ما أحسن هذا!

سامي بن محمد العمر
1446/03/02 - 2024/09/05 16:52PM

ما أحسن هذا!

(حول الإصلاح بين الناس)

 

 

ما أحسن هذا!

ما أحسن أن تؤتى خصلة من خصال الأنبياء، وفهما من فهوم العلماء، ورجاحة عقل من أذهان الشرفاء.

ما أحسن أن يستعملك الله في تحقيق مقاصد شرعه، ويؤيد بك حِكَم دينه.

ما أحسن أن تحمل قلباً سليماً، وعقلاً حكيماً، وهمة وقادة، ومحبة صادقة، لتكون في الصف الأول الذي يصد هجمات الشيطان عن أهل الإيمان، ويفسد مشاريع الصدود والهجران، والقطيعة والحرمان.

فإنه حين أيس الشيطان من أن يُعِيد جزيرة العرب لما كانت عليه من الشرك بالله؛ فقد سلك مسلكاً مشيناً، واتخذ نهجاً خطيراً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم))([1]).

وهذا التحريش: إنما ينقاد له ضعاف الإيمان والعقول والأخلاق، فتراهم أهل الخصومات والتنازع، والشحناء والبغضاء والقطيعة لأتفه الأسباب وأقل الأمور؛ والتي تنشأ غالباً من زلة غير مقصودة ومزحة غير مدروسة، أو من وشاياتِ أهل المفاسد، ونميمة سيئي المقاصد.

وحين يَفْسُد ما بين الإخوة من الود، وتظهر بينهم أمارات الضغينة والصدّ، وتعلو أصوات السب والشتم، وتفوح رائحة البغض والعداوة؛ فهناك ستُشغل المحاكم بالقضايا، وستمتلئ السجون بالبلايا، وستدمر بيوت وأسر، وسيكون الآمن في خطر، وستسفك دماء، وتُنتهك حرمات، وستكون الحالقة التي تحلق الدين.

ولأن فساد ذات البين يقع بين الآباء والأبناء، والأصدقاء والزملاء، والإخوة والأخوات، والأزواج والزوجات، كان من حكمة الله تعالى أن يختار من صفوة عباده أناساً من ذوي الأمانة والشهامة، أصحابَ عقل وخبرة، وصبر وإيمان، وفطنة وحنكة، يعرفون أدواء الناس ودواءهم، ويدركون نفوسهم ورغباتهم، ويجيدون التأليف بين المتخاصمَين، والسعي فيما يرضي الطرفين.

إنهم المصلحون لما يفسده الشيطان، الساعون لإصلاح ذات البين، وما أحسن هذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهانئ بن يزيد حين سمع قومه يُكنونه بأبي الحكم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو الحَكَمُ، وإليه الحُكمُ، فلِمَ تَكَنَّى أبا الحَكَمِ))، فقال: إن قومي إذا اختلفُوا في شيء أتوني، فحكمتُ بينهم، فرَضِيَ كِلا الفريقين، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحسَنَ هذا ...))([2]) الحديث.

نعم والله، ما أحسن أن تجمع بين قلبين لم يأتلفا، وطبعين لم يتحدا، وكفين لم يتصافحا، ووجهين لم يتقابلا؛

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة؟)) قالوا: بلى قال: ((إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة))([3]).

ما أحسن الاقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن أهل قباء قد اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فقال: ((اذهبوا بنا نصلح بينهم))([4]).

وصدق القائل:

إنّ المكارم كلّها لو حصّلت ... رجعت بجملتها إلى شيئين

تعظيم أمر الله جلّ جلاله ... والسعي في إصلاح ذات البين

بارك الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

 

أما بعد:

إن هذه الفضائل لإصلاح ذات البين تقتضي من المصلح ابتغاء مرضاة الله بإصلاح النية وتجنبِ المنافع الشخصية، والحذرِ من الرياء وطلب الرئاسة والاستعلاء.

وهي لا تختص بذوي الهيئات وأصحاب النفوذ والعلاقات، بل ينالها أب يصلح بين أبنائه، وأخ يصلح بين إخوانه، وموظف يصلح بين زملائه، وطالب يصلح بين أقرانه، وهكذا لكل من أراد الثواب الجزيل والذكر الجميل {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40].

فلا يحقرنَّ أحد نفسه أن تكون سبباً في الإصلاح بين الناس إذا تقاطعوا، والتقريب بينهم إذا تباعدوا، فتلك استجابة لأمر الله تعالى القائل {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ}، والقائل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}

ولْنُفتش من الآن في العلاقات التي حولنا عن كل اثنين أو عائلتين أو طائفتين تصدع بينهما جدار المحبة، وانهارت بينهما علاقات المودة؛ لعلّ عودة الحياة إلى مجاريها، وجريان المياه في سواقيها تكون على أيدينا فننال الأجر العظيم.

وشعارنا: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

 

اللهم اجعلنا مفاتيح لكل خير ....



([1]) مسلم (2812).
([2]) سنن أبي داود (4955) وغيره، وصححه الألباني.
([3]) سنن أبي داود (4919) ، والترمذي (2509)  ومسند أحمد (27508) وصححه محققو المسند  (45/ 500).
([4]) البخاري (2693).

المرفقات

1725544275_ما أحسن هذا (حول الإصلاح بين الناس).pdf

1725544296_ما أحسن هذا (حول الإصلاح بين الناس).docx

المشاهدات 338 | التعليقات 0