ماذا بعد رمضان؟

خالد علي أبا الخيل
1436/11/28 - 2015/09/12 16:32PM
ماذا بعد رمضان؟
التاريخ: الجمعة: 2/ 9 /1436 هـ

الحمد لله على الدوام، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، على ممر العصور والأعوام.
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، صلى الله عليه، ورضي الله عن أصحابه الكرام، لا سيما أهل الفضل والإحسان، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر أصحاب ولد عدنان، وأمهات أهل الإيمان، رضي الله عنهم، ورزقنا حبهم، وحشرنا من زمرتهم.
عباد الله: يجب على العبد أن يستمر على الطاعة، ويثبت على الاستقامة، ويواصل العبادة، ويستقيم على دينه، فلا يعبد الله في شهر دون شهر، ولا في يوم دون يوم، ولا زمان دون زمان، ولا مكان دون مكان، مترسمًا قول الحق الرحيم الرحمن: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 99)، ومتمثلًا قوله تبارك وتعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (هود: 112)، ولاحظ قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (هود: 112)، ولم يقل: متى شئت، أو متى أردت، أو متى فرغت. أو جُعل له الخيار، بل كما أُمرت بأمر الواحد القهار، وقال سبحانه: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) (فصلت: 6)، وفي مسلم عن أبي عبد الله سفيان بن عبد الله: قلت: قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك؟. قال: (قل: آمنت بالله. ثم استقم).
فعليه –عباد الله-: وإن انتهت أعمال في رمضان، وقربات في شهر القرآن، وأيام بالطاعة معمورة، وليال بالعبادة مغمورة، فإن الأعمال لا تنتهي، والعبادات لا تنقضي، فلئن انتهى قراءة القرآن وسماعه، فالقرآن مطلوب قراءته وتدبره وسماعه، وعدم إقلاله وهجره، ولئن انقضى شهر الوتر والدعاء، فالدعاء ليس له وقت وانتهاء، ولئن انتهى شهر الصيام، فهناك أنواع من نوافل الصيام، كالست من شوال، فمن صام الست من شوال كان كمن صام الدهر، كما رواه مسلم، ولئن انقضى شهر القيام، فالقيام مستمر طوال العام، (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذاريات: 17)، ولئن ذهبت الصدقة، فالصدقة أبوابها مشرعة، ونوافذها متعددة، وهكذا سلسلة الأعمال، فاجتهد –بارك الله فيك- أخي المسلم في الطاعات، وبادر الساعات، واحذر الكسل والتفريط والإهمال، والفتور والعجز ونقص الأعمال، وإياك الرجوع إلى القهقرى، والانتكاس على الورا، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن السلب بعد العطاء، فإن أبيت –أخي المسلم- وقصرت، وضعفت وكسلت، فاحذر التهاون والكسل في المفروضات، والقيام بالواجبات، وارتكاب المحرمات والمنهيات.
أيها المسلمون: لقد ودعتم شهرًا كريمًا، وموسمًا عظيمًا، فكم لله من جهود بُذلت! وأجساد عملت! وقلوب خشعت! وأكف رُفعت! ودموع ذرفت! وعبرات سُكبت!، لقد مر علينا وهو شاهد لنا أو علينا، فنسأل أنفسنا ونتساءل: ماذا أودعناه؟ هل كان همنا بعد انتهائه الفرح بإكماله وإتمامه؟ فحمدنا الله وشكرناه، هل وجلت قلوبنا، وذرفت عيوننا، وحزنت نفوسنا؟ هل كان إشفاقنا على قبول صيامه وقيامه كما كان السلف الصالح؟ حيث كانوا يهتمون لقبول أعمالهم؛ لأن المعول على القبول.
سألت عائشة –رضي الله عنها- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون: 60)، أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟. قال: (لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون ألا يُقبل منهم)، رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، ولا غرو –عباد الله- حينما نسمع حينئذ عن السلف أنهم يدعون الله ستة أشهر أن يقبل منهم صيامهم.
غريب جدّ غريب: أولئك الذين سرعان ما انتكسوا، وفجأة انتكسوا، فعادوا إلى السيئات، وهجروا الطاعات، وضيعوا الصلوات، واتبعوا الشهوات!.
