعال تؤدي إلى تدمير الذات مثل تعاطي المخدرات وشرب الكحول وادمان العادات الضارة مثل اللواط والعادة السرية والشذوذ الجنسي واغتصاب الأطفال وجرائم القتل المتسلسل وغيرها من الكبائر. وأكثر حالات الانتحار تنتج من الاكتئاب وكراهية النفس وفعل الجرائم والشعور بالذنب. وكل تلك الموبقات مرتبطة ببعضها بحيث تتبع أحداها الأخرى وتؤدي إليه.

          ولذا لم يأمر الإسلام بكراهية الذات في نص من النصوص، بل إن حب النفس معترف به ومعتبر في الآداب الشرعية. ونلتمس ذلك من خلال النصوص المختلفة، ولنأخذ مثال منها في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)[2]: فهو لم يأمر المسلم بأن لا يحب نفسه، بل هذب هذا الحب بأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. والإسلام دين الفطرة، ولذا ما كان ليأمر الناس بما يخالف فطرتهم من حب النفس الذي جُبِلوا عليه. ولو أمرهم بذلك لصعب عليهم العيش بأنفس سوية وتحقيق الخلافة في الأرض وإقامة شعائر الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الواجبات الدينية. حيث الكل يعلم أنما دافع المسلم الأول في القيام بهذه الأعمال هو السعي في رضى الله والنجاة من النار. ولو لم يحب المرء نفسه لم يسع في نجاتها وبذل لأجلها وقته وصحته وماله ليسلمها من عذاب الله. بل إن حتى الأنبياء عليهم السلام كان يدعون الله لأنفسهم بالنجاة وغيرها. قال تعالى: (رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا)[3]. حيث دعا نوح عليه السلام بالمغفرة لنفسه أولاً ثم أتبعها بوالديه. وعادة كل مسلم بأن يدعو لنفسه بالخير. بل إن دعائه لنفسه يقدم على دعائه لغيره. وقد روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه)[4].

          ومع اعتراف الإسلام بحب النفس إلا أنه لم يترك لها حبل القارب لتسيطر عليها الأنانية حتى تتعدى على حقوق الآخرين. فقد هذب هذه الفطرة ووضع لها حدود لا يجب أن تتعداها حتى لا يجور الناس على بعضهم البعض. ونلمس ذلك في أحكام التشريع المختلفة. ومن أمثلتها تحريم السرقة. حيث السرقة تنتج من أنانية السارق وحبه لنفسه الزائد الذي طغى على رؤيته الحق وجعله يتعدى على مال غيره وسرقته. فلم يفكر إلا في نفسه متجاهلاً حاجة صاحب المال لماله؛ وناسياً ما وضعه الإسلام من عقوبة صارمة للسرقة. قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[5].

وكذلك نراه في تحريم الزنا، لأن فيه تعدي على شرف النفس وشرف الغير. ففيه من ظلم النفس وظلم الغير ما يكفي لتحريمه وجعله كبيرة من كبائر الذنوب. والزانيان لا يظلمان نفسيهما فحسب؛ بل يظلمان اسرتيهما اللتان ستعانيان من تباعات الزنا في ضياع السمعة والشرف وربما النفس. وكذلك إن حدث حمل فالطفل الناتج هو أكثر من سيعاني من فعلة أبويه الأنانيين والذين لم يفكران فيه ولا في مصيره المظلم. حيث عليه أن يواجه المجتمع بتحمل تلك الجريمة التي لم يكن له يد فيها، ويعاني من قسوة الناس عليه واحتقاره له وتسميته بابن الزنا أو "اللقيط" وهو لا حول له ولا قوة ولا جرم ارتكبه ولا إثم.

وكذلك نراه في تحريم قتل الأجنة. فمن الأنانية المتناهية أن تقوم الأم بقتل جنينها دون عذر. فما في بطنها نفس مثلها وضعها الله فيها. وهي أمانة وهبة من الله كان ينبغي الحفاظ عليها. ثم تقوم هي بإسقاطه وتقتل نفس كانت ستكبر وتصير شخص بكامل خلقته وصفاته وأفعاله، مُحاسب مثلها وله ما لها وعليه ما عليها. فأي حق لهذه المرأة بأن تقتله؟ وهذا بالطبع لا يشمل من لها عذر شرعي للإجهاض كمن خاف الطبيب على حياتها ونحوه.

وكذلك تحريم خطبة المرء على خطبة أخيه. فذلك فعل في منتهي الأنانية والتجاهل لحقوق الغير. وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك)[6]. وتحريم استقطاع الأرض الذي فيه ظلم للآخرين وإجحاف بحقهم. قال صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع شبرا من الأرض ظلما، طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين)[7]. وتحريم الاحتكار. قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحتكر إلا خاطئ)[8]. فالمحتكر أناني لا يرى إلا نفسه ومصلحته والربح الذي سجنيه من احتكاره؛ دون أن ينظر لمعاناة الناس من غلاء الأسعار بسببه وجوعهم ومرضهم وحاجتهم. فأنانيته وحب ذاته طغت عليه حتى أوقعته في الحرام. وهذا هو المحذور.  

