ماذا يملأ وقتك؟
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ، وفَّقَ من شاءَ لطاعتِه، وصدَّ من شاءَ عن معصيتِه، أهلِ المغفرةِ والتَّقوى، أحاطَ بكلِّ شيءٍ علماً، وأحصى كلَّ شيءٍ عدداً، له ما في السماواتِ وما في الأرضِ وما بينهما وما تحتَ الثَّرى، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه وأتوبُ إليه وأستغفرُه، نعمَهُ لا تُحصى، وآلاؤهُ ليسَ لها مُنتهى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، أخشى النَّاسِ لربِّه وأتقى، دلَّ على سَبيلِ الهدى، وحذَّرَ من طريقِ الرَّدى، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، معالمِ الهُدى ومَصابيحِ الدُّجَى والتَّابعينَ ومن تَبعَهم بإحسانٍ وسارَ على نهجِهم واقتفى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، أما بعد:
عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ: رَأَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ وَلَوْ قِيلَ لَهُ: غَدًا الْقِيَامَةُ، مَا كَانَ عِنْدَهُ مَزِيدٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَةِ .. وهَذا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقولُ: أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيَّ: لَوْ قِيلَ لَهُ إِنَّ جَهَنَّمَ تُسَعَّرُ، مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَزِيدَ فِي عَمَلِهِ .. وهُشَيْمٌ يَقولُ: لَوْ قِيلَ لِمَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ عَلَى الْبَابِ مَا كَانَ عِنْدَهُ زِيَادَةٌ فِي الْعَمَلِ .. وَيَنقِلُ لنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ صُورَةً أُخرى عَظِيمَةً بَقولِه: مَا أَتَيْنَا سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ فِي سَاعَةٍ يُطَاعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا إِلَّا وَجَدْنَاهُ مُطِيعًا، إِنْ كَانَ فِي سَاعَةِ صَلَاةٍ وَجَدْنَاهُ مُصَلِّيًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَاعَةَ صَلَاةٍ وَجَدْنَاهُ مُتَوَضِّئًا، أَوْ عَائِدًا مَرِيضًا، أَوْ مُشَيِّعًا لِجِنَازَةٍ، أَوْ قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَكُنَّا نَرَى أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
عبادَ اللهِ ..لعلكم تعجبونَ من أمرِ هؤلاءِ العُظماءِ، وكيفَ وصلوا بطاعتِهم إلى السَّماءِ، ولكنَّ الناسَ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ مقاماتٌ متفاوتةٌ، منهم صاحبُ المقامِ الرفيعِ، والخيرِ الوَسيع، في أعلى عِلِّيِّينَ، الموَفقُونَ لكلِ خيرٍ، المُبعدُونَ عن كلِ شرٍ، فهم محفوظونَ بحفظِ اللهِ تعالى الْكَبِيرِ الْمُتَعَال، من كلِ ما يُبغضُه من الأقوالِ والأفعالِ، اسمعوا كيفَ أنقذَ اللهُ تعالى عبداً من عبادِه في أحلكِ الظروفِ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ)، كلُّ ذلك لأنه كانَ من عبادِه الأخيارِ الذين لهم مقامٌ عندَ اللهِ عظيمٌ.
يا أهلَ الإيمانِ .. إن من عبادِ اللهِ تعالى من سدَّدَ اللهُ جوارحَهم فلا يستعملونها إلا في طاعتِه، جاءَ في الحديثِ القدسي: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلِيَّ عَبْدِيْ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلِيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، ولايَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيْ يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِيْ بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِيْ لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِيْ لأُعِيْذَنَّهُ)، فهل أنت من هؤلاءِ الأولياءِ؟.
ويظهرُ ذلكَ جَليَّاً في أوقاتِ ومواسمِ الطَّاعاتِ، هل تَكونُ مِمن يُسابقُ إلى الباقياتِ الصَّالحَاتِ؟، أم تَذهبُ الأوقاتُ في غَفلةٍ وسُباتٍ؟، صارحْ نفسَك، ما هو الهمُ الحقيقيُّ الذي تحملُه في هذا اليومِ الجديدِ؟، هل هو همُّ الدُّنيا والشَّهواتِ الزَّائلةِ، أم الآخرةِ وما فيها من اللَّذاتِ الهائلةِ؟، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ).
يَقولُ ابنُ القيمِ رحمَه اللهُ: (إذا أصبحَ العبدُ وأمسى وليس همُّه إلا اللهُ وحدَه: تحمَّلَ اللهُ سبحانَه حوائجَه كلَّها، وحمَلَ عنه كلَّ ما أهمَّه، وفرَّغَ قلبَه لمحبِته، ولسانَه لذكرِه، وجوارحَه لطاعتِه، وإن أصبحَ وأمسى والدُّنيا همُّه: حمَّلَه اللهُ همومَها، وغمومَها، وأنكادَها، ووكلَه إلى نفسِه فشغلَ قلبَه عن محبتِه بمحبةِ الخلقِ، ولسانَه عن ذكرِه بذكرِهم، وجوارحَه عن طاعتِه بخدمتِهم وأشغالِهم، فهو يكدحُ كَدحَ الوَحشِ في خدمةِ غيرِه، كالكيرِ ينفخُ بطنَه ويعصرُ أضلاعَه في نفعِ غيرِه، فكلُّ من أعرضَ عن عبوديةِ اللهِ وطاعتِه ومحبتِه بُليَ بعبوديةِ المخلوقِ ومحبتِه وخدمتِه قالَ تعالى: ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَلَهُ قَرِينٌ)، كَلامٌ كَبيرٌ، من عَالِمٍ خبيرٍ.
