ماذا بعد رمضان ؟!-1-10-1436هـ-عبد الله الروقي-الملتقى-بتصرف
محمد بن سامر
1436/09/29 - 2015/07/16 19:48PM
[align=justify]إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الإخوة، إنَّ من نعمِ اللهِ-عزَّ وجلَّ-على عبادِه، أنْ جعلَ لهم أوقاتًا فاضلةً، يتزودونَ فيها من الطاعاتِ، فتُضاعفُ حسناتُهم، وتُغفرُ سيئاتُهم، ومن هذه المواسمِ شهرُ رمضان المبارك، الذي يجتهدُ فيه الموفقونَ في العباداتِ، والفضلُ في ذلك للهِ-سبحانه وتعالى-فهو الذي مَنَّ على عبادِه بإدراكِ الشهرِ، وهو الذي وفقَهم لصيامِه وقيامِه، وأعانَهم على ذلك، ولهذا أمرَهم بشكرِ هذهِ النعمِ بقولِه-تعالى-:[وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون].
فنسألُ اللهَ أنْ يعينَنَا وإياكم والمسلمينَ على ذكرِه وشكرِه وحسنِ عبادتِه.
أحبتي الكرام: إنِ انقضى شهرُ رمضانَ، فعملُ المؤمنِ لا ينقضي حتى يأتيَه أجلُه، قال الحسنُ البصريُّ-رحمَه اللهُ-: "إنَّ اللهَ لم يجعلْ لعملِ المؤمنِ أجلا دونَ الموتِ، ثم قرأ: [واعبدْ ربَك حتى يأتيَك اليقينُ].
هذه الشهورُ والأعوامُ، والليالي والأيامُ، كلها مقاديرُ للآجالِ، ومواقيتُ للأعمالِ، ثم تنقضي سريعًا، وتمضي جميعًا، والذي أوجدَها وابتدعَها، وخصَّها بالفضائلِ وأودعها، باقٍ لا يزولُ، ودائمٌ لا يحولُ، هو في جميعِ الأوقاتِ إلهٌ واحدٌ، ولأعمالِ عبادِه رقيبٌ مشاهدٌ، فسبحانَ من قلَّبَ عبادَه في اختلافِ الأوقاتِ بين أنواعِ الطاعاتِ، يُسبِغُ عليهم فيها فواضلَ النعمِ، ويعاملُهم بنهايةِ الجودِ والكرمِ، لما انقضى شهرُ الصيامِ، أقبلتْ أشهرُ الحجِ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ، فكما أنَّ مَن صامَ رمضانَ وقامَه غُفرَ له ما تقدمَ من ذنبِه، فمَن حجَّ البيتَ ولم يرفثْ ولم يَفْسُقْ رجعَ من ذنوبِه كيومِ ولدتْه أمُه، فما يمضي من عمرِ المؤمنِ ساعةٌ من الساعاتِ، إلا وللهِ فيها عليه وظيفةٌ من وظائفِ الطاعاتِ، فالمؤمنُ يتقلبُ بين هذه الوظائفِ، ويتقربُ بها إلى مولاه وهو راجٍ خائف.
إن المؤمنَّ لا يَمَلُّ مِن التقربِ بالنوافلِ إلى مولاه، ولا يأملُ إلا قربَه ورضاه.
كلُّ وقتٍ يُخْلِيهِ العبدُ مِن طاعةِ مولاه فقدْ خسرَه، وكلُّ ساعةٍ يَغْفَلُ فيها عن ذكرِ اللهِ تكونُ عليه يومِ القيامةِ حسرةٌ.
أيها الأحبة: هذه ثلاثُ وقفاتٍ للتذكيرِ بشيء مما يُشْرَعُ للمسلمِ فعلُه بعدَ رمضانَ:
الوقفةُ الأولى: اجتهدَ كثيرٌ مِن المسلمينَ في الأعمالِ الصالحةِ مِنَ الصيامِ والقيامِ، والزكاةِ والصدقةِ، وقراءةِ القرانِ والدعاءِ والذكرِ وغيرِها، لكنَّ السؤالَ المهمَ هو: هل تقبلَ اللهُ هذه الأعمالَ أم لا؟
يقول الله-تعالى-: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ]، وعن أمِنا عائشة-رضي الله عنها-قالت: "سألتُ رسولَ اللهِ-صلى الله عليه وآله وسلم-عن هذه الآية: [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] أهمُ الذين يشربونَ الخمرَ ويَسرقونَ؟ فقال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَلا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ".
