ماذا يحدث كل صباح؟ (تكفير الجسد للسان) (3)
محمد بن إبراهيم النعيم
كنا نتحدث في خطبتين سابقتين في سلسلة من الخُطب عن أهم الأحداث الصباحية والمسائية التي حدثت في الكون عامة وعلى وجه الأرض خاصة، وأن هذه الأحداث لم أنقلها لكم من مراسلي القنوات الفضائية ولا الصحف المحلية، وإنما نقلت هذه الأخبار والأحداث من أحاديث الصادق المصدوق –صلى الله عليه ومسلم-، وقد ذكرت لكم الحدث الأول الذي حصل في الصباح الباكر وسيحدث عند غروب الشمس أيضا ألا وهو عرض مقاعد الموتى على أصحابها إن كانوا في الجنة أو النار، وأما الحدث الثاني الذي حدث هذا الصباح وقبيل شروق الشمس، فقد تمثل في قيام جميع المخلوقات بتسبيح الله تعالى إلا الشياطين وأغبياء بني آدم.
وأما الحدث الثالث الذي نريد التطرق إليه وقد حدث في أول الصباح أيضا: قيام أعضاء جسم كل ابن آدم على وجه الأرض بتخويف اللسان بالله تعالى ومناشدته أن يقول خيرا، هل تصدقون ذلك؟
فقد روى أبو سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا) رواه الترمذي وابن خزيمة، وابن أبي الدنيا والبيهقي.
أيعقل أن يحدث هذا الحوار بين ألسنتنا وباقي جوارحنا ونحن لا نشعر ولا ندري؟
نعم، فنحن نؤمن بأن أعضاء أجسادنا قد كفرت اللسان منذ الصباح كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-، لا سيما أن هذا الحديث حسنه أهل الحديث، ومعنى تُكفر اللسان أي: تذل وتخضع له.
وقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يخبر عن أشياء هي من عالم الغيب ثم يقول: (فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ)، فقد قال أَبِو هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه-: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- صَلاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً، إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ، فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا، ثَمَّ وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي؟ فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ؟ قَالَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ) متفق عليه.
لذلك فإننا نؤمن بأن أعضاء جسمنا قد تحدثوا ونطقوا هذا الصباح وحذروا اللسان أن يتقي الله تعالى و أن لا يقل إلا خيرا.
قال المناوي في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقِ اللَّهَ فِينَا) أي خفه في حفظ حقوقنا فلا تقتحم منهياً فنهلك معك (فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ) أي نستقيم ونعوج تبعاً لك (فَإِنْ اسْتَقَمْتَ) أي اعتدلت على الصراط المستقيم (اسْتَقَمْنَا) (وَإِنْ اعْوَجَجْتَ) ملت عن الاعتدال (اعْوَجَجْنَا) ملنا.
وقال الغزالي رحمه الله تعالى: المعنى فيه: أن نطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخذلان، فاللسان أشد الأعضاء جِماحاً وطغياناً، وأكثرها فساداً وعدواناً، ويؤكد هذا المعنى قول مالك بن دينار رحمه الله تعالى: إذا رأيت قساوة في قلبك، ووهناً في بدنك، وحرماناً في رزقك، فاعلم أنك تكلمت فيما لا يعنيك. قال الطيبي: وهذا لا تناقض بينه وبين خبر (إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد) إلى آخره، لأن اللسان ترجمان القلب، وخليفته في ظاهر البدن، فإذا أسند إليه الأمر فهو مجاز في الحكم. اهـ
أيها الأخوة إن أعصى الأعضاء على الإنسان اللسان، ويكمن خطر اللسان كما سمعنا في الحديث السابق أن جميع أعضاء الجسم تناشده كل يوم أن يقول خيرا، ويؤكد هذا الأمر الحديث الآخر الذي رواه أبو بكر –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال:(ليس شيء من الجسد إلا و هو يشكو ذَرَبَ اللسان على حِدَتِه) رواه ابن عساكر والبيهقي وصححه الألباني ، ومعنى (ذرب اللسان) أي فحشه.
كما يكمن خطر هذا اللسان أن أكثر خطايا ابن آدم تصدر من لسانه؛ حيث روى عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (أكثر خطايا ابن آدم في لسانه) رواه الطبراني.
ولِمَ أكثر خطايا ابن آدم في لسانه؟ لأن آفات اللسان كثيرة وعديدة تزيد على عشرين آفة والتي منها الكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والسب، والشتم، واللعن، وقذف المحصنات، والسخرية من الآخرين، والهمز، واللمز، وإفشاء السر، وبذاءة اللسان، والخصومة، والجدال بغير الحق، وكثرة المزاح، وكذا فضول الكلام الذي لا حاجة إليه، والكلام بما لا يعنيه، والتشدق في الكلام والتقعر فيه، وغير ذلك.
