ماذا بعد رمضان
د. منصور الصقعوب
1438/10/05 - 2017/06/29 02:46AM
الخطبة الأولى 6/10/1438هـ
الحمد لله السميع البصير، اللطيف الخبير، أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء رحمة وحلما، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الولي الحميد، الفعال لما يريد، الحليم الشكور، العزيز الغفور، قائم على كل نفس بما كسبت، يحصي على العباد أعمالهم، ثم يجزيهم بما كسبت أيديهم، ولا يظلم ربك أحدا، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فاتقوا الله:
طريق الجنة طويل, والعبد أوجده الله في الدنيا لينشغل بالعبادة عن كل شيء, يسر الله لعبده كل حاجاته, زروع وثمار, مآكل ومشارب, لباس وصحة, نعم تترى, وإحسان وإفضال, كي يعبد الله حتى يأتيه اليقين.
العمل ميدانه العمر, ليس شهر ولا زمن, بل المواسم تأتي لتدفع لا ليقف العبد بعدها
وإنما مثل مواسم الخير كدورة تدريبية تهيئ المرء بعدها للانطلاق, هل رأيت الموظف يُهيئ بالدورات, والرياضي يجهز بالمعسكرات, ليعودوا بعد ذلك للميدان, وأنت أيها المبارك, حماك ربك شهراً بعيداً عن المكدرات, الشياطين مغلولة, والنفوس من حولك معينة, فقويت نفسك, لتنطلق بعد ذلك في بقية عمرك
رحل رمضان وليس بنا اليوم أن نتحسر على شهر مضى فتلك سنة المولى لكن السؤال اليوم ماذا بقي لنا بعده؟
بالأمس المساجد عامرة بالمصلين, والبذل سخي للمساكين, وجل التفكير عما ينفع عند رب العالمين, فما هي الحال اليوم أيها الكرام؟
ما بال البعض بعدما كان مرغماً للشيطان بكثرة النوافل صار الشيطان ينازعه على ترك الواجبات
الأعين الدامعة والقلوب الخاشعة والألسن التالية والأيدي المنفقة أين هي الآن؟
نعم لن يكون رمضان كغيره, لكن الموفق من يدوم على الخير ولو قل
وتأمل في هدي سيد الخلق < كيف كانت عبادته, لن تجد عنده عبادات يعجز عنها الناس, بل إنه عتب على من خالفوا سنته في التعبد فشقوا على نفوسهم بقيام الليل كله, والصوم بلا فطر, والتعزب بلا تزوج, لم يكن يعنت أتباعه بعبادات مرهقة, وأعمال شاقة, لكنه يعتني بأمر نغفل عنه, الدوام والاستمرار, ولعمري فتلك السجية المطلوبة, والطلبة المرغوبة, كان عمله ديمة, أدوم العمل وإن قلّ
قال الحسن البصري رحمه الله: أبى قوم المداومة ، والله ما المؤمن بالذي يعمل الشهر والشهرين، أو العام أو العامين، لا والله ، ما جعل لعمل المؤمن أجل دون الموت
ولكي تدوم أيها المبارك؛ لا تشق على نفسك بعمل لا تقدر على الديمومة عليه, فالإكثار يورث التخلف والعثار, والنفس تحتاج لجهاد, وكم من امريء أقبل وأكثر يوماً, ثم ملّ وانقطع دهراً, وقد قيل: المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
ولكي تدوم حاسب النفس كل يوم على الفرائض, واستغل أوقات النشاط والإقبال, واستثمر فرصة العمر, واعلم أن الفتور يأتي كل أحد, لكنه لا ينبغي أن يجعلك تتنازل عن الواجبات, ولئن انقضى موسم رمضان، فبين يديكم موسم يتكرر في اليوم والليلة، خمس صلوات فرضها الله على عباده، وبين أيديكم موسم يتكرر كل أسبوع ألا وهو الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، ولئن انقضى صيام رمضان فإن باب الصيام لا يزال مشرعاً مرغباً في فضله وثوابه، فهناك الاثنين والخميس ، وهناك الأيام البيض من كل شهر ، وهناك ستٌ من شوال.