وهذه مجرد أمثلة، وهناك غيرها الكثير من الأحكام الشرعية التي تحفظ حقوق الناس وتمنع الأنانية والظلم. ومن هذا نرى أن الإسلام لم يأمرنا بعدم حب النفس، ولكن وضع لنا قوانين تحد من سيطرتها وتحفظها من التعدي على حقوق الغير. فعلى الإنسان كبح جماح نفسه ومنعها من التمادي والتعامي عن أذى الناس لأجل المصلحة. وعليه أن ينبه نفسه ويجعل ذلك الفكر نصب عينيه حتى يتعود عليه ويصير صفة دائمة فيه. فتزكو نفسه به وتعتاد على الكرم والأخلاق العالية والتصرف بتهذيب مع الناس وتغطية الأنانية وحبسها داخل النفس. وإن وصل إلى درجة الإيثار فتلك صفة المفلحين في الآخرة. وهي منزلة عالية من الإيمان، حيث يتخلص الإنسان من شح نفسه ويؤثر غيره عليه لأجل مرضاة الله والتطلع لما عنده من ثواب. قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[9]. والإنسان المتصف بالإيثار يكون حب الله ورسوله تمكن من قلبه؛ حيث أصبح يفضل آخرته على دنياه، ويتوكل على الله في تصدقه إيمانا به وبأنه سيعوضه وسيجزيه خيرا على صدقته. فهو يعلم أن صدقته أفضل له مما تصدق به لعلمه بما سيجنيه من ورائها من أجر في الآخرة؛ فتطيب نفسه بإعطائها وتصبر عليه.

وهذا بالنسبة لمن كانت نيته الاحتساب عند الله في إيثاره ذلك. وأما الإيثار لغرض آخر كالعشق أو انتظار مصلحة دنيوية أو هوي داخلي أو غيره فلا يدخل في هذا الباب ولا تزكو به نفس أو تُرفع درجة. فإن العمل الصالح من شروطه أن يكون لله، وإن لم يكن له لم يكن صالحا حتى وإن بدا كذلك في أعين الناس. قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[10]. وهناك هالكين كثر في هذا الباب. ولذا على الإنسان أن يراجع نيته ويجددها من حين لأخر ويتذكر أجر الأخرة والجنة والنار والحساب؛ حتى لا يطغى الاستئناس بحمد الناس له على قلبه فيفسد عليه صدقته وإيثاره. والإنسان بطبعه ينسى وينجرف مع الظاهر من الحياة وما يحيط به فينسيه نيته. ولا يثبتها على الحق إلا كثرة ذكر الله والموت والآخرة وتقوية الإيمان والصحبة الصالحة وقراءة القرآن وتعلم العلم وأحاديث الآخرة وغيرها من الصالحات.

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يؤثرون على أنفسهم. وقد مدح الله إيثار الأنصار للمهاجرين رغم حاجتهم وقلة مواردهم. قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[11]. وقال في وصف الأبرار: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)[12]. فاتصافهم بذلك جعلهم يتصدقون بالطعام رغم حبهم إياه. وهذا خلاف من يتصدق بأسوأ ما لديه وأبخسه، كمن يتصدق بما فسد من الطعام أو ما بلي من الثياب. فهذا فعل مشين قد يدل على البخل وعدم طيب النفس بالصدقة وعدم التصديق بوعد الله بالإخلاف في الدنيا والأجر في الآخرة. ولهذا الفعل لم يقبل الله من قابيل؛ إذ اختار من اسوأ ما لديه وقدمه قربان لله. وقد اساء التصرف والتقدير بفعله ذلك. فنحن البشر إن قدم لنا شخص هدية بخسة آذتنا وتمنينا أن لم يفعل وشعرنا بالإهانة؛ فما بالك عندما تفعل ذلك مع ملك الملوك الذي أعطاك كل ما لديك؟ ولذا يستحن للمسلم أن يتصدق بالمعقول عن طيب نفس واطمئنان بأجر الله وتعويضه. قال تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[13]. وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم لأفضل الصدقة في قوله: (أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى)[14]. وهذه الحالة هي التي يكون الإنسان فيها بين اليأس والأمل، ويكون مجتهدا في الكسب وهو ليس بسهل عليه وليس لديه الكثير من المال. فإن تصدق فيها فقد غلب شيطانه وشح نفسك. وتكون صدقته أفضل من لو تصدق وهو غني لديه الكثير ولا يؤثر عليه التصدق بشيء منه. وكذلك "أفضل من لو تصدق وهو مريضا في فراش الموت يائساً من الحياة وقل تعلقه بها لما يمر به"[15]. وبتصدقه على هذا الوجه يكون فيه إيثار على نفسه؛ حيث هو في حاجة ويخشى الفقر ولكن رغبته في رضى الله جعلته يؤثر غيره ويجود بما تتوق له نفسه ويرغب فيه. وهذا هو الإيثار الممدوح ووقاية شح النفس التي تؤدي إلى الفلاح والنجاة في الآخرة. قال تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[16].

والله تعالى أعلم. ونسأله سبحانه أن يرفع درجاتنا ويقينا شح أنفسنا ويجعلنا ممن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 



[1] أخرجه البخاري (15)، ومسلم (44)، والنسائي (5013)، وابن ماجه (67) مختصرا، وأحمد (13151) واللفظ له.
[2] أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45) باختلاف يسير.
[3] نوح 28.
[4] ذكره ابن حجر العسقلاني في فتح الباري لابن حجر (2/367)، وخلاصة حكمه عليه: أصله في مسلم.
[5] المائدة 38.
[6] أخرجه مسلم (1408، 2563) مفرقا مطولا باختلاف يسير.
[7] أخرجه مسلم (1610)، والبخاري (3198) باختلاف يسير.
[8] مسلم 1609.
[9] الحشر 9.
[10] الأنعام 162.
[11] الحشر 9.
[12] الانسان 8.
[13] سبأ 39.
[14] البخاري (1419).
[15] انظر شرح الحديث في الموسوعة الحديثية بالدرر السنية، بتصرف شديد.
[16] آل عمران 92.

المشاهدات 265 | التعليقات 0