مَا أَحْوَجَنَا لِهَذَا الْخُلُقِ 13 جُمَادَ الأُولَى 1438هـ
محمد بن مبارك الشرافي
1438/05/11 - 2017/02/08 19:53PM
مَا أَحْوَجَنَا لِهَذَا الْخُلُقِ 13 جُمَادَ الأُولَى 1438هـ
الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيمِ الْخَلَّاق، قَسَّمَ بَيْنَ عِبَادِهِ الْأَخْلَاق كَمَا قَسَّمَ بَيْنَهُمُ الْأَرْزَاق، أَحْمَدُ رَبِّي وَأَشْكُرُه، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُه، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاق، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ وَالتَّلَاق.
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ صَاحِبَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللهِ وَمَحْبُوبٌ عِنْدَ النَّاسِ, وَهُوَ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَمَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ, وأَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ تَقْوى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ, فَعَلَيْنَا بِالتَّحَلِّي بِأَجْمَلِ الْأَخْلَاقِ طَلَبَاً لِمَرْضَاةِ اللهِ أَوَّلاً ثُمَّ إِحْسَانَاً لِمُعَامَلَةِ مَنْ حَوْلَنَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَعْنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ خُلُقٌ رَفِيعٌ وَخَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ وَمِيزَةٌ عَزِيزَةٌ , إِنَّهُ خُلُقٌ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَزَخَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةٌ تَطْبِيقَاً وَعَمَلاً , إِنَّهُ مَحْمَدَةٌ سَبَقَ إِلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ الْكِرَامُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَأَتَمُّ السَّلَامُ , إِنَّهُ خُلُقُ التَّغَاضِي وَالتَّغَافُلِ , وَمَعْنَى التَّغَافُلِ: أَنْ لا تُدَقِّقَ فِي أَخْطَاءِ مَنْ حَوْلَكَ وَلا تَسْتَقْصِي مَا لَكَ مِنْ حُقُوقٍ وَلا تُعَاتِبَ مَنْ قَصَّرَ فِي حَقِّكَ , قَالَ اللهُ تَعَالَى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ : عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {خُذِ الْعَفْوَ} قَالَ: مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَحَسُّسٍ, وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوة عَنْ أَبِيهِ: أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَيُوَضِّحُ خُلُقَ التَّغَافُلِ فِعْلُ رُسُلِ اللهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ , فَهَذَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بَعْضَ زَوْجَاتِهِ بِحَدِيثٍ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي لَهَا إِسْرَارُهُ, لَكِنَّهَا أَفْشَتْهُ لِأُخْرَى مِنْ زَوْجَاتِهِ, فَلَمْ يُعَاتِبْهَا رَسُولُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَضْلاً عَنْ أَنْ يَضْرِبَهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا – كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْأَزْوَاجِ الْيَوْمَ – بَلْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ وَلا تَحْقِيقٍ وَلا تَدْقِيقٍ , قَالَ اللهُ تَعَالَى (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)
وَخَدَمَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَشْرَ سِنِينَ ، وَمَعَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ كَلِمَةَ عِتَابٍ وَلَا لَوْم, عَنْ أَنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، وَاللهِ مَا قَالَ لِي : أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا ؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا ؟ رَوَاهُ مُسْلِم .
بَلْ كَانَ كَذَلِكَ حَتَّى مَعَ أَعْدَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَكَانُوا يَلْعَنُونَهُ وَيَسُبُّونَهُ، وَيَقُولُونَ مُذَمَّمٌ, بَدَلَ مُحَمَّدٍ, وَمَعَ هَذَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَتَغَافَلَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَلاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا’ وَأَنَا مُحَمَّدٌ) رَوَاهُ الْبُخَارِيّ , مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَكَذَا دَافَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ لَمَّا كَانَ يُؤْذَى مِنْ بَعْضِ زُوَّارِهِ وَلا يَقُولُ شَيْئَاً مُرَاعَاةً لَهُمْ وَتَجَنُّبَا لِإِحْرَاجَهَمْ, قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَهَذَا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ, سَمِعَ كَلِمَةً نَابِيَةً مِنْ بَعْضِ الْقَوْمِ وَصَفَوُهُ بِأَنَّهُ يَسْرِقُ فَأَعْرَضَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يُعَاتِبْهُ أَوْ يُعَاقِبْهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ حِينَ سَمِعَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التِي فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا , قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي ثَنَايَا قِصَّةِ يُوسُفَ (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ).