أيها المبارك: وروعة الإسلام تتجلى حين تعلم أن تقربك للمولى ليست بصلاة وصيام وعبادات بدنية فحسب, فتلك قربات عظيمة نعم, ولكن المرء يقرب من ربه بأوسع من ذلك
أخلاقك وتعاملك, حين تحسن التعامل, فتعفو عمن أساء وتحسن لمن احتاج, وتتواضع للناس, وتقضي حاجة المحتاج, وتزور الإخوان والأصحاب, كل ذلك تعبد وتقرب لرب الأرباب
ملاطفة اليتيم, والوقوف مع المحتاج المسكين, وسد حاجة الأرملة, وتصبير المصاب وتسلية المحزون, ومواساة المكروب, عبادات لله تقدر على فعلها في كل يوم
إلقاء الإسلام, وإسداء النصيحة لأهل الإسلام, واحتمال الأذى, والرفق والصبر والحياء, وكف الشر وبذل الخير, خِلال تقرب بها من المولى, وتكسب بها أجراً وثواباً
شفاعتك لإخوانك من أهل الحاجات, وأداء الأمانات, والتورع عن الشبهات, والتسمح في المعاملات, والسعي في رد الظلامات, والإصلاح بين أهل الخصومات, قربات ربما كانت أكثر ثواباً من بعض العبادات
وجماع الأمر أن ديننا دين علاقة مع الله ومع خلقه, وشريعة تعامل وإحسان مع الله ومع الإنسان, فليس المتعبد من يصلي ويصوم, وهو من أبعد الناس عن الإحسان مع الخليقة, وكذا فليس المتعبد من حسنت أخلاقه, وهو بعيد عن صلاته وطاعاته, والغ في شهواته, فالدين واسع, وطرق الخير متعددة, فليكن في كلٍ منها نصيب .
الخطبة الثانية:
إن السعادة التي كنا نشعر بها في رمضان لم تكن لأنه رمضان فحسب, فمن الناس من رمضان عنده شهر انقباض قلب, وإنما السعادة نحسها لأننا نقبل على الله في رمضان
وحين ترى من يشكو الألم والحزن حتى في أيام العيد, حين تسمع من يعاني الهم والانقباض في حياته فاعلم أن الله ما خلق الخلق ليشقيهم, وإنما العباد حين يَبعُدون عن طريق الجنة فإنهم لن يجدوا في الدرب إسعاد وانشراح, أبى الله إلا أن يجعل الأنس والرضا والسعادة والهناء في طريق طاعته, وأن يجعل البؤس والغم والشقاء والهم في طريق طاعة الشيطان فأي الطريقين تختار.
وقف إبراهيم بن أدهم عند نهرٍ ومعه صاحبه ومعه كسيرات خبز فغط بالنهر ثم أكل وقال لصاحبه: والله لو علم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف
يا ترى أي شيء هم فيه, إنها السعادة والراحة التي كم طوف البعض لنيلها, وكم بلغوا من شاهق, وتمتعوا بكل حسن ورائق لينالوها, وهي أقرب إليهم من كل ذلك.
قال ابن الجوزي معلقاً على كلام ابن أدهم: ولقد صدق ابن أدهم، فإن السلطان إن أكل شيئاً خاف أن يكون قد طرح له فيه سم، وإن نام خاف أن يغتال، وهو وراء المغاليق لا يمكنه أن يخرج لفرجة، فإن خرج كان منزعجاً من أقرب الخلق إليه، واللذة التي ينالها تبرد عنده، ولا تبقي له لذة مطعم ولا منكح, وكلما استظرف المطاعم أكثر منها ففسدت معدته
ثم قال: والله ما أعرف من عاش رفيع القدر بالغاً من اللذات ما لم يبلغ غيره إلا العلماء المخلصين، والعباد المحققين
بهذا يوجد الأنس فيا من رُمْتَه وطلبته اقترب من ربك, عش في رياض الطاعة, سجدة في الخلوات, أو دمعة في الظلمات, أو آية تتلى طلباً لرضا رب السماوات خير من لذائذ الدنيا وأنفع.
ذكر التلمساني أن الخليفة الناصر الذي كان يضرب به المثل في الارتقاء في الدنيا حتى ملك الأندلس خمسين سنة, لما مات وجد بخطه أن أيام السرور التي صفت له دون تكدير كانت أربعة عشر يوماً فقط, هذا من ملك الأندلس خمسين سنة, فما بالك بمن دونه, كل هذا لتعلم أنه لا نعيم كامل ولا أُنس حقّ, إلا في العيش مع الطاعة.