لقدْ كانَ السلفُ الصالحُ-رحمَهم الله-يجتهدونَ في إكمالِ العملِ وإتقانِه، ثم يقعُ عليهم الهمُّ بعد ذلك في قبولِه، ويخافون من ردِه، فقد كانوا لقبولِ العملِ أشدَّ اهتمامًا منهم بالعملِ.
قال فَضَالةُ بنُ عُبيدٍ-رحمَه الله-: "لأَنْ أعلمَ أنَّ اللهَ قدَ تقبلَ مني مثقالَ حبةٍ مِنْ خردلِ أحبُّ إلي مِن الدنيا وما فيها لأنَّ اللهَ يقولُ: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ].
وقال عبدُالعزيزِ بنُ أبي روادٍ-رحمَه اللهُ-: أدركتُهم يجتهدونَ في العملِ الصالحِ، فإذا فعلوه وقعَ عليهم الهمُّ أَيُقبلُ منهم أم لا؟
وكان بعضُ السلفِ يقولُ في آخرِ ليلةٍ مِن رمضانَ: "يا ليتَ شِعري مَن هذا المقبولُ فنُهنِيهِ، ومن هذا المحرومُ فنُعزِيهِ".
فعلى المسلمِ أنْ يُكْثِرَ مِن دعاءِ اللهِ-عزَّوجلَّ-أنْ يَتقبلَ صيامَه وقيامَه، وأنْ يتجاوزَ عن تقصيرِه.
الوقفةُ الثانيةُ: يُشرعُ للمؤمنِ أنْ يجتهدَ في الطاعاتِ، ويستكثرَ مِن الخيراتِ، مادام حيًا، قال اللهُ-تعالى-: [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ]، واليقينُ هو الموتُ، وقال اللهُ-تعالى-: [فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ].
وقال-تعالى-: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ].
فالمؤمنُ مأمورٌ بالعملِ الصالحِ مدةَ حياتِه، ومأمورٌ بالصبرِ عليه في الأوقاتِ الفاضلةِ وغيرِها، فإنَّ الأعمالَ الصالحةَ ليستْ مختصةً برمضانَ، بل هي مشروعةٌ طُولَ العامِ كالصلاةِ، والحجِّ، وصومِ النوافلِ، والصدقةِ، والدعاءِ والذِكرِ.
ومِن هذِه الأعمالِ صيامُ ستةِ أيامٍ مِن شوالَ، فقد روى مسلمٌ في صحيحِه: أنَّ النبيَّ-صلى الله عليه وآله وسلم-قال: "مَن صامَ رمضانَ ثم أتبعَه بستٍّ مِن شوالَ كان كصيامِ الدهرِ"؛ لأنَّ اللهَ-جلَّ وعلا-جعلَ الحسنةَ بعشرِ أمثالِها، فصيامُ رمضانَ يُعدُّ مُضاعفًا بعشرةِ شُهورٍ، وصيامُ هذه الأيامِ الستّةِ بستين يومًا، فيكونُ له أجرُ صيامِ سنةٍ كاملةٍ.
لكنَّ هذا الأجرَ الواردَ في الحديثِ لا يكونُ إلا لمَن صامَ رمضانَ كاملا، فمَن كان عليه قضاءٌ فلا بُدَّ أن يقضيَه، ثم يصومَ الستَ، فقولُه-صلى الله عليه وآله وسلم-مَن صامَ رمضانَ-أي صامَه كلَّه، ثم صامَ الستةَ بعدَه، وهذه الأيامُ الستةُ يجوز صومُها متتابعةٌ ومتفرقةٌ، ومَن صامَها في سنةٍ فلا يجبُ عليه أنْ يُداومَ عليها كلَّ سنةٍ.
فليحرصِ المسلمُ على صيامِها بعدَ رمضانَ، فإنَّ صيامَها يُكَمِّلُ ما حصلَ في الفرضِ مِن خَللٍ ونقصٍ، لأنَّ الفرائضَ تُجْبَرُ بالنوافلِ يومَ القيامةِ، قالَ-صلى الله عليه وآله وسلم-: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلاَةُ، قَالَ يَقُولُ رَبُّنَا-جَلَّ وَعَزَّ-لِمَلاَئِكَتِهِ-وَهُوَ أَعْلَمُ-: اُنْظُرُوا فِى صَلاَةِ عَبْدِي أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ: اُنْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ: أَتِمِّوا لِعَبْدِي فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُمْ".
