ما الفقر أخشى عليكم
راشد بن عبد الرحمن البداح
11 ربيع الآخر 1439 الحمد لله، نحمده سبحانه، ونثني عليه الخيرَ كلَّه، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يَفجره. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ما أرسله الله إلا رحمةً للعالمين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. أما بعد: فإن أحسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ e وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَ(إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ([1])
أتدري مَن أعظم رجُل، له عليك فضلٌ أعظمُ من فَضل والديك الكريمين؟
أليس هو نبينا محمد@ ؟! بلى؛ فإنه لولا منَّة ربنا ببعثة رسولنا صلى الله عليه وسلم لكنا حيارى في دياجير الظلمات: {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. فاللهم اجعل حبك، وحب رسولك أحب إلينا من نفوسنا وأهلينا، ومن الماء البارد. اللهم برحمتك: اجعلنا من جلساء نبيك في جنتك.
أيها المؤمن المحب لرسوله e هل اشتقتَ إليه؟! وهل تريد وصفًا لحبيبكe؟! هل تعرف كَيْفَ كَانَ عَيْشُهe؟! إذًا خذ هذه المواقف التي نقلتها لنا أعلم نسائه به.
وأما عيشته فقد قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها – لِعُرْوَةَ بنِ الزبيرِ: ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ، ثُمَّ الْهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ e نَارٌ. فَقال: يَا خَالَةُ! مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ e جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ.. وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ e مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا([2]).
وقَالَتْ: مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ e أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلاَّ إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ. وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ. قِيلَ: مَا اضْطَرَّكُمْ إِلَيْهِ؟ فَضَحِكَتْ. ولَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ e وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي([3]).
ولما ذَكَرَ عُمَرُ e مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي، مَا يَجِدُ دَقَلاً يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ([4]).
ولقد نَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً! فَقَالَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ([5]). فرآه عُمَرُ وقد أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ، يقول: فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ! فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟ فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ؛ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ. وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا([6]).
نعم؛ لقد كان نبينا e لا يريد الترف والإرفاه، ولا يبالي بالدنيا، ولا يخاف على نفسه الفقر، ولا يخافه على أمته، إنما يخاف عليهم من ضده. فحين قَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، سَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ e، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ e حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ! قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ. وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ([7]).
فاتقوا الله تعالى - أيها الناس- وتفكروا في نعمه واشكروه، واذكروا آلاء الله وتحدثوا بفضله ولا تكفروه، فإن أصابكم وابتلاكم فاصبروا، فلنكن عند السراء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين.
____________2________ فإن ثمت حدثاً هو حديث الناس هذه الأيام في كثير من مجالسهم، ألا وهو عما قدره الله وقضاه من غلاء مترقب للأسعار لبعض الضروريات والكماليات . فلنقِف مع هذا الحدث بالحديث عن نقاط، منها:
1- أن نعلم أن غلاءَ الأسعار إنما هي مصائب ما وقعت إلَّا بما كسبت أيدينا، وهذا لابد أن يقال ويستقر في الأذهان، وإن ضاق بعض الناس ذرعاً بهذا الكلام، لكنها الحقيقة التي قال الله عنها: [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير ٍ] واللهِ لقد تمادينا في المعاصي، والله يغار على أوامره أن تجتنب ومحارمه أن ترتكب. قال صلى الله عليه وسلم: لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ([8]).
2- ما دام أن غلاء الأسعار عقوبة وقعت بسبب ذنوبنا، فلنسأل ما الذنب المباشر الذي يكون سبباً لهذه العقوبة؟ إنه سبب بيَّنه الذي لا ينطق عن الهوى e، فقال: خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ (وذكر من الخمس قولَه ): ولَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. رواه ابن ماجة بسند حسن([9]). وليس المراد بنقص المكيال والميزان في البيع فحسب ؛ بل يدخل فيه كل ما تعامل به غيرك في الحقوق التي لك على الناس، والتي عليك لهم، والواجب أن يكون للمرء معيار واحد، وهو الميزان العدل مع من يحب ومن يبغض.
3- يأسف بعض الناس كثيراً لهذا الغلاء في بعض السلع، ويزيد حزنه على ويكون جلَّ حديثه، في حين إن تأسفه ذلك لا يعادل ولا يقارب فيما لو فاته سبيل من الخير، فهو:
فطِنٌ بكل مصيبة في ماله ... وإذا يُصاب بدينه لم يشعرِ
4-ولئن شكى من قلَّ ماله غلاءَ الأسعار وصعوبةَ المؤنة، فلينظر ما في ضمن ذلك من الألطاف والسعة والرخص في نواحٍ أُخَرَ أكثر مما غلا، فكم لله من خيرات وبركات ربانية، وكم له من أسرار وألطاف ظاهرة وخفية، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون([10]).
5- ثم إن المرء إذا رأى بلداناً وتأمل أزماناً مرت بها كروب وخطوب من الجوع والمسغبة والغلاء الفاحش هان عليه كل ما يلقى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ] فاعتبروا يا أولي الأبصار، وسلوا الأجداد، الذين اصطلوا بنارِ الجوع، ولهيبِ الظمأ، دهراً طويلا، وارتعدتْ فرائصهُم وقلوبُهم من قطاعِ الطريق في وضحِ النهار.
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، يا منان، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم: نسألك أن تجعل أيامَنا عامرة بالإيمان، والأمن، والقناعة برزقك.
اللهم أسبغ علينا نعمك وارزقنا شكرها. اللهم أصلح إمامنا وولي عهده ورعيتهم، ويسر للمسلمين الهدى، ويسر الهدى لهم؛ إنك جواد كريم، رؤوف رحيم.
([2])صحيح البخاري (2567) صحيح مسلم (7642)
([3])صحيح البخاري (5423 و3097) صحيح مسلم (7641)
([5])صححه الترمذي -وحسنه- (2377) وابن حبان (6352) وابن تيمية في الجواب الصحيح (5/ 480) وابن القيم في عدة الصابرين (ص: 167).
([6])صحيح البخاري (2468) صحيح مسلم (3768)
([7])صحيح البخاري (3158 و 6425) صحيح مسلم (7614)
([9])سنن ابن ماجه (4019)وصححه الحاكم في المستدرك 405 (8623) والهيثمي الزواجر (1/ 328) والبوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 285)
المرفقات
الفقر-أخشى
الفقر-أخشى
الفقر-أخشى-2
الفقر-أخشى-2