وَهَكَذَا مَدَحَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الذِينَ لا يُقَابِلُونَ السُّفَهَاءَ بِمَا يَبْدُرُ مِنْهُمْ بَلْ يُعْرِضُونَ وَيَقُولُونَ أَطْيَبَ الْخِطَابِ ، فَلا وَقْتَ لَهُمْ لِلْجِدَالِ وَالْخِصَامِ، وَلا لِلْهَمِّ وَالْغَمِّ, قَالَ اللهُ تَعَالَى (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)
أَيَّهَا الْفُضَلاءُ : أَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذَا الْخُلُقِ الْعَظِيمِ ؟ إِنَّكَ لَنْ تَخْلُوَ فِي أَيَّامِكَ مِنْ سَمَاعِ مَا لا يَنْبَغِي مِنْ صَدِيقٍ أَوْ قَرِيبٍ أَوْ زَمِيلٍ فِي الْعَمَلِ أَوْ جَارٍ فِي الْمَنْزِلِ , فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ وَمُطَارَدَةَ الْكَلَامِ , أَوْ أَنْ تُحَاكِمَهُ وَتُخَاصِمَهُ : مَاذَا تَقْصْدِ ؟ أَوْ مَا مُرَادُكَ ؟ بَلْ اجْعَلْ نَفْسَكَ كَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَكَأَنَّ الْأَمْرَ لا يَعْنِيكَ, وَسَتَجِدُ رَاحَةً فِي نَفْسِكَ وَهُدُوءً فِي بَالِكَ , بَلْ إِنَّ الشَّخْصَ الذِي تَكَلَّمَ سَوْفَ يَنْدَمُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَرُبَّمَا جَاءَكَ يَعْتَذِرُ . قَالَ الشَّاعِرُ الْحَكِيمُ :
وَاسْتَشْعرِ الْحِلْمَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ وَلا * * * تُسْرِعْ بِبَادِرَةٍ يَوْمَاً إِلَى رَجُلِ
وَإِنْ بُليتَ بِشَخْصٍ لاَ خَلاقَ لهُ * * * فكُنْ كأنَّكَ لمْ تَسْمَعْ وَلمْ يَقُلِ
وَإِنْ بُليتَ بِشَخْصٍ لاَ خَلاقَ لهُ * * * فكُنْ كأنَّكَ لمْ تَسْمَعْ وَلمْ يَقُلِ
وَقَالَ الآخَرُ :
وَلَقَدْ أَمَرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي *** فَمَضَيْتُ ثَمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَالتَّغَافُلُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى حُسْنِ خُلُقِ صَاحِبَهُ، كَمَا قَالَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : الْعَقْلُ مِكْيَالٌ، ثُلُثُهُ الْفِطْنَةُ، وَثُلُثَاهُ التَّغَافُلُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: تِسْعَةُ أَعْشَارِ حُسُنِ الْخُلُقِ فِي التَّغَافُلِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ .
أَيَّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ التَّغَافُلِ أَنَّهُ يُكْسِبُ صَاحِبَهُ رَاحَةً فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ الذِي يَقِفُ عِنْدَ كُلِّ كَلِمَةٍ، وَيَرُدُّ عَلَى كُلِّ خَطَأٍ، وَيُحَاسِبُ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، تَتَكَدَّرُ حَيَاتُهُ وَيُنَفِّرُ مَنْ حَوْلَهُ.
فَكَمْ وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ مِنَ مَشَاكِلَ كَانَ سَبَبُهَا تَقَصِّيَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَتَبُّعَ الْأَخْطَاءِ وَالْبَحْثَ عَنِ الْمَقَاصِدِ! وَلَوْ أَنَّهُمْ رُزِقُوا التَّغَافُلَ لَزَالَ عَنْهُمْ شَرٌّ كَثِيرٌ، قَالَ الْأَعْمَشُ رَحِمَهُ اللهُ : التَّغَافُلُ يُطْفِئُ شَرَّاً كَثِيرَاً.