فدلَّ قولُه-صلى الله عليه وآله وسلم-في آخرِ الحديثِ: "ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُمْ"، على أنَّ سائرَ أنواعِ التطوعِ مِنَ العباداتِ تُكَمَّلُ بها الفرائضُ، ومِن ذلك الصيامُ فنفلُه يَجبُرُ فرضَه ويُكَمِّلُهُ.
قالَ الحافظُ ابنُ رجبٍ-رحمَه اللهُ-: "وأكثرُ الناسِ في صيامهِ للفرضِ نقصٌ وخللٌ، فيحتاجُ إلى ما يَجبُرُه ويُكَمِّلُهُ مِن الأعمالِ.
[/align][align=justify]
أما بعد: فمما يُشرعُ مِن الصيامِ-أيضًا-صيامُ ثلاثةِ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-قَالَ: "أَوْصَانِي خَلِيلِي-صلى الله عليه وآله وسلم-بِثَلاَثٍ: صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ"، وكذا يُشرعُ صيامُ الاثنينِ والخميسِ، والنوافلُ في هذا البابِ كثيرةٌ والحمدُ للهِ.
الوقفةُ الثالثةُ: مَن كان مقصرًا عاصيًا، ولمْ يَتَغَيَّرْ حالُه في رمضانَ فهذا يُقالُ له: إن اليومَ الواحدَ بل الثانيةَ من عمرِ المسلمِ غنيمةٌ عظيمةٌ فبادرْ، فبابُ التوبةِ مفتوحٌ، وربُك الكريمُ الأكرمُ يقولُ كلَّ ليلةٍ في الثلثِ الآخرِ: "هلْ مِن مستغفرٍ! هل مِن تائبٍ! هل مِن سائلٍ! هل من داعٍ!".
ويبسطُ-سبحانه-يدَه بالنهارِ ليتوبَ مسيءُ الليلِ، ويبسطُ يدَه بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النهارِ.
فليعجلْ المقصرْ-وكلُنا كذلك-بالتوبة قبل أن يُفاجِئَهُ الأجلُ، فيسألَ الرجعةَ فلا يُجابُ إلى ما سألَ.
فرحمَ اللهُ عبدًا تَفَكَّرَ في نفسِه، قبلَ حلولِ قبرِه، وحاسبَها عن يومِه وأمسِه قال-تعالى-: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ].
فبادرْ-يا عبدَاللهِ-إلى التوبةِ قبلَ حُلولِ الأجلِ، قبلَ أنْ تُصبحَ مُرتهنًا بما قدمْتَ مِنْ عملٍ، قال-تعالى-: [حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ].
[/align]
فيا أيها الإخوة، إنَّ من نعمِ اللهِ-عزَّ وجلَّ-على عبادِه، أنْ جعلَ لهم أوقاتًا فاضلةً، يتزودونَ فيها من الطاعاتِ، فتُضاعفُ حسناتُهم، وتُغفرُ سيئاتُهم، ومن هذه المواسمِ شهرُ رمضان المبارك، الذي يجتهدُ فيه الموفقونَ في العباداتِ، والفضلُ في ذلك للهِ-سبحانه وتعالى-فهو الذي مَنَّ على عبادِه بإدراكِ الشهرِ، وهو الذي وفقَهم لصيامِه وقيامِه، وأعانَهم على ذلك، ولهذا أمرَهم بشكرِ هذهِ النعمِ بقولِه-تعالى-:[وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون].
فنسألُ اللهَ أنْ يعينَنَا وإياكم والمسلمينَ على ذكرِه وشكرِه وحسنِ عبادتِه.
أحبتي الكرام: إنِ انقضى شهرُ رمضانَ، فعملُ المؤمنِ لا ينقضي حتى يأتيَه أجلُه، قال الحسنُ البصريُّ-رحمَه اللهُ-: "إنَّ اللهَ لم يجعلْ لعملِ المؤمنِ أجلا دونَ الموتِ، ثم قرأ: [واعبدْ ربَك حتى يأتيَك اليقينُ].