فاللهم أسعدنا بطاعتك, واملأ جوانحنا رضا وأنساً بك
الحمد لله السميع البصير، اللطيف الخبير، أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء رحمة وحلما، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الولي الحميد، الفعال لما يريد، الحليم الشكور، العزيز الغفور، قائم على كل نفس بما كسبت، يحصي على العباد أعمالهم، ثم يجزيهم بما كسبت أيديهم، ولا يظلم ربك أحدا، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فاتقوا الله:
طريق الجنة طويل, والعبد أوجده الله في الدنيا لينشغل بالعبادة عن كل شيء, يسر الله لعبده كل حاجاته, زروع وثمار, مآكل ومشارب, لباس وصحة, نعم تترى, وإحسان وإفضال, كي يعبد الله حتى يأتيه اليقين.
العمل ميدانه العمر, ليس شهر ولا زمن, بل المواسم تأتي لتدفع لا ليقف العبد بعدها
وإنما مثل مواسم الخير كدورة تدريبية تهيئ المرء بعدها للانطلاق, هل رأيت الموظف يُهيئ بالدورات, والرياضي يجهز بالمعسكرات, ليعودوا بعد ذلك للميدان, وأنت أيها المبارك, حماك ربك شهراً بعيداً عن المكدرات, الشياطين مغلولة, والنفوس من حولك معينة, فقويت نفسك, لتنطلق بعد ذلك في بقية عمرك
رحل رمضان وليس بنا اليوم أن نتحسر على شهر مضى فتلك سنة المولى لكن السؤال اليوم ماذا بقي لنا بعده؟
بالأمس المساجد عامرة بالمصلين, والبذل سخي للمساكين, وجل التفكير عما ينفع عند رب العالمين, فما هي الحال اليوم أيها الكرام؟
ما بال البعض بعدما كان مرغماً للشيطان بكثرة النوافل صار الشيطان ينازعه على ترك الواجبات
الأعين الدامعة والقلوب الخاشعة والألسن التالية والأيدي المنفقة أين هي الآن؟
نعم لن يكون رمضان كغيره, لكن الموفق من يدوم على الخير ولو قل
وتأمل في هدي سيد الخلق < كيف كانت عبادته, لن تجد عنده عبادات يعجز عنها الناس, بل إنه عتب على من خالفوا سنته في التعبد فشقوا على نفوسهم بقيام الليل كله, والصوم بلا فطر, والتعزب بلا تزوج, لم يكن يعنت أتباعه بعبادات مرهقة, وأعمال شاقة, لكنه يعتني بأمر نغفل عنه, الدوام والاستمرار, ولعمري فتلك السجية المطلوبة, والطلبة المرغوبة, كان عمله ديمة, أدوم العمل وإن قلّ
قال الحسن البصري رحمه الله: أبى قوم المداومة ، والله ما المؤمن بالذي يعمل الشهر والشهرين، أو العام أو العامين، لا والله ، ما جعل لعمل المؤمن أجل دون الموت
ولكي تدوم أيها المبارك؛ لا تشق على نفسك بعمل لا تقدر على الديمومة عليه, فالإكثار يورث التخلف والعثار, والنفس تحتاج لجهاد, وكم من امريء أقبل وأكثر يوماً, ثم ملّ وانقطع دهراً, وقد قيل: المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
ولكي تدوم حاسب النفس كل يوم على الفرائض, واستغل أوقات النشاط والإقبال, واستثمر فرصة العمر, واعلم أن الفتور يأتي كل أحد, لكنه لا ينبغي أن يجعلك تتنازل عن الواجبات, ولئن انقضى موسم رمضان، فبين يديكم موسم يتكرر في اليوم والليلة، خمس صلوات فرضها الله على عباده، وبين أيديكم موسم يتكرر كل أسبوع ألا وهو الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، ولئن انقضى صيام رمضان فإن باب الصيام لا يزال مشرعاً مرغباً في فضله وثوابه، فهناك الاثنين والخميس ، وهناك الأيام البيض من كل شهر ، وهناك ستٌ من شوال.