فَكَمْ نَحْنُ بِحِاجَةٍ إِلَى التَّغَافُلِ مَعَ أَوْلادِنَا وَغَضِّ الطَّرْفِ عَنْ أَخْطَائِهِمْ! خُصُوصَاً مَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَفْوِيَّا وَلَمْ يَكُنْ مُتَكَرِّرَاً. وَكَمْ نَحْتَاجُ لِلتَّغَافُلِ مَعَ أَصْحَابِنَا فَلا نُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْهُمْ، وَلا نُحْصِي عَلَيْهِمْ كُلَّ فِعْلٍ صَدَرَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّنَا إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَقَدْنَا مَحَبَّتَهُمْ وَزَالَتْ عَنَّا أُخُوَّتُهُمْ، وَقَدْ قِيلَ: تَنَاسَ مَسَاوِئَ الْإِخْوَانَ تَسْتَدِمْ وُدَّهُم.
أَيَّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ التَّغَافُلِ أَنَّهُ يُكْسِبُ صَاحِبَهُ رَاحَةً فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ الذِي يَقِفُ عِنْدَ كُلِّ كَلِمَةٍ، وَيَرُدُّ عَلَى كُلِّ خَطَأٍ، وَيُحَاسِبُ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، تَتَكَدَّرُ حَيَاتُهُ وَيُنَفِّرُ مَنْ حَوْلَهُ.
فَكَمْ وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ مِنَ مَشَاكِلَ كَانَ سَبَبُهَا تَقَصِّيَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَتَبُّعَ الْأَخْطَاءِ وَالْبَحْثَ عَنِ الْمَقَاصِدِ! وَلَوْ أَنَّهُمْ رُزِقُوا التَّغَافُلَ لَزَالَ عَنْهُمْ شَرٌّ كَثِيرٌ، قَالَ الْأَعْمَشُ رَحِمَهُ اللهُ : التَّغَافُلُ يُطْفِئُ شَرَّاً كَثِيرَاً.
فَكَمْ نَحْنُ بِحِاجَةٍ إِلَى التَّغَافُلِ مَعَ أَوْلادِنَا وَغَضِّ الطَّرْفِ عَنْ أَخْطَائِهِمْ! خُصُوصَاً مَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَفْوِيَّا وَلَمْ يَكُنْ مُتَكَرِّرَاً. وَكَمْ نَحْتَاجُ لِلتَّغَافُلِ مَعَ أَصْحَابِنَا فَلا نُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْهُمْ، وَلا نُحْصِي عَلَيْهِمْ كُلَّ فِعْلٍ صَدَرَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّنَا إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَقَدْنَا مَحَبَّتَهُمْ وَزَالَتْ عَنَّا أُخُوَّتُهُمْ، وَقَدْ قِيلَ: تَنَاسَ مَسَاوِئَ الْإِخْوَانَ تَسْتَدِمْ وُدَّهُم.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا ، وَأَسْتغفرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِروهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِه وَصَحْبِهِ أَجْمَعينَ.
أَمَّا بَعْدُ : فَيَقُولُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ : مَا يَزَالُ التَّغَافُلُ عَنِ الزَّلَّاتِ مِنْ أَرْقَى شِيَمِ الْكِرَامِ، فَإِنَّ النَّاسَ مَجْبُولُونَ عَلَى الزَّلَّاتِ وَالْأَخْطَاءِ، فَإِنِ اهْتِمَّ الْمَرْءُ بِكُلِّ زَلَّةٍ وَخَطِيئَةٍ تَعِبَ وَأَتْعَبَ، وَالْعَاقِلُ الذَّكِيُّ مَنْ لا يُدَقِّقُ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، مَعَ أَهْلِهِ، وَأَحْبَابِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَجِيرَانِهِ، وَزُمَلائِهِ، كَيْ تَحْلُو مُجَالَسَتُهُ، وَتَصْفُو عِشْرَتُهُ.
وَمِنْ مَوَاقِفِ السَّلَفَ السَّابِقِينَ فِي التَّغَافُلِ : أَنَّ حَاتِمَاً الْأَصَمَّ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ يَكُنْ بِسَمْعِهِ بَأْسٌ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَوْقِفٍ حَصَلَ لَهُ, فَقَدْ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَسَأَلَتْ عَنْ مَسْأَلَةٍ ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا صَوْتٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَخَجِلَتْ ،فَقَالَ حَاتِمٌ : ارْفَعِي صَوْتَكَ, فَأَوْهَمَهَا أَنَّهُ أَصَمُّ, فَسُرَّتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ ، وَقَالَتْ : إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الصَّوْتَ, فَلُقِّبَ بِحَاتِمِ الْأَصِمِّ.
وَقَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رَحِمَهُ اللهُ مُتَحَدِّثًا عَنْ صَلَاحِ الدِّينِ الْأَيُّوبِي رَحِمَهُ اللهُ : وَكَانَ صَبُورَاً عَلَى مَا يَكْرَهُ، كَثِيرَ التَّغَافُلِ عَنْ ذُنُوبِ أَصْحَابِهِ، يَسْمَعُ مِنٍ أَحَدِهِمْ مَا يَكْرَهُ، وَلا يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَلا يَتَغَيَّرُ عَلَيْهِ.
وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ جَالِسَاً وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، فَرَمَى بَعْضَ الْمَمَالِيكِ بَعْضَاً بِسَرْمُوز (أي: نَعْلٍ) فَأَخْطَأَتْهُ، وَوَصَلَتْ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ فَوَقَعَتْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى يُكَلِّمُ جَلِيسَهُ؛ لِيَتَغَافَل عَنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رَحِمَهُ اللهُ مُتَحَدِّثًا عَنْ صَلَاحِ الدِّينِ الْأَيُّوبِي رَحِمَهُ اللهُ : وَكَانَ صَبُورَاً عَلَى مَا يَكْرَهُ، كَثِيرَ التَّغَافُلِ عَنْ ذُنُوبِ أَصْحَابِهِ، يَسْمَعُ مِنٍ أَحَدِهِمْ مَا يَكْرَهُ، وَلا يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَلا يَتَغَيَّرُ عَلَيْهِ.
وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ جَالِسَاً وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، فَرَمَى بَعْضَ الْمَمَالِيكِ بَعْضَاً بِسَرْمُوز (أي: نَعْلٍ) فَأَخْطَأَتْهُ، وَوَصَلَتْ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ فَوَقَعَتْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى يُكَلِّمُ جَلِيسَهُ؛ لِيَتَغَافَل عَنْهَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنِ التَّغَافُلِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ لا يَعْنِي تَرْكَ النَّصِيحَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ لا مَنَاصَ مِنْهُ لِمَنْ يَقْدِرُ, فَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) قُلْنَا لِمَنْ ؟ قَالَ (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ) رَوَاهُ مُسْلِم. لَكِنْ مَا كَانَ يُمْكِنُ التَّغَاضِي عَنْهُ وَتَرْكَ الْمُوَاجَهَةِ وَإِرْجَاءِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فَافْعَلْهُ, وَالْمُوَفَّقُ مَنِ اسْتَطَاعَ إِبْلَاغَ الْمُخَالِفِ بِخَطَأِهِ بِطَرِيقَةٍ لَبِقَةٍ بِدُونَ أَنْ يُحْرِجَ مَنْ فَعَلَ الْخَطَأَ , وَلِذَلِكَ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُنْكِرُ فِعْلَاً فُعِلَ فَيَقُولُ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا أَوْ يَقُولُونَ كَذَا. مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ شَخْصَاً أَوْ يَقْصِدَهُ بِالْكَلَامِ .
فَأَسْأَلُ اللهَ الْكَرِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنِ اسْتَمَعَ الْقَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَهُ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى فِعْلِ الصَّالِحَاتِ، وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبِّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً، فَاقْبِضْنَا إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعِينَ وَلا مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَل، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الْعَظِيمِ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ ، لَنَا وَلِأَهْلِينَا وَذُرِّيَّاتِنَا ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
المرفقات
مَا أَحْوَجَنَا لِهَذَا الْخُلُقِ 13 جُمَادَ الأُولَى 1438هـ.doc
مَا أَحْوَجَنَا لِهَذَا الْخُلُقِ 13 جُمَادَ الأُولَى 1438هـ.doc
المشاهدات 2993 | التعليقات 4
جميلة في موضوعها وسباكتها سلمت اناملك
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
خطبةجميلةجدا وفيها الإستدلال القوي والمقنع
عبدالله العباد
جزاك الله خيرا على ماقدمت من اعمال جليلة وخطب متميزة اضافت لهذا المنبر رونقا جميلا
تعديل التعليق