اللهم وفِّقنا لما تُحبُّ وتَرضى، واجعلْنا أئمَّةً مُهتدينَ، اللهمَّ وفِّقنا للخيرِ وجَنِّبا الشَّرَّ يا ربَّ العالمينَ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمؤمنينَ والمؤمناتِ .. فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
هل تلاحظُ في أعمالِك وأقوالِك، في ليلِك ونهارِك، أنَّك مفتاحٌ لكلِّ خيرٍ، تنفعُ نفسَك وينتفعُ بكَ الغيرُ، فتكونُ ممن قَالَ عنهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ).
أخبرني ما الذي يملأُ وقتَك؟، ماذا تحبُ؟، ماذا تكره؟، مَنْ تصاحبُ؟، ما هي مجالِسُك؟، ماذا تسمعُ؟، ماذا تبصرُ؟، ماذا تقولُ؟، ماذا تقرأُ؟، بماذا تفكرُ؟، فإن كانت توافقُ مرادَ اللهِ تعالى، فأبشر بالخيرِ، فلا يزالُ الإنسانُ كذلك حتى يصلَ إلى أعلى الدَّرجاتِ، كما قالَ إبراهيمُ بنُ أدهمَ رحمَه اللهُ تعالى: (أعلى الدَّرجاتِ أنْ تنقطعَ إلى ربِّك، وتستأنِسَ إليه بقلبِك وعقلِك وجميعِ جوارحِك حتى لا ترجُو إلاَّ ربَّك، ولا تخافُ إلاَّ ذنبَكَ، وترسخُ محبتُه في قلبِك حتى لاتُؤْثِرَ عليها شيئاً، فإذا كنتَ كذلك لم تُبالِ في بَرٍّ كنتَ، أو في بحرٍ، أو في سَهْلٍ، أو في جبلٍ، وكان شوقُك إلى لقاءِ الحبيبِ شوقَ الظمآنِ إلى الماءِ الباردِ، وشوقَ الجائعِ إلى الطَّعامِ الطَّيِّبِ، ويكونُ ذكرُ اللهِ عندَكَ أحلى مِنَ العسلِ، وأحلى من المَاءِ العذبِ الصَّافي عندَ العطشانِ في اليومِ الصَّائفِ).
فيا عبدَاللهِ، فتشْ عن نفسِك، فالأيامُ تسيرُ، والعُمُرُ قصيرُ، تقرَّبَ إلى اللهِ بتقواه، كرِّرْ سؤالَ هُداه، (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)، فإذا هداكَ واصطفاكَ، ووفَّقكَ واجتباكَ، وسدَّدَ جوارحَك، اطمئن قلبُك، فعشتَ سعيداً، ومُتَّ حميداً، وكما قال القائلُ: (إن في الدُّنيا جنَّةً من لم يدخلْها لم يدخلْ جنَّةَ الآخرةِ).
اللهم اجعلْنا ممن إذا أُعطيَ شَكرَ، وإذا أذنبَ استغفرَ، وإذا اُبتليَ صبرَ يا ربَّ العالمينَ، اللهم استعملنا في طاعتِك ولا تستعملنا في معصيتِك، اللهم اجعلنا من عبادِك المتَّقينَ، وحزبِك المفلحينَ، وأوليائِك الصَّالحينَ، فإن أوليائَك لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنونَ، اللهمَّ احفظْ بلادَنا وبلادَ المسلمينَ من كيدِ الأعداءِ، اللهم كُنْ لإخوانِنا المستضعفينَ في كلِّ مكانٍ، فَرِّج همَّهم، ويَسر أمرَهم، اللهمَّ أَمِّنْ خائفَهم، وأَطعمْ جائعَهم، وفُكَّ أسيرَهم، وداوِ جريحَهم، اللهمَّ أبدلْ خوفَهم أمناً، وأبدلْ حربَهم سِلماً، وأبدلْ ذلَّهم عِزَّاً، وأبدلْ فقرَهم غنىً يا أرحمَ الرَّاحمينَ، نَسْأَلُكَ اللهمَّ نَصْرًا تُعِزُّ بِهِ الإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ، وَتٌذِلُّ بِهِ البَاطِلَ وَأَهْلَهُ، اللهمَّ تَوفَّنا وأنتَ راضٍ عنَّا، اللهم اغفرْ لآبائِنا ولأمهاتِنا ولمن له حقٌّ علينا، اللهمَّ اغفر لجميعِ موتى المسلمينَ الذين شهدوا لك بالوحدانيَّةِ ولنبيِّكَ بالرِّسالةِ وماتوا على ذلك .. وآخِرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
المرفقات
1718805356_ماذا يملأ وقتك؟.docx
1718805370_ماذا يملأ وقتك؟.pdf