ما أقرب الجنة .. والنار كذلك
عبدالله حمود الحبيشي
ما أقرب الجنة .. والنار كذلك
أما بعد .. عباد الله .. روى البخاري في صحيحه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) .
نعم والله إن الجنة قريبة منا ، قريبة جدا .. والنار مثل ذلك ، وشاهد ذلك كثير في كتاب الله ، وفي سنة نبيه عليه الصلاة والسلام .
وأوضح دليل وأصرح بيان قوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) .
قال سعيد بن جبير رحمه الله : كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل الذي أعطوه ، فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجوزة ونحو ذلك ، فيردونه ويقولون : ما هذا بشيء . إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه . وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير : الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ، يقولون : إنما وعد الله النار على الكبائر . فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه ، فإنه يوشك أن يكثر ، وحذرهم اليسير من الشر ، فإنه يوشك أن يكثر .أ.ه
مثقال ذرة وهي وزن أصغر النمل يكون فيه النجاة والفوز والنجاح والفلاح في الآخرة فما أقرب الجنة وصدق صلى الله عليه وسلم (لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) .
ومما يؤكد قرب الجنة وأنها قد تنال بما لا يخطر ببال العبد .. فهذا رجل ذكر في بعض الروايات أنه لم يفعل خيرا قط ، كان يمشي في طريق ، فوجد غصن شجرة .. غصن شجره فيه شوك .. قد يكون مر عليه العشرات قبله ولم يفطنوا له ، ولم يفكروا في إبعاده ، فجاء هذا الرجل فأخره عن الطريق .. حماية للناس فماذا كان الجزاء .. جنة عرضها السماوات والأرض .. جنة النعيم والخلد .. كانت جزاء لمن أخر غصن شوك عن الطريق .
روي في الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام (بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له) .
وفي رواية في غير الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام (نزع رجل لم يعمل خيرا قط غصن شوك عن الطريق إما قال كان في شجرة فقطعه فألقاه وإما كان موضوعا فأماطه فشكر الله ذلك له فأدخله الجنة) وفي رواية (حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير إلا غصن شوك كان على الطريق كان يؤذي الناس فعزله فغفر له) .
امرأة زانية تجاهر بالفجور ، وتتخذ هذا العمل مهنة لها ، غفر لها.. غفر لها ، ففضل الله واسع ، وكرمه عظيم .. ويأتي السؤال بأي شيء نالت هذه المغفرة والتي يكون جزاؤها الجنة ؟
لم يكن جهادا في سبيل الله ، ولم تنفق مالها صدقة ، ولم تقم الليل وتصوم النهار .. لقد سقت كلبا !! والعجيب أنها لم تسق بشرا أو حيوانا كريما بل كلبا ، ومع هذا كان جزاؤها المغفرة .. بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم (غفر لامرأة مومسة، مرت بكلب على رأس ركي-أي عند البئر- ، يلهث، قال : كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك) رواه البخاري ومسلم .
عباد الله .. الجنة سلعة الله الغالية .. أمنية كل البشر ليست بعيده ، ولا صعبة المنال ، وهي قريبة أقرب من شراك النعل من العبد ، فعمل يسير ، وأمر لا تحسب له حسابا يكون جزاؤه الجنة .
في صحيح مسلم تقول عائشة رضي الله عنها جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة ، التي كانت تريد أن تأكلها ، بينهما فأعجبني شأنها – وفي رواية أعجبني حنانها- فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (إن الله قد أوجب لها بها الجنة) أو (أعتقها بها من النار) .
إنها تمرة واحده كان جزاؤها الجنة .. وقد تكون كلمة .. كلمة واحده فقط يقولها العبد في مجلس أو في أثناء حديثه وهو لا يدرك حجمها، ولا يظن أن تبلغ مبلغا عظيما .. ينال بها الجنة .. في صحيح البخاري يقول صلى الله عليه وسلم (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ، لا يلقي لها بالا ، يرفعه الله بها درجات) .
إنها جنة الله .. قريبة منا فأين الساعون .. اقرب إلينا مما نتوقع .. بل قد يعاين العبد النار ، ويتيقن أنه سيدخلها لا محاله ، فيفوز بالجنة ببطاقة .. يقول صلى الله عليه وسلم (إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول، أتنكر من هذا شيئا ، أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول: لا يا رب ، فيقول أفلك عذر ؟ فيقول : لا يا رب فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول أحضر وزنك ، فيقول : ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فقال : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة ، و البطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، فلا يثقل مع اسم الله شيء) .
عباد الله .. إذا كانت الجنة قريبة فالنار كذلك .. فلا يأمن عذاب الله إلا غافل جاهل (إن عذاب ربهم غير مأمون) .
ذرة من كبر كافية بأن تحرم العبد الجنة ، وتدخله النار ففي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وفي رواية (مثقال حبة من خردل من كبر) .
والخردل: نبات له ثمر أسود صغير جدا، يضرب به المثل في الصغر .
وكما أن الكلمة تدخل الجنة ، فكلمة تكون سببا في دخول النار ، بل في قعر سحيق منها ، ففي صحيح البخاري يقول صلى الله عليه وسلم (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ، لا يلقي لها بالا ، يهوي بها في جهنم) وفي رواية (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يرى بها بأسا فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفا) .
رجل كان في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم وقتل في سبيل الله.. ومع هذا كانت النار أقرب إليه وهي جزاؤه ! هل تدرون بأي شيء.. إنها شملة ، قطعة صغيرة من القماش أخذها قبل توزيع الغنائم .
حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر وكان معه خادم يقال له مدعم ، وبينما مدعم يحط رحلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سهم عائر فقتله ، فقال الناس : هنيئا له الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلا، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا) فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال (شراك من نار ، أو : شراكان من نار) .
نسأل الله الجنة وما قرب إليها من قول ، وعمل ونعوذ به من النار وما قرب إليها من قول وعمل ..
الخطبة الثانية ..
عباد الله .. "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك" .. حقيقة بينها لنا النبي صلى الله عليه وسلم وهي بشارة ونذارة لأهل الإيمان تجعلهم يسيرون في هذه الدنيا بين جناحي الرجاء والخوف ؛ لأن الجنة والنار كلاهما قريبتان للعبد ، ولذلك قال ابن حجر رحمه الله : ينبغي للمرء ألا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه؛ فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي سخط عليه بها“. ا.هـ.
وقال ابن الجوزي رحمه الله : تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية“.
فالجنة قريبة ويسيرة على من وفقه الله، وفتح له أبواب الطاعة والخير ، والنار قريبة من المخذول الشقي الذي أوبقته الذنوب ، وفارقه عون الله وتوفيقه .
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال ".. يا عبادي ! إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا . فاستغفروني أغفر لكم ... يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم . ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيرا فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " .
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته ومرضاته ويرزقنا الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ويعيذنا من النار وما قرب إليها من قول وعمل