ما بعــد رمضـــان

فهد عبدالله الصالح
1438/10/05 - 2017/06/29 21:43PM
الحمد لله الكريم المنان القوى الكبير ذي السلطان ذي الفضل والإحسان الحي الذي لا يموت , أحمده على ما من به علينا من النعم والإحسان , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن ) وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما اختلف الليل ولا النهار , وتعاقب الجديدان وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : فيا أيها المسلمون اتقوا الله ربكم , فإن تقواه أفضل مكتسب وطاعته أعلى نسب ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .
أيها المسلمون : مضي رمضان وانقضي بلياليه الزاهرة وأيامه العامرة وأجوائه العطرة , كانت النفوس فيه مقبلة على الخير مدبرة عن الشر , تأملوا وفقني الله وإياكم لصالح العمل قول الله جل في علاه (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجرى من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيم ترون هذه الآية نزلت ( أيود أحدكم أن تكون له جنة )؟ فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (ضربه مثلاً لعمل ) قال عمر أي عمل ؟ قال ابن عباس لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل , ثم بعث الله له شيطانا , فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله ) أخرجه البخاري , وروى الطبراني في قوله تعالى ( يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ) قال : من استطاع منكم أن لا يبطل عملاً صالحاً عمله بعمل سيء فليفعل ولا قوة إلا بالله , فإن الخير ينسخ الشر , وإن الشر ينسخ الخير , وإن ملاك الأعمال خواتيمها .
ويقص علينا القران خبر امرأة حمقاء خرقاء ملتاثة العقل تجهد صباح مساء في معالجة صوفها حتى إذا صار خيطاً سوياً ومحكماً قوياً عادة عليه تحل شعيراته وتنقض محكماته , وتجعله بعد القوة منكوثا , وبعد الصلاح محلولاً , ولم تجن من صنيعها إلا الإرهاق والمشاق , يقول جلا وعلا ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ) فإياكم أن تكونوا مثلها , فتهدموا ما بنيتم وتبددوا ما جمعتم .
أيها المسلمون : داوموا على ما اعتدتم من الخير في رمضان ولا تنقطعوا عنه , وخذوا من العمل ما تطيقون ملازمته والثبات عليه ولو كان قليلاً , فالقليل الدائم ينمو ويزكو , وبدوام القليل يدوم التعبد لله والذل له , والأنس به والقرب منه والإقبال عليه , والكثير الشاق ينقطع ولا يدوم , فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون , فإن الله لا يمل حتى تملوا , وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل , وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه ) متفق عليه , وعن علقمة قال سالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ هل كان يخص شيئاً من الأيام ؟ قالت : لا كان عمله ديمة , وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع ) أخرجه مسلم , وقال القاسم ابن محمد : وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته (أي داومت عليه) أخرجه مسلم , وكره أهل العلم الانقطاع عن العمل الصالح , استنباطاً من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا عبد الله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم من الليل فترك قيام الليل ) متفق عليه .
أيها المسلمون : النفس مطية يحول بينها وبين السير إلى الله تعالى خطفات الفتن وعقبات الشهوة وعوارض الطريق , بيد إن صبر ساعة وشجاعة نفس وثبات قلب تقضي بالعبد إلى قطع الطريق واقتحام عقبته والوصول إلى المنازل والأمانى العالية , فزكوا أنفسكم وألزموها الطاعة , وازجروها وتعاهدوها وأصلحوها , وتزودوا للنقلة وخذوا الأهبة للرحلة , وسددوا وقاربوا وأبشروا , واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة , والقصد القصد تبلغوا .
أيها المسلمون : تقربوا إلى الله جل ثناؤه بطاعة وعباده , وأداء مفترضاته ونوافله , فكلما تقربتم إليه قربتم من داره ودنوتم من جواره ونجوتم من ناره , عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال (وما تقرب إلى عبد بشيء أحب إلى مما افترضته عليه , وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتي أحبه , فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به , ويده التي يبطش بها , ورجله التى يمشى بها , وإن سألني لأعطينه , وإن استعاذني لأعيذنه) أخرجه البخاري .
أيها المسلمون : الدنيا زهرة ذابلة ونعمة زائلة , فحقا على من يعود شبابه هرماً وصحةً وهناً وقوته ضعفاً وزيادته نقصاً وحياته موتاً , أن يبادر بالتوبة والإقبال على الله وينكفي عن المعاصي والموبقات ولا يتمادى في اغتراره وإصراره , والتائب من الذنب كمن لا ذنب له , ومن يتحر الخير يعطه , ومن يتوق الشر يقه , ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم .
بارك الله لي ولكم في القران والسنة ونفعني وإياكم بما فيه من البينات والحكمة , أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة , فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم .
الخطبــة الثانيـة :
في رمضان وجد كثير من المجتهدين لذة صلاة الليل ومناجاة الرب جلا وعلا والانطراح على بابه , والبكاء من خشيته ورجائه , وطعموا حلاوة الاستغفار في أسحاره , فعلموا أنهم قد غفلوا عن هذا الباب العظيم من الخير , وأن سهرهم أول الليل ونصفه , ونومهم آخره قد حرمهم هذه اللذة العظيمة , فعزموا علي أن يجاهدوا أنفسهم على قيام الليل , وأن يأخذوا بالأسباب المعينة على ذلك , كيف لا يستمرون عليه ولذة مناجاة الله هي أفضل الساعات , وربنا تبارك وتعالى : ينزل كل ليلة إلي السماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الآخر فيقول (من يدعوني فاستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ ومن يستغفرني فاغفر له ؟) كما جاء في الحديث الصحيح .
قيام الليل من أفضل الأعمال ومن أسباب دخول الجنان وفي الحديث (يا أيها الناس أفشوا السلام , وأطعموا الطعام , وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ) رواه الترمذي , وفي كل ليلة ساعة إجابة , الأبواب فيها تفتح , والكريم فيها يمنح , فاسأل فيها ما شئت فالمعطي عظيم , وأيقن بالإجابة فالرب كريم , وبث إليه شكواك فإنه الرحمن الرحيم , وارفع إليه لآواك فهو السميع البصير يقول عليه الصلاة والسلام ( إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسال الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة )رواه مسلم هذا وصلوا وسلموا ...
المشاهدات 754 | التعليقات 0