أيها المبارك: وروعة الإسلام تتجلى حين تعلم أن تقربك للمولى ليست بصلاة وصيام وعبادات بدنية فحسب, فتلك قربات عظيمة نعم, ولكن المرء يقرب من ربه بأوسع من ذلك
أخلاقك وتعاملك, حين تحسن التعامل, فتعفو عمن أساء وتحسن لمن احتاج, وتتواضع للناس, وتقضي حاجة المحتاج, وتزور الإخوان والأصحاب, كل ذلك تعبد وتقرب لرب الأرباب
ملاطفة اليتيم, والوقوف مع المحتاج المسكين, وسد حاجة الأرملة, وتصبير المصاب وتسلية المحزون, ومواساة المكروب, عبادات لله تقدر على فعلها في كل يوم
إلقاء الإسلام, وإسداء النصيحة لأهل الإسلام, واحتمال الأذى, والرفق والصبر والحياء, وكف الشر وبذل الخير, خِلال تقرب بها من المولى, وتكسب بها أجراً وثواباً
شفاعتك لإخوانك من أهل الحاجات, وأداء الأمانات, والتورع عن الشبهات, والتسمح في المعاملات, والسعي في رد الظلامات, والإصلاح بين أهل الخصومات, قربات ربما كانت أكثر ثواباً من بعض العبادات
وجماع الأمر أن ديننا دين علاقة مع الله ومع خلقه, وشريعة تعامل وإحسان مع الله ومع الإنسان, فليس المتعبد من يصلي ويصوم, وهو من أبعد الناس عن الإحسان مع الخليقة, وكذا فليس المتعبد من حسنت أخلاقه, وهو بعيد عن صلاته وطاعاته, والغ في شهواته, فالدين واسع, وطرق الخير متعددة, فليكن في كلٍ منها نصيب .
الخطبة الثانية:
إن السعادة التي كنا نشعر بها في رمضان لم تكن لأنه رمضان فحسب, فمن الناس من رمضان عنده شهر انقباض قلب, وإنما السعادة نحسها لأننا نقبل على الله في رمضان
وحين ترى من يشكو الألم والحزن حتى في أيام العيد, حين تسمع من يعاني الهم والانقباض في حياته فاعلم أن الله ما خلق الخلق ليشقيهم, وإنما العباد حين يَبعُدون عن طريق الجنة فإنهم لن يجدوا في الدرب إسعاد وانشراح, أبى الله إلا أن يجعل الأنس والرضا والسعادة والهناء في طريق طاعته, وأن يجعل البؤس والغم والشقاء والهم في طريق طاعة الشيطان فأي الطريقين تختار.
وقف إبراهيم بن أدهم عند نهرٍ ومعه صاحبه ومعه كسيرات خبز فغط بالنهر ثم أكل وقال لصاحبه: والله لو علم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف
يا ترى أي شيء هم فيه, إنها السعادة والراحة التي كم طوف البعض لنيلها, وكم بلغوا من شاهق, وتمتعوا بكل حسن ورائق لينالوها, وهي أقرب إليهم من كل ذلك.
قال ابن الجوزي معلقاً على كلام ابن أدهم: ولقد صدق ابن أدهم، فإن السلطان إن أكل شيئاً خاف أن يكون قد طرح له فيه سم، وإن نام خاف أن يغتال، وهو وراء المغاليق لا يمكنه أن يخرج لفرجة، فإن خرج كان منزعجاً من أقرب الخلق إليه، واللذة التي ينالها تبرد عنده، ولا تبقي له لذة مطعم ولا منكح, وكلما استظرف المطاعم أكثر منها ففسدت معدته
ثم قال: والله ما أعرف من عاش رفيع القدر بالغاً من اللذات ما لم يبلغ غيره إلا العلماء المخلصين، والعباد المحققين
بهذا يوجد الأنس فيا من رُمْتَه وطلبته اقترب من ربك, عش في رياض الطاعة, سجدة في الخلوات, أو دمعة في الظلمات, أو آية تتلى طلباً لرضا رب السماوات خير من لذائذ الدنيا وأنفع.
ذكر التلمساني أن الخليفة الناصر الذي كان يضرب به المثل في الارتقاء في الدنيا حتى ملك الأندلس خمسين سنة, لما مات وجد بخطه أن أيام السرور التي صفت له دون تكدير كانت أربعة عشر يوماً فقط, هذا من ملك الأندلس خمسين سنة, فما بالك بمن دونه, كل هذا لتعلم أنه لا نعيم كامل ولا أُنس حقّ, إلا في العيش مع الطاعة.
فاللهم أسعدنا بطاعتك, واملأ جوانحنا رضا وأنساً بك
ماجد الجميلي
جزاك الله خيرا
تعديل التعليق