هذه الشهورُ والأعوامُ، والليالي والأيامُ، كلها مقاديرُ للآجالِ، ومواقيتُ للأعمالِ، ثم تنقضي سريعًا، وتمضي جميعًا، والذي أوجدَها وابتدعَها، وخصَّها بالفضائلِ وأودعها، باقٍ لا يزولُ، ودائمٌ لا يحولُ، هو في جميعِ الأوقاتِ إلهٌ واحدٌ، ولأعمالِ عبادِه رقيبٌ مشاهدٌ، فسبحانَ من قلَّبَ عبادَه في اختلافِ الأوقاتِ بين أنواعِ الطاعاتِ، يُسبِغُ عليهم فيها فواضلَ النعمِ، ويعاملُهم بنهايةِ الجودِ والكرمِ، لما انقضى شهرُ الصيامِ، أقبلتْ أشهرُ الحجِ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ، فكما أنَّ مَن صامَ رمضانَ وقامَه غُفرَ له ما تقدمَ من ذنبِه، فمَن حجَّ البيتَ ولم يرفثْ ولم يَفْسُقْ رجعَ من ذنوبِه كيومِ ولدتْه أمُه، فما يمضي من عمرِ المؤمنِ ساعةٌ من الساعاتِ، إلا وللهِ فيها عليه وظيفةٌ من وظائفِ الطاعاتِ، فالمؤمنُ يتقلبُ بين هذه الوظائفِ، ويتقربُ بها إلى مولاه وهو راجٍ خائف.
إن المؤمنَّ لا يَمَلُّ مِن التقربِ بالنوافلِ إلى مولاه، ولا يأملُ إلا قربَه ورضاه.
كلُّ وقتٍ يُخْلِيهِ العبدُ مِن طاعةِ مولاه فقدْ خسرَه، وكلُّ ساعةٍ يَغْفَلُ فيها عن ذكرِ اللهِ تكونُ عليه يومِ القيامةِ حسرةٌ.
أيها الأحبة: هذه ثلاثُ وقفاتٍ للتذكيرِ بشيء مما يُشْرَعُ للمسلمِ فعلُه بعدَ رمضانَ:
الوقفةُ الأولى: اجتهدَ كثيرٌ مِن المسلمينَ في الأعمالِ الصالحةِ مِنَ الصيامِ والقيامِ، والزكاةِ والصدقةِ، وقراءةِ القرانِ والدعاءِ والذكرِ وغيرِها، لكنَّ السؤالَ المهمَ هو: هل تقبلَ اللهُ هذه الأعمالَ أم لا؟
يقول الله-تعالى-: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ]، وعن أمِنا عائشة-رضي الله عنها-قالت: "سألتُ رسولَ اللهِ-صلى الله عليه وآله وسلم-عن هذه الآية: [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] أهمُ الذين يشربونَ الخمرَ ويَسرقونَ؟ فقال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَلا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ".
لقدْ كانَ السلفُ الصالحُ-رحمَهم الله-يجتهدونَ في إكمالِ العملِ وإتقانِه، ثم يقعُ عليهم الهمُّ بعد ذلك في قبولِه، ويخافون من ردِه، فقد كانوا لقبولِ العملِ أشدَّ اهتمامًا منهم بالعملِ.
قال فَضَالةُ بنُ عُبيدٍ-رحمَه الله-: "لأَنْ أعلمَ أنَّ اللهَ قدَ تقبلَ مني مثقالَ حبةٍ مِنْ خردلِ أحبُّ إلي مِن الدنيا وما فيها لأنَّ اللهَ يقولُ: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ].
وقال عبدُالعزيزِ بنُ أبي روادٍ-رحمَه اللهُ-: أدركتُهم يجتهدونَ في العملِ الصالحِ، فإذا فعلوه وقعَ عليهم الهمُّ أَيُقبلُ منهم أم لا؟
وكان بعضُ السلفِ يقولُ في آخرِ ليلةٍ مِن رمضانَ: "يا ليتَ شِعري مَن هذا المقبولُ فنُهنِيهِ، ومن هذا المحرومُ فنُعزِيهِ".
فعلى المسلمِ أنْ يُكْثِرَ مِن دعاءِ اللهِ-عزَّوجلَّ-أنْ يَتقبلَ صيامَه وقيامَه، وأنْ يتجاوزَ عن تقصيرِه.
الوقفةُ الثانيةُ: يُشرعُ للمؤمنِ أنْ يجتهدَ في الطاعاتِ، ويستكثرَ مِن الخيراتِ، مادام حيًا، قال اللهُ-تعالى-: [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ]، واليقينُ هو الموتُ، وقال اللهُ-تعالى-: [فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ].
وقال-تعالى-: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ].
فالمؤمنُ مأمورٌ بالعملِ الصالحِ مدةَ حياتِه، ومأمورٌ بالصبرِ عليه في الأوقاتِ الفاضلةِ وغيرِها، فإنَّ الأعمالَ الصالحةَ ليستْ مختصةً برمضانَ، بل هي مشروعةٌ طُولَ العامِ كالصلاةِ، والحجِّ، وصومِ النوافلِ، والصدقةِ، والدعاءِ والذِكرِ.
ومِن هذِه الأعمالِ صيامُ ستةِ أيامٍ مِن شوالَ، فقد روى مسلمٌ في صحيحِه: أنَّ النبيَّ-صلى الله عليه وآله وسلم-قال: "مَن صامَ رمضانَ ثم أتبعَه بستٍّ مِن شوالَ كان كصيامِ الدهرِ"؛ لأنَّ اللهَ-جلَّ وعلا-جعلَ الحسنةَ بعشرِ أمثالِها، فصيامُ رمضانَ يُعدُّ مُضاعفًا بعشرةِ شُهورٍ، وصيامُ هذه الأيامِ الستّةِ بستين يومًا، فيكونُ له أجرُ صيامِ سنةٍ كاملةٍ.
لكنَّ هذا الأجرَ الواردَ في الحديثِ لا يكونُ إلا لمَن صامَ رمضانَ كاملا، فمَن كان عليه قضاءٌ فلا بُدَّ أن يقضيَه، ثم يصومَ الستَ، فقولُه-صلى الله عليه وآله وسلم-مَن صامَ رمضانَ-أي صامَه كلَّه، ثم صامَ الستةَ بعدَه، وهذه الأيامُ الستةُ يجوز صومُها متتابعةٌ ومتفرقةٌ، ومَن صامَها في سنةٍ فلا يجبُ عليه أنْ يُداومَ عليها كلَّ سنةٍ.
فليحرصِ المسلمُ على صيامِها بعدَ رمضانَ، فإنَّ صيامَها يُكَمِّلُ ما حصلَ في الفرضِ مِن خَللٍ ونقصٍ، لأنَّ الفرائضَ تُجْبَرُ بالنوافلِ يومَ القيامةِ، قالَ-صلى الله عليه وآله وسلم-: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلاَةُ، قَالَ يَقُولُ رَبُّنَا-جَلَّ وَعَزَّ-لِمَلاَئِكَتِهِ-وَهُوَ أَعْلَمُ-: اُنْظُرُوا فِى صَلاَةِ عَبْدِي أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ: اُنْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ: أَتِمِّوا لِعَبْدِي فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُمْ".
فدلَّ قولُه-صلى الله عليه وآله وسلم-في آخرِ الحديثِ: "ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُمْ"، على أنَّ سائرَ أنواعِ التطوعِ مِنَ العباداتِ تُكَمَّلُ بها الفرائضُ، ومِن ذلك الصيامُ فنفلُه يَجبُرُ فرضَه ويُكَمِّلُهُ.
قالَ الحافظُ ابنُ رجبٍ-رحمَه اللهُ-: "وأكثرُ الناسِ في صيامهِ للفرضِ نقصٌ وخللٌ، فيحتاجُ إلى ما يَجبُرُه ويُكَمِّلُهُ مِن الأعمالِ.
[/align][align=justify]
الخطبة الثانية
الوقفةُ الثالثةُ: مَن كان مقصرًا عاصيًا، ولمْ يَتَغَيَّرْ حالُه في رمضانَ فهذا يُقالُ له: إن اليومَ الواحدَ بل الثانيةَ من عمرِ المسلمِ غنيمةٌ عظيمةٌ فبادرْ، فبابُ التوبةِ مفتوحٌ، وربُك الكريمُ الأكرمُ يقولُ كلَّ ليلةٍ في الثلثِ الآخرِ: "هلْ مِن مستغفرٍ! هل مِن تائبٍ! هل مِن سائلٍ! هل من داعٍ!".
ويبسطُ-سبحانه-يدَه بالنهارِ ليتوبَ مسيءُ الليلِ، ويبسطُ يدَه بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النهارِ.
فليعجلْ المقصرْ-وكلُنا كذلك-بالتوبة قبل أن يُفاجِئَهُ الأجلُ، فيسألَ الرجعةَ فلا يُجابُ إلى ما سألَ.
فرحمَ اللهُ عبدًا تَفَكَّرَ في نفسِه، قبلَ حلولِ قبرِه، وحاسبَها عن يومِه وأمسِه قال-تعالى-: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ].
فبادرْ-يا عبدَاللهِ-إلى التوبةِ قبلَ حُلولِ الأجلِ، قبلَ أنْ تُصبحَ مُرتهنًا بما قدمْتَ مِنْ عملٍ، قال-تعالى-: [حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ].
[/align]