غريب وعجيب: أولئك الذين لا يعملون الطاعات ويتركون السيئات إلا في مواسم معينة، وأوقات محدودة، ولما سئل بعض السلف عن أناس لا يتعبدون الله إلا في رمضان، فإذا انسلخ الشهر تركوا، قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان. الله أكبر، وسبحان الله.
إخوتي في الله: أين آثار الصيام؟ أين دروسه وتهذيبه على الأنام؟ أين الرغبة في المتاجرة مع الرحيم الرحمن؟ المؤمن –عباد الله- يعبد الله في السراء والضراء، في السر والعلانية، لا ينتهي حتى ينتهي أجله، وقد قال سبحانه لنبيه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 99)، ولما قرأ الحسن البصري هذه الآية قال: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلًا دون الميت. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كلمته الجميلة: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
فنداء ملؤه الإشفاق والحنان: إلى تلك النفوس الضعيفة التي ودعت صالح الأعمال بوداعها شهر رمضان، أولئك الذين عزموا على العودة بعد الصفوة، وإلى المعاصي بعد زبول المعاصي، أن يتقوا الله ويراقبوه، ويرجوه ويخافوه، فالعمر قصير، والزمان يسير، والآجال محدودة، والأنفاس معدودة.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله الإله الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأكرمين، والتابعين، وعنا معهم، بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإسلام: إن للمداومة على الأعمال الصالحة فوائد مثمرة، ونتائج محققة، فمنها على سبيل المثال:
أنها أحب إلى الكبير المتعال: فأحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ.
وكذا محبوب إلى المصطفى: فقد سأل مسروق عائشة: أي العمل أحب إلى رسول الله؟. قالت: أدومه. متفق على صحته.
ومنها: اتصال القلب بالخالق، وتعليق القلب بالله سبحانه.
ومنها: تعهد القلب عن الغفلة والنسيان، وسبب للسلامة من الوقوع في المآزق، وحصول المضائق، (اعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
وكذا منها: أنها سبب لمحو السيئات والخطايا ورفع الدرجات.
ومنها –وهو ختام مسكها-: أنها سبب لحسن الختام، رزقني الله وإياكم حسن الختام والوفاة على الإسلام، فقد أجرى الكريم عادته أن من عاش على شيء مات عليه، ففي صحيح السنة أن: (من مات على شيء بُعث عليه).
ثم اعلموا -يا عباد الله-، واسمعوا -يا رعاكم الله-: أن من داوم على عمل صالح ثم انقطع عنه بسبب مرض أو سفر أو نوم، كُتب له أجر ذلك العمل، فقد أخرج البخاري في صحيحه: عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا: (إذا مرض العبد أو سافر كُتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)، قال ابن حجر: هذا في حق من كان يعمل طاعة فمُنع منها، وكانت نيته لولا المانع أن يدوم عليها. وعن عائشة –رضي الله عنها-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه)، رواه النسائي.
وأخيرًا: فإنه لا يحسن بمن داوم على عمل صالح أن يتركه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله: لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل)، متفق عليه.
ثم اسألوا الله تعالى قبول أعمالكم، فإبراهيم وإسماعيل يبنيان أشرف بيت وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 127)، فالشأن في قبول العمل –أيها الأحبة-: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27)، فاللهَ اللهَ بسؤال الله قبول الأعمال وصلاحها، والاستقامة عليها، ومن دعاء الحسن البصري: اللهم: أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
فاستقيموا –بارك الله فيكم- على قراءتكم، وتلاوتكم، وصلاتكم، وتهجدكم، وقراءتكم، ولو كان شيئًا يسيرًا تسيرون به إلى ربكم.
فاللهَ اللهَ في الجد والاجتهاد، والمسارعة والمسابقة إلى رب العباد، فهنيئًا لمن داوم، وهنيئًا لمن عمل، وعند الصباح يحمد القوم السُّرى.
والله أعلم.
المرفقات

خطبة ماذا بعد رمضان؟ - للشيخ خالد بن علي أبا الخيل.doc

خطبة ماذا بعد رمضان؟ - للشيخ خالد بن علي أبا الخيل.doc

المشاهدات 1157 | التعليقات 0