ألم يحذر النبي –صلى الله عليه وسلم- قائلا: (وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)
فمن أرخى العنان للسانه سلك به الشيطان كل ميدان وأوقعه في آفات اللسان، ومن حفظ لسانه سائر يومه، وألجمه بلجام الشرع، فقد أمضى يومه في مرضاة ربه.
لقد كان أبو بكر-رضي الله عنه- يُخرج لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني شر الموارد" ، وقال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-: "والله الذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان".
فلنتق الله عباد الله، ولنحفظ ألسنتنا، وسائر جوارحنا عما حرم الله تعالى علينا، ولتتذكر على الدوام قول الحق جل وعلا: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً
فهذه آية تترد على أسماعنا كثيرا، وكان –صلى الله عليه وسلم- يقولها في افتتاح كل خطبة، فهل نعي مدلولها وندرك خطرها؟
بارك الله لي ولكم في كلام الرحمن، ونفعني وإياكم بهدي سيدُ ولدِ عدنان، أقول قولي هذا، راجيا الفائدة لكم ورضا المنان، فلنعمل بما سمعنا، فمن يعمل؛ فلنفسه، ومن يهمل؛ فقد تعرض للخسران.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بيده مقاليد الأمور، وبقدرته مفاتيح الخيرات والشرور، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، مخرج أوليائهِ من الظلمات إلى النور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى دار السرور، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه الذين لم تغرهم الحياة الدنيا، ولم يغرهم بالله الغرور وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لهم بإحسان على ممر الدهور.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى ولنحفظ ألسنتنا عما يغضب ربنا، ولنعلم بأن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه.
أعيد لكم الحديث النبوي الذي بدأت به الخطبة كي نتذكر ماذا حدث هذا الصباح وكل صباح فقد قال –صلى الله عليه وسلم--: (إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا).
فالمطلوب من كل مسلم يؤمن أنه في هذا الصباح قد دار حوار بين جسمه وبين لسانه، أن يتذكر عدة أمور:
(أولا) أن تملك عليك لسانك قدر المستطاع:
لأن اللسان أكبر مصدر لخطايا ابن آدم، فقد روى ابن مسعود –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه ومسلم- قال: (أكثر خطايا ابن آدم في لسانه)، ولذلك أوصى النبي –صلى الله عليه وسلم- عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ t أن يملك عليه لسانه حيث قال عقبة: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) رواه الترمذي.
ومن فعل ذلك فله الجنة، ومصداق ذلك ما رواه ثوبان –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال:(طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته) رواه الطبراني. وطوبى هي الجنة.
(ثانيا) أن تسأل الله تعالى أن يجعل في لسانك نورا كلما توجهت إلى المسجد لصلاة الفجر.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- خرج إلى الصلاة – صلاة الفجر- وهو يقول: (اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي لساني نورا، واجعل في سمعي نورا، واجعل في بصري نورا، واجعل من خلفي نورا، ومن أمامي نورا، واجعل من فوقي نورا، ومن تحتي نورا، اللهم أعطني نورا) متفق عليه، وفي رواية عند النسائي بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال هذا الدعاء في سجوده.
(ثالثا) أن تستعيذ من شر لسانك
فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- بأمر الصحابة رضي الله عنهم أن يستعيذوا من شر ألستتهم، حيث روى شَكَلِ بْنِ حُمَيْدٍ –رضي الله عنه- قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي تَعَوُّذًا أَتَعَوَّذُ بِهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِكَتِفِي فَقَالَ: (قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وفي رواية النسائي أنه قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَنْتَفِعُ بِهِ قَالَ: قُلْ: (اللَّهُمَّ عَافِنِي مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَلِسَانِي، وَقَلْبِي، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي). ومتى ما استجاب الله لك؛ سيكفيك شر لسانك.
(رابعا) أن تجعل لسانك رطبا من ذكر الله
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ –رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: (لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) رواه الترمذي.
وروى معاذ بن جبل –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله) رواه ابن حبان.
فقل خيرا يا عبد الله تغنم وإلا فاعلم أنك غدا ستندم.
ولعلنا نلتقي في خطبة قادمة مع خبر آخر من أحداث الصباح التي حدثت اليوم وتحدث كل يوم.
أسأل الله تعالى أن يطهر ألسنتنا ويحفظها عما يغضب ربنا.
حفظني الله وإياكم من شر ألسنتنا، وجعلنا ممن يذكر الله تعالى قياما وقعودا وعلى جنوبهم. اللهم ألهمنا رشدنا وحبب الإيمان إلينا وزينه في قلوبنا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وألسنتنا من الكذب....
اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا
اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا،
15/7